زينب مصري – نينار خليفة
قبل عام 2011، لم يكن بإمكان همرين أسعد وزوجها، المنحدرَين من مدينة القامشلي، أن يتملكا أي عقار، حتى ممتلكات عائلتيهما كانت مُسجلة بأسماء مواطنين آخرين، لأنهم من الكرد السوريين المحرومين من الجنسية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، وكانوا يُعدون من “أجانب محافظة الحسكة”.ومع صدور المرسوم رقم “49” لعام 2011، حصلت همرين وعائلتها وكذلك عائلة زوجها على الجنسية السورية، واستطاعت نقل ملكية منزلها ومنزل زوجها إليها، لكنها الآن لا تستطيع نقل ملكيته لابنها، لأن أبناءها الثلاثة مكتومو القيد، ولا يحق لهم التملك. ومن وجهة نظر القانون، فأبناء همرين الثلاثة غير موجودين، وكذلك أطفال سوريون كثر صُنفوا في خانة مكتومي القيد لأسباب مختلفة نشأت كواحدة من نتائج نزاع ممتد على مدار عشر سنوات في سوريا.
ولا تقتصر حالات مكتومي القيد على الكرد السوريين ممن لم يشملهم إحصاء عام 1962، إذ تتنوع الأسباب التي عزف فيها آباء أطفال مولودين في مناطق سيطرة المعارضة السورية، وفي بلدان اللجوء حول العالم، عن تسجيلهم في سجلات الأحوال المدنية التابعة للنظام السوري، منها أسباب سياسية وأمنية وأخرى اقتصادية أو اجتماعية.
لكن الأثر القانوني المباشر لمكتوم القيد هو أنه غير موجود وغير معترف به قانونًا، وبالتالي ليس له أي حقوق يمكن أن يتمتع بها الشخص المعترَف به في القانون، ومنها حقوقه في التملك والميراث
.عنب بلدي بحثت في هذا الملف مع مجموعة من المحامين السوريين آليات الحفاظ على حق التملك والميراث لمكتومي القيد من السوريين، في ظل اختلاف القوانين الناظمة لحياة المدنيين المعتمدة في المدن السورية، بسبب اختلاف الجهات المسيطرة عليها، وناقشت وجهة نظر القوانين السورية في حق مكتومي القيد بالتملك.
كيف تعاملت القوانين السورية مع حق مكتوم القيد في التملك؟
تزوجت همرين (44 عامًا) عام 1995، كان عمرها حينها 18 عامًا، وبعد حصولها مع زوجها على الجنسية السورية عام 2011، لم يتمكنا من تثبيت زواجهما، لأن تاريخ ميلادها في بطاقة العائلة الخاصة بوالدها كان قد سُجل في عام 1986، أي بعد تسعة أعوام على تاريخ الولادة الحقيقي، بحسب ما روته لعنب بلدي.ولا تدري همرين ما إذا كان الخطأ في تسجيل تاريخ ميلادها من مختار الحي أو من موظف السجل المدني، ولم ترضَ المحاكم الشرعية تثبيت زواجها، إذ “لا يعقل أن أكون قد تزوجت بعمر تسع سنوات، فابني البكر ولد في عام 1996″، بحسب ما قالته.وأضافت همرين أنها حاولت تعديل تاريخ ميلادها في السجل المدني، لكن ذلك أيضًا لم ينفع، إذ قوبلت جهود زوجها وجهود عائلتها بالرفض، وبذلك تكون حصلت مع زوجها على الجنسية السورية، لكن أبناءها الثلاثة حُرموا منها ومن حقهم في ملكيات والديهم.
مؤخرًا، حاولت همرين البحث عن طريقة لتثبيت زواجها وتسجيل الأبناء، لكن السجل المدني والمحامي أخبراها أن عليها رفع دعوى قضائية ضد والدها، واعتباره السبب في الخطأ الوارد بتاريخ ميلادها.وقد يطول البت في القضية، لأن والدها مسافر منذ سنوات إلى أوروبا بقصد اللجوء، وإذا رفعت دعوى ضده، سيُعتقل في حال عودته، ولا تدري ماذا تفعل، أو ما السبيل لتعويض أولادها، لا سيما أن أكبرهم (25 عامًا) قد تزوج ولديه ولد أيضًا، بحسب ما ختمت به حديثها.
في أثناء إعداد هذه المادة، صدر في 25 من آذار 2021 قانون جديد للأحوال المدنية يحمل الرقم “13”، وهو يتضمن نفس المبادئ القانونية التي استندت إليها المادة والتي كانت الموجودة بالقانون السابق
.مكتومو القيد (تعديل عنب بلدي)المرسوم التشريعي رقم “93” الصادر في 23 من آب عام 1962قضى المرسوم الجمهوري التشريعي رقم “93” لعام 1962 بإجراء إحصاء حُصر في محافظة الحسكة الواقعة شمال شرقي البلاد، التي تعدّ المركز الرئيس للكرد في سوريا، دونًا عن بقية المحافظات السورية.ونص المرسوم في مادته الأولى على أن “يجري إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يُحدّد تاريخه بقرار من وزير التخطيط بناء على اقتراح وزير الداخلية”.
وعندما حصل الإحصاء، كان على الكُرد أن يثبتوا أنهم يعيشون في سوريا منذ عام 1945 على الأقل، وإلا فقدوا جنسيتهم السورية، وأجرت الحكومة الإحصاء في يوم واحد، ولم تمنح ما يكفي من وقت للسكان المحليين لإثبات انتمائهم.كما لم تنشر السلطات معلومات كافية عن العملية والأهداف والإجراءات الناظمة لها، بحسب تقرير لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” صادر في 4 من تشرين الأول 2019، بعنوان “سوريا: عشر حقائق حول إحصاء الحسكة الاستثنائي في العام 1962”.وذكر التقرير أنه بعد اندلاع الاحتجاجات السلمية في سوريا عام 2011، والمطالبة بإجراء إصلاحات شاملة في البلاد، صدر المرسوم التشريعي رقم “49” بتاريخ 7 من نيسان 2011، القاضي بمنح الجنسية العربية السورية للمسجلين في سجلات “أجانب الحسكة”.
من هو مكتوم القيد؟
يُعد مكتوم القيد، حسب قانون الأحوال المدنية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم “26” لعام 2007، “من كان والده أو والداه مسجلين في القيود المدنية السورية أو ينتمي بأصله للجمهورية العربية السورية، ولم يُسجل ضمن المدة المحددة للتسجيل في قيود السجل المدني”، أي خلال 30 يومًا من حدوث الواقعة.محامٍ مطلع مقيم في دمشق قال لعنب بلدي، إن من أهم الحقوق التي يُحرم منها مكتوم القيد حقه في الملكية التي يمكن أن تؤول إليه عن طريق الإرث، لأن معاملات حصر الإرث وانتقال الملكية تعتمد في الأساس على سجلات الأحوال المدنية، وبالتالي فإن مكتوم القيد غير المسجل في هذه السجلات لن يظهر اسمه في هذه المعاملات، الأمر الذي يحرمه بشكل طبيعي من حقه في هذه الملكية.
ولفت المحامي إلى أن مشكلة مكتوم القيد أكثر ما تظهر عندما تكون ناجمة عن ولادات نتيجة زيجات جرت خارج سوريا ولم تسجل في القيود المدنية، لأن المادة “28” من قانون الأحوال المدنية تشترط تسجيل الزواج قبل واقعة الولادة.إذ ترى اللجنة القانونية المشكّلة بالأمر الإداري رقم “5380” بتاريخ 17 من حزيران 2007، أن أحكام الزواج الصادرة عن الدول الأجنبية سواء صدرت عن دائرة مدنية أو مركز إسلامي، لا تُنفّذ ولا بد من اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في سوريا لتثبيت الزواج، المتمثلة بداية بإقامة دعوى في المحكمة الشرعية أو الروحية، ومن ثم تسجيل واقعات الولادة الناجمة عن هذا الزواج.
وقد أدى تعذر هذا الأمر بالنسبة لكثير من المقيمين خارج سوريا، سواء لأسباب مادية أو غير ذلك، إلى تفاقم مشكلة مكتومي القيد وحرمانهم من أي حقوق في الملكية ستؤول إليهم مستقبلًا، لا سيما أن تسجيل واقعات الزواج والولادات في سجلات الدول التي جرت على أرضها أو المقيمين فيها، والتي يلجأ إليها الناس هناك، لا يعني إمكانية تسجيلها في القيود المدنية السورية بشكل تلقائي دون إجراء المعاملات المعقدة المنصوص عليها في القوانين السورية.
ويرى المحامي أن هذه المشكلة هي إحدى أكبر المشكلات التي يعاني منها السوريون المقيمون خارج البلاد، ولا يمكن إيجاد حل عملي لها إلا بوجود إرادة من سلطات النظام السوري لتسهيل تسجيل واقعات الأحوال المدنية التي تحصل للسوريين في تلك البلاد، عبر السفارات والقنصليات السورية في الخارج.القاضي السوري رياض علي، يرى من جانبه أن سنوات الحرب السورية أسفرت عن ظهور شريحة كبيرة من السوريين المكتومي القيد، إلا أنه يرجع ظهور مسألة مكتومي القيد في سوريا بشكل واضح وجلي إلى الفترة التي تلت الإحصاء الاستثنائي الجائر الذي تم في محافظة الحسكة عام 1962.
وبيّن أن هذا الإحصاء كان لمدة يوم واحد، وكل من تمكن من تسجيل اسمه وعائلته في دوائر السجل المدني واستكمال أوراقه الثبوتية في ذلك اليوم بقي متمتعًا بالجنسية السورية، أما من تمكن من تسجيل اسمه ولم يستكمل وثائقه فصُنف في خانة “أجانب الحسكة”، التي تعني أنه مقيّد في السجلات لكنه مجرد من الجنسية السورية.ومن لم يسجل صُنف في فئة “مكتومي القيد”، أي لا يتمتع بالجنسية السورية وغير مقيّد أصلًا في السجلات، وعليه أن يحمل شهادة تعريف صادرة عن مختار المحلة التي يسكن فيها، تتضمن اسمه وبياناته الشخصية، وهي لا تخوّله التمتع بأي حق من الحقوق، فحتى أبسطها كحق التنقل بين محافظة وأخرى، أو النوم في فندق داخل سوريا، كان يحتاج إلى موافقة أمنية.ولفت علي إلى أن الأغلبية الساحقة من الذين قُيّدوا كـ”أجانب” أو مكتومي قيد هم من المواطنين الكرد السوريين.وعلى الرغم من صدور المرسوم رقم “49” لعام 2011، الذي قضى بمنح الجنسية لـ”أجانب محافظة الحسكة”، فإن هذا المرسوم لم يحل معضلة فئة مكتومي القيد كونه لم يشملهم، وبالتالي بقي هؤلاء دون جنسية حتى وقتنا الحالي.
وأضاف علي أن السنوات العشر الأخيرة حملت معها ظهور شريحة كبيرة من مكتومي القيد في سوريا، خاصة مع خروج مناطق بأكملها عن سيطرة النظام السوري.إذ تعامل النظام مع السوريين من منطلق المعارضة والموالاة، وعمد إلى حرمان كل المناطق التي خرجت عن قبضته من جميع خدمات الحكومة، ومنها خدمات السجل المدني والمحاكم وغيرها، وهو ما يعني أن عددًا كبيرًا من الأطفال الذين ولدوا خلال فترة الحرب في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ولم يتمكن آباؤهم من تسجيلهم في السجلات الرسمية السورية، أصبحوا مكتومي القيد.ولفت علي إلى أن كثيرًا من الأهالي كانوا غير قادرين على التوجه إلى مناطق النظام لتسجيل أطفالهم، خوفًا من الملاحقة الأمنية والاعتقال، خاصة أن النظام السوري اعتبر كل من يعيش في المناطق الخارجة عن سيطرته من قبيل الحاضنة الشعبية “للمسلحين الإرهابيين”، وبالتالي فهم مطلوبون لأجهزته الأمنية.وأوضح علي أن مكتوم القيد، وكونه لا يتمتع بالجنسية السورية وغير مقيّد في السجلات المدنية، موجود من الناحية المادية، لكنه غير موجود من الناحية القانونية، وبالتالي محروم من جميع الحقوق ومنها حق التملك، مشيرًا إلى أن مكتومي القيد في محافظة الحسكة، ومنذ أن اعتُبروا كذلك عام 1962، ليس بمقدورهم تسجيل ممتلكاتهم بأسمائهم، ولذلك يلجؤون إلى تسجيلها بأسماء أقاربهم أو أصدقائهم الذين هم محل ثقتهم.