لماذا نغسل وجوهنا كل صباح، ولا نغسل نفوسنا كل مساء، حين يمكن أن نؤوب إلى ذواتنا ونثوب إليها، ولو لمامًا؟ هل لأن الواحد/ة منا مظهرٌ بلا جوهر، أو شبحٌ بلا روح، ليس لديه ما يثوب إليه، على شاكلة “الرجال الجوف”، في قصيدة ت. س، إليوت، والنساء الجوفاوات كذلك؟ هل لأننا، من ثم، “هويات بلا ذوات”، بتعبير فتحي المسكيني، أم لأن كلًا منا غارق في صورته المرآتية، بتعبير مصطفى حجازي، فلا يستطيع أن يرى ذاته في الآخر والأخرى، وهما أساس كينونته الإنسانية؟ ربما لأننا لا نغسل نفوسنا كل مساء، ولا نثوب إلى ذواتنا، ولا نتواصل مع أنفسنا – ضمائرنا، ولا ننقِّي سرائرنا، ولا نسائلها، ولا نفحص معاييرنا المعرفية والأخلاقية، عند اختلاف الظروف وتغير الشروط، ولا نستعمل عقولنا استعمالًا عموميًا، لشدة الأنانية والولع بالخصوصية، ولأننا جميعًا هويات بلا ذوات، ولا سيما “العارفين والعارفات” منا، و”أولي الأمر والنهي” و”أهل الحل والعقد”، ممن يوصفون بالنخبة، وربما لأسباب أخرى كثيرة، يأتي النقد متأخرًا جدًا، إذا أتى، وقد لا يأتي، والله غالب على أمره.لعل ما تقدم يحيل على بعضٍ من شروط إمكان النقد، والنقد الذاتي، (بالمعنى الحديث)، ولو بالسلب، ونظنها شروطًا مهمة، لتعلقها باستقلال الوجدان وحرية الضمير، بخلاف النقد السائد، في ثقافتنا، وتقاليدنا الثقافية والسياسية “الحديثة”، والمستقر في أذهاننا، ودواخلنا وبواطننا (جمع باطن ودخيلة، بدلًا من ضمائرنا)، وهو هجوم ودفاع، غايته تبرئة الذات وإدانة الآخر، أو الحفاظ على نقاء “الملة” أو “السنة” أو الطائفة أو “الجماعة” (أو الحزب) وصونها والذود عن حياضها، والرد على المشركين والزنادقة والمنافقين والمتشككين والمشككين من أقرباء وأقربين وأباعد وأبعدين، باستثناء بعضٍ قليلٍ من النقد الأدبي والفني، وبعضٍ أقلَّ من نقد الأفكار. والنقد الذاتي الذي نتقنه خير إتقان هو من قبيل الاستغفار والتوبة أو تجديد الولاء، وتبكيت الذات وإهانتها، لتعظيم من نتوب إليه، أو ما نتوب إليه.ليس من نقد ممكن من دون استقلال الوجدان، وحرية الضمير، لا بالمعنى الشائع لـ “حرية الضمير”، التي تحيل على التسامح، واحترام حقوق الذين نختلف عنهم والذين نختلف معهم، واحترام حرياتهم، والحرص على حيواتهم ومصالحهم، فقط، بل بمعنى تحطيم الأصنام والأيقونات والثوابت والقيود المقدسة، والنفي الجدلي أو النفي الخلاق، الذي يمكِّن الذات المفكرة (لا العارفة) من رؤية ما خلف المرئي، ومخض الوقائع أو خضِّها، واستشفاف ممكناتها. النقد الذاتي، الذي تحاوله هذه المقالة، هو نقد الوعي الذي جعل المعارضة السورية، غير الإسلامية[1] لنظام البعث، منذ آذار/ مارس 1963، لا ترى واقع الاستقطاب الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي، الذي حكم الحياة السورية العامة، منذ ذلك الحين إلى يومنا، ولا تدرك عوامله، ومفاعيله، وعقابيله. فلم تمارس المعارضة، في أفق التغيير الاجتماعي، سواء في أفق الحداثة أم في أفق مناهضة الحداثة وإعادة إنتاج التقليد. إذ المعارضة في أفق التغيير، مجرد التغيير، لا بد أن تتعدى التنافس أو الصراع على السلطة، إلى معارضة ادعاءات السلطة كافة، ومعارضة ثقافتها وقيمها وآليات إنتاجها وأشكال ممارستها معارضة جذرية، على نحو ما كانت معارضة الإخوان المسلمين لنظام البعث، ثم لسلطة الأسد.فإذا ما تأملنا في طبيعة الاستقطاب الأيديولوجي – السياسي، من دون تحيز؛ تبين لنا أنه كان استقطابًا بين “البعثيين”، أو الإحيائيين القومويين، وبين الإسلامويين، وهم بعثيون وإحيائيون أيضًا؛ وأن الحياة السياسية السورية قد انجدلت على قطبي هذا الصراع الضاري؛ وأدت “الهندسة الاجتماعية” الفظة إلى قسمة المجتمع قسمين متعارضين: الأول هو المجتمع المؤمم، الذي صار مجتمع الموالاة، بعد عام 2011؛ والثاني مجتمع مهمش مُفقر ومُهان ومُذل، وهو الذي اختُزل أخيرًا في “قوى الثورة والمعارضة”. وقد كان هذان المجتمعان المتنابذان كلاهما مذرَّرين ومخترقين أمنيًا، بنسب متفاوتة: الأول تحكمه علاقات الولاء المتغيرة، وما يقابلها من امتيازات؛ والثاني تحكمه الروابط الأولية الواهية، التي ضعفت إلى هذا الحد أو ذاك، إثر تغيُّر وظائف البنى التقليدية، ولم يتبق مما يمنحه شيئًا من التماسك سوى الروابط الاثنية والمذهبية. وقد كان الإسلامويون يحظون بنفوذ معنوي واسع، في أوساط المجتمعين المؤمم والمهمش، وبتعاطف معلن أو مضمر، منذ اضطرابات عام 1964 التي انطلقت من مدينة حماة، وما تلاها، إلى اليوم، مرورًا بأحداث الأعوام 1979 – 1982. المعارضة غير الإسلامية، التي انخرط فيها باكرًا بعضٌ غير قليل من أبناء جيلي، كانت (ولا تزال) تتأرجح بين قطبي هذا الصراع العميق والتعادمي، يشدها كل منهما إليه بما يتشاركان فيه من مصالح خاصةٍ عمياء، وأفكار وتصورات وقيم[2]، فتميل إلى هذا حينًا، وتستبطنه، وإلى ذاك أحيانًا، وتستبطنه؛ فهي منفعلة، لا فاعلة، في الحالين. فبين حدَّي الصراع الأقصيين (المتطرفين بالضرورة) لوينات من “معارضة” تتدرج، من كل حد، حتى تبلغ “المنطقة الرمادية”، حيث “الكتلة الصامتة” والسديمية من المجتمع. فلو افترضنا، على سبيل التصور الطوبولجي والتمرين الذهني، أن هذه الكتلة السديمية، وهي الأكثرية العظمى، تحتل مركز المجتمع، وتعد متنه وصلبه، لتبين أن الصراع السياسي كان ولا يزال يجري على تخوم المجتمع وهوامشه، ولذلك، لم يفض إلى أي تغيير سوى ما نعيشه ونعانيه اليوم.لكي ندرك حقيقة التضاد التعادمي بين البعث والإسلامويين، لا بد أن ندرك أن نظام البعث، ولا سيما في العهد الأسدي، كان دومًا، ولا يزال، في حاجة إلى عدو داخلي (الرجعية أو الإرهاب)، وعدو خارجي (الإمبريالية والصهيونية)، نظرًا لافتقاره إلى أي مشروعية سوى مشروعية القوة العارية، العسكرية – الأمنية، أو مشروعية الغلبة والقهر، ولم تكن بنيته وقوته الفعلية تسمحان سوى بالتغلب على العدو الداخلي، فكان العدو الخارجي مجردَ مصدرٍ ثانوي للشرعية، (وضامن للاستمرار والاستقرار) وكانت وظيفة كل من الأيديولوجية والإعلام هي جعله مصدرًا أساسيًا للشرعية، ووصم أي شكل من أشكال التفكير الحر أو النقد أو المعارضة بالعمالة والخيانة.على صعيد الوعي الذاتي، يمكن أن نلاحظ أن المعارضة الإسلاموية تؤمن أنها تمثل جميع المسلمين السنّة، في سورية وغيرها، وهذا الإيمان حدد موقفها من سلطة البعث، بوضوح، منذ البداية؛ في حين تدعي المعارضة غير الإسلاموية أنها تمثل “الأمة العربية” وهو ادعاءٌ، لا يختلف كثيرًا عن ادعاءات السلطة التي تعارضها، سوى الادعاء بالأحقية في الحكم، كالأحقية في الخلافة، بما هي ترجمة لمعنى السياسة أو “الرياسة”، في تاريخنا وثقافتنا: أن يأمر الإنسان أو يُؤمَّر عليه، وهو المعنى المشترك بين قاموسنا وفكرنا.الوجه الثقافي لهذا الصراع على السلطة تجلّى في نزاع على “الإسلام”، بوصفه مصدرًا للشرعية “الشعبية”، وعلى التراث “العربي الإسلامي”، تحت عنوانات: “التراث وتحديات العصر”، و”التراث والمعاصرة”، و”الديمقراطية في الإسلام”، و”العلمانية والإسلام”، و”المواطنة في الإسلام”… إلخ، مما عزز ويعزز النزعات السلفية والأصولية، في جميع الأحوال، وينقل الصراع السياسي إلى المجال الثقافي، قبل نقله إلى المجال الاجتماعي، وهذه سيرورة انحطاط كلي، لم ندركها في حينها: من صراع سياسي إلى صراع ثقافي، إلى صراع اجتماعي، ديني ومذهبي وإثني وعشائري[3].هذا الوجه الثقافي للصراع بلغ ذروة من ذراه مع “الصحوة الإسلامية”، التي افتتحتها الثورة الإسلامية في إيران (1979)، وتركت آثارًا سياسية وثقافية عميقة في حياتنا؛ فقد استقبل معظم المثقفين والسياسيين السوريين، على اختلاف مشاربهم، الثورة الإسلامية الإيرانية، و”الصحوة الإسلامية”، التي انبثقت منها وواكبتها، بحفاوة شديدة، عبر عنها برهان غليون بقوله: “بعد سنوات الاغتراب الطويلة، يبدو كما لو أن النخبة المثقفة العربية التقت نفسها، في لهب الأحداث الإيرانية، وكان تبنيها السريع لها وسيلة بلا ريب للتعبير عن مشاغلها الذاتية، وعن رفضها للوضع العربي الراهن. وهكذا جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحَه الزائل، وإلى الشعور العميق بالخيبة أملًا متجددًا في القدرة على استملاك العالم من جديد. فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبةُ روحَها الإسلاميَّ الضائع، كما التقى الإسلامُ موطنَه العربيَّ الجافي.. الإسلام الذي عمَّد نفسه في أعظم ثورة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، مطالب اليوم أن يحقق الحلم الذي عجرت عن تحقيقه الأيديولوجيات الماضية، القومية والماركسية”[4].سمة هذا الصراع الثقافي، بل الأيديولوجي، الأساسية هي التنازع على التراث واستئناف نزاعات الماضي ومعاركه[5]، وقد التحق به يساريون وشيوعيون، حتى بات من الصعب تحديد بنية الثقافة السورية واتجاهاتها، واتجاهات المثقفين والمثقفات، في نصف القرن الماضي، بمعزل عن هذا الصراع أو التنازع الثقافي. وقد نجم عن ذلك جملة من الظواهر المعرفية والثقافية، من أبرزها: 1 – تعميق الاتجاه التلفيقي، حتى انمحت الحدود بين المثقف الحداثوي وبين الفقيه الأصولي والسلفي. 2 – مناهضة الاتجاه النقدي، لا من قبل السلطة وحدها، ولا من قبل الإسلامويين فقط، بل من قبل “يساريين” وشيوعيين سابقين تطوعوا للدفاع عن “الإسلام”، والذود عن حياضه. 3 – تنطُّع مثقفين غير إسلاميين لمطلب الإصلاح الديني، من جهة، ومناهضة الإسلامويين من الجهة المقابلة، مما يصب الماء في طاحون السلطة سياسيًا، ويعزز التقليد معرفيًا وثقافيًا. 4 – اعتبار “الإسلام” بجملته موضوعًا للفكر والسياسة والأخلاق؛ “الإسلام هو الموضوع”، بألف ولام التعريف، الذي يتحدد على أساسه الفكر، وتتحدد الأخلاق، بقدر ما يمكن للموضوع أن يحدد الذات. 5 – إدراج مسألة الأقليات (الدينية والمذهبية والإثنية) في هذا النزاع التعادمي، بدلًا من اعتبارها مسألة وطنية عامة، تتعلق بنقص الاندماج الاجتماعي، وهشاشة الوحدة الوطنية. 6 – هيمنة “السياسة”، بمرجعياتها الأيديولوجية المغلقة على المعرفة والثقافة، وتحول المثقف والمثقفة إلى بوليتيكال أيديولوجيست، و”محلل سياسي”.لقد كان الصراع الذي وصفناه يتجه تدريجيًا نحو “صراع وجود”، بنسبة تآكل الدولة وضمور قوة المجتمع المدني أو اضمحلالها، وتنامي قوة رعاع الريف وحثالة المدن، أو بنسبة تعمّق النظام التسلطي، (التوتاليتاري) وتعمق تفاهته (طائفيته)، ولم تتمكن المعارضة غير الإسلاموية من التأثير في مجريات هذا الصراع، بسبب هامشيتها واستقطابها على محوريه، حتى اليوم.[1] – نصِف تيارًا من المعارضة بأنه غير إسلامي، لكيلا نقول إنه علماني أو ديمقراطي، لادعائنا أنه لم يكن كذلك، بالفعل.[2] – باستثناء الشيوعيين والقوميين الاجتماعيين السوريين، الذين “لم ينزرعوا في المتن الاجتماعي”، بتعبير ياسين الحافظ. ذلك قبل أن ينقسموا على أنفسهم، ويتحالف بعضهم مع البعث.[3] – خط النمو والتقدم الاجتماعي – السياسي هو أن تُنتج التعارضات الاجتماعية، التي لا يخلو منها أي مجتمع، تعبيراتها أو تمثُّلاتها الفكرية والثقافية، وأن تتبنى هذه التمثلات قوى سياسية، وتحولها إلى مطالب وبرامج سياسية ذات طابع عمومي، أي إن خط النمو والارتقاء ينطلق من الاجتماعي إلى الثقافي فالسياسي، فالأخلاقي، الذي تعبر عنه الدولة بمفهومها الحديث والديمقراطي.[4] – راجع/ي: برهان غليون، الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 2، 1992، ص 79.[5] – يعبر السجال الذي جرى بين طيب تيزيني ومحمد سعيد رمضان البوطي، في دمشق، وسجالات مشابهة أخرى، عن هذا التنازع خير تعبير، وكذلك “المشاريع الفكرية” لكل من طيب تيزيني ومحمد شحرور وكثيرين غيرهما، ورواج “مشاريع” حسين مروة وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وغيرهم.