موقع تلفزيون سوريا/ ابراهيم الجبين
أبرز مشكلات المعارضة السورية الموضوعية كانت ولم تزل الامتناع عن التعامل الواعي مع المتحولات المحيطة بها، ولذلك تبدو في حالة مفاجأة دائمة أمام كل موقف جديد، وكأنها لم تكن تقرأ في مقدّماته ولا سمعت بأن كل شيء قابل للتغيّر بفعل الزمن وتراكم الديناميات المؤثرة.غير أن مثل هذا التقييم قد لا يصح في حالتي هيئة تحرير الشام وحزب العمال الكردستاني، فقبل أحد عشر عاماً، كانت سوريا كلها تحت استبداد نظام الأسد، مترابطة بشكل عضوي ومتزامن مع أرض تحتلها إسرائيل منذ العام 1967 في الجولان. الآن ومنذ هزيمة داعش على يد التحالف الدولي بات لدينا العديد من المناطق الخاضعة لاحتلال أجنبي؛ ثلاث محافظات فيها النفط والغاز والمياه والموارد الزراعية التي تديرها بقوة السلاح قوى بقيادة ميليشيا حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى إدلب التي تديرها بقوة السلاح أيضاً جبهة النصرة التي سمّت نفسها “هيئة تحرير الشام”، بينما تحوّلت سيطرة الأسد إلى احتلال روسي إيراني في وضح النهار.وجميع الاحتلالات في تلك المناطق قائمة على التفاهمات الدولية ورعاية القوى الفاعلة في الملف السوري، من الإدارة الأميركية إلى الكرملين في موسكو وصولاً إلى طهران.”تحرير الشام” التي تحاول تقديم ذاتها كياناً مرناً قابلاً للتحوّل والتطوّر وفقاً للمستجدات السياسية، تبقيها أيضاً تفاهمات لا يمكن أن يقال إنها هشّة بين لاعبين آخرين يرون في إبقائها ورقة يمكن استعمالها ذات يوم فرصة جيدة للمقايضة مع إرهاب آخر موجود على الأرض السورية.
المزيد من طرد الجهاديين الأجانب لا يجعل من هيئة تحرير الشام ”محلية“ أكثر منها ”تنظيماً جهادياً عابراً للجنسيات“، كما حصل مؤخراً مع مجموعة ”أجناد القوقاز” الشيشانية التي تنتشر في مناطق في محافظة إدلب وفي ريف اللاذقية والتي بدأت بمغادرة سوريا، بعد سنوات من وجودها في المنطقة بالتنسيق مع الجولاني، وبعد مشاركتها في العمليات العسكرية ضد قوات النظام والميليشيات الإيرانية.وإعلان “أجناد القوقاز” عن توجههم إلى أوكرانيا، يزيد من قوة الاتهام الموجه للنصرة التي هي الجوهر الإيديولوجي لهيئة تحرير الشام، بأنها ينبوع للجهاديين الذين يتم تصنيفهم كإرهابيين لدى الغرب لا سيما الولايات المتحدة.
ويقول أبو عبد الرحمن الشيشاني القيادي في “أجناد القوقاز” لموقع المونيتور “غادر الكثير منا إلى أوكرانيا، ولا سيما الأشخاص الذين لديهم سجل حافل من المشكلات مع قادة هيئة تحرير الشام، حيث تعرض هؤلاء مؤخراً لمضايقات شديدة من جانب قيادة الهيئة”. ويضيف “خلقت الحرب الروسية الأوكرانية فرصة لنا لمغادرة إدلب وفرصة لهيئة تحرير الشام للتخلص منا”.
أما عبد الحكيم الشيشاني قائد “أجناد القوقاز” فقد غادر إدلب بالفعل إلى أوكرانيا بعد التنسيق مع مجموعات عسكرية من كتيبة “الشيخ منصور الشيشانية” التي تقاتل الروس إلى جانب القوات الأوكرانية.لكن ما الذي يحاول الجولاني قوله بطرد هؤلاء المقاتلين؟ نحن نتحوّل بالتدريج إلى فصيل سوري؟ ولكن الأرض السورية مليئة بالفصائل السورية التي لم تقدم ولم تؤخر في معادلات تحكمها التفاهمات الدولية فما الذي سوف يشكله الجولاني من ثقل حين يصبح رقماً إضافياً يضاف إلى الفصائل السورية؟التحولات لا تكون بتغيير الجلد، بل بتغيير التوجّه السياسي والإيديولوجي، وهذه مهمة لن تكون سهلة، إن لم تكن مستحيلة بعد سنوات من التمكين صعدت فيها أفكارٌ حتى باتت قواعد ثابتة في المجتمع الذي تديره هيئة تحرير الشام، وبالتالي سيكون تغييرها نوعاً من اجتثاث حاد يستهدف الناس لا السلطات المهيمنة على المنطقة.
هذا إن كنا نتفق على ضرورة اقتلاع الأفكار والمعتقدات بالقوة، في زمن يرفض فيه أكثر من نصف العالم النموذج الأخلاقي الغربي في الحياة، مطالباً بترك الشعوب تختار لنفسها ما تراه مناسباً لتاريخها وهويتها الثقافية. وسيكون ثمن أي تغيير قادمٍ في هذه المنطقة هو رأس هيئة تحرير الشام لا أقل.
جحيم الأسد وجحيم قسد
اذهب الآن إلى شرق سوريا. كانت المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية تعيش وفقاً لعقد اجتماعي مجتمعي مضمر، تتداخل مكوناتها وتتفارق حين ترى ذلك مناسباً لتوازناتها، والجميع كان يكابد سلطة الاستبداد القادمة من المركز، حيث قرّر الأسد الأب ومن بعده ابنه إحالة حياة سكان المنطقة الشرقية، بعربها وسريانها وأكرادها وتركمانها ومسلميها ومسيحييها ويزيدييها، إلى جحيم، باستعمال كافة السبل التي تبدأ بالتجهيل المبرمج وإفقار الحياة والانتقام الدائم من أكثر مناطق سوريا ثراءً.جلب الأجنبي إلى المنطقة الشرقية معه البؤس، فالنفط كان نقمة على السكان، يدفعون ثمنه تصحّراً وتأثيراً مناخياً مدّمراً للبيئة، بينما رفضت حكومة الأسد ما كانت تقدّمه شركات النفط من مشاريع موازية لتطوير المنطقة، متذرعة بأنها هي من يجب أن ينفذها، ولن يتوقف ذلك على افتتاح الحدائق والمساحات الخضراء رئات المدن والأرياف، بل أيضاً على تعويض التأثير المناخي لحقول النفط بالتشجير في مساحات واسعة، وصولاً إلى الحق بالتعليم العالي وافتتاح مراكز التوعية والاختصاص في صناعة النفط ذاتها. لقد كان تطوير تلك المنطقة تحدياً بالنسبة للنظام السوري، وكان عليه أن ينتصر على كل تلك المطالب والمشاريع بسحق المنطقة أكثر وأكثر.أما الحريّات فكانت أبوابها مغلقة في وجه الجميع، باستثناء الأكراد والصوفية والبنية العشائرية، وفي الوقت الذي لم يكن يسمح فيه بتأسيس أحزاب عربية جديدة، غير البعث وأحزاب الجبهة المتحالفة معه في دمشق، كانت تفرّخ أحزابٌ كردية كل ليلة، تتلقى دعماً من البرزانيين والطلبانيين في العراق، وبالطبع من حزب رعاه بعناية حافظ الأسد، ليكون ورقته في خاصرة تركيا، “حزب العمال الكردستاني”، مطلقاً له العنان في الشمال السوري كي يجنّد المقاتلين والمقاتلات في حروبه مع تركيا وفي معسكراته في شمال العراق ومواقع تدريبه في سهل البقاع,
وحين تسببت التفاهمات الدولية في دفع هذا الحزب داخل الحدود السورية، لحماية مصالح الأسد وتقديم الخدمات الأمنية والاقتصادية له، بات جاهزاً لخلق قضية في سوريا، مستجلباً معه كافة الإشكالات التي عانى منها أكراد العالم، وبدلاً من تطبيقه لشعار النضال من أجل حقوق الأكراد كما زعم طويلاً، أصبح مشروعه هو صب الزيت على النار واتهام غالبية سكان المنطقة بالانتماء لداعش وفكرها وإقامة معسكرات اعتقال “نازية” لتجميع السكان بعد تجريف قراهم وتهجيرهم، وفي الوقت ذاته وبالتوازي مع مشروعه العنفي، كان يفبرك جبهة تقدمية من نوع آخر مثل جبهة الأسد، لكنها هذه المرة تقوم على خلطة عرقية تتخذ من الديمقراطية قناعاً لها، فكانت ”مسد“ و“قسد“، ويا للدلالة التي تتركها اختصارات الأسماء تلك في الذهن العربي، في إرهاب يبدأ من الاسم ولا ينتهي عند الممارسات العنصرية.في بداية الثورة السورية كان يمكن إقناع أي سوري، سواء كان من أبناء المنطقة الشرقية أو غيرها، بالموافقة بحماس على كل ما يطالب به الأكراد السوريون من حقوق ثقافية وسياسية وبرلمانية وسواها، غير أن ما خلّفه احتلال حزب العمال الكردستاني للمحافظات السورية الثلاث؛ الرقة ودير الزور والحسكة، عاد بتلك الحقوق مراحل إلى الوراء، وبات الإقناع وحده لا يكفي، فتحوّلت تلك الحقوق إلى نوع من المنازعات لن تلبث أن تتفجّر بين العرب والأكراد، وسبب ذلك ومحرّكه الأساسي المستمر هو حزب العمال الكردستاني نفسه.
لم تجد نفعاً مطالبات المعارضة السورية لـ “مسد” و”قسد” بالانفكاك عن حزب العمال الكردستاني، رغم إعلانهما عدم وجود علاقة بينهما وبين الميليشيا المصنفة إرهابية في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فكان إبقاء الحال على ما هي عليه جزءاً من التفاهمات الدولية أيضاً، لإذكاء التحوّلات التي تجري على الأرض، فهل تحققت بالفعل تلك التحولات؟
لم تتحوّل المنطقة إلى منطقة كردية، فهي أساساً لم تكن كذلك، ولا علاقة لها بكردستان القديمة، مهما قال بعض الكرد زوراً، ومهما لفقوا “غرب كردستان” أو شرقها، ولم يتحول العرب في تلك المنطقة إلى المزيد من الهيام بالحقوق الكردية، نتيجة الروح العنصرية التي ينشرها حزب العمال الكردستاني في مناخ من الكراهية ينطلق من مناهج دراسية حول تطبيقها على أطفال المدارس أراد بها إهانة هوية العرب وحتى الدين الإسلامي والحط من قيمه ورموزه.
كما لن يتحول حزب العمال الكردستاني إلى حزب سوري، حتى لو استعمل المزيد من الأوراق المحروقة من الشخصيات السورية التي تدعي أنها معارضة للنظام، مع علمها أن هذا الحزب الأجنبي ممثلاً بقيادة “مسد” و”قسد” يعلن كل يوم على لسان قادته أنه على تواصل مع الأسد ويناشده الموافقة على ضم قواته إلى جيشه.وكما في غرب سوريا، حيث لا يمكن فرض التغيير بالقوة على المجتمع، لن يكون فرض التغيير على عرب المنطقة الشرقية الذين يمثلون الغالبية السكانية العظمى ممكناً إلا باستعمال القوة.
والقوة عامل متحوّل متأثر بالتفاهمات الدولية بدوره، ويمكن ببساطة لأي حديث عن تطبيع محتمل ما بين تركيا ونظام الأسد أن يثير رعب “مسد” و”قسد” كما حدث خلال الأسابيع الماضية، فكيف إذا تمّ هذا التطبيع وكان ثمنه رأس حزب العمال الكردستاني؟حتى هذه اللحظة، التحوّلان المرصودان لدى هيئة تحرير الشام وحزب العمال الكردستاني لا يرقيان إلى مستوى يتيح اعتبار الكيانين “مشروعين وطنيين سوريين”، وكافة المحاولات التي يسعى إليها كلاهما لشرعنة و“سَوْرَنة“ وجودهما هي محاولات مصيرها الفشل، بفعل الإيديولوجيا غير القابلة للتطور التي ينطويان عليها.