اورينت
(طلب مواطن سوري من مفتي سوريا السابق “أحمد كفتارو” تفسير منام شاهد فيه المطرب المرحوم “عبد الحليم حافظ” عند الجامع الأموي بدمشق، صباح يوم العيد وهو يمسك بيد حافظ أسد ويطير معه إلى السماء، فذُعر كفتارو وأصابه الوجوم، حتّى إذا استجمع نفسه ونَفَسَه، سعل وتنحنح وقال: شوف يا ابني.. هاد المنام معناه أنّ الله سبحانه وتعالى سيعيد عبد الحليم إلى الحياة كي نستمتع من جديد بسماع صوته العذب الجميل!).
منذ استولى البعث العسكري على السلطة في سوريا بدأ بتكريس “ثقافة النفاق” لدى المجتمع السوري، النفاق الإجباري وبكلّ أشكاله، الأخلاقي الاجتماعي السياسي والديني أيضاً، وبعدما وطّد حافظ أسد سلطته تعرّض مئات الألوف من السوريين خلال سنوات حكمه وحكم ابنه للمساءلة والمراقبة والتوبيخ والتهديد، بل والاعتقال، بسبّة عدم النفاق!
منذ استولى البعث على السلطة في سوريا بدأ بتكريس “ثقافة النفاق” لدى المجتمع السوري، النفاق الإجباري وبكلّ أشكاله، الأخلاقي الاجتماعي السياسي والديني أيضاً
مجنّد في كتيبة الاستطلاع في اللواء 90 لم يردّد تعويذة “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد” خلال الاجتماع الصباحي، عامل في المؤسّسة العامّة للصناعات الغذائية فرع معمل كونسروة إدلب لم يستجب لأوامر “العمل الطوعي القسري” يوم العطلة، معلّمة في مدرسة “تشرين” في دير الزور لم تخرج في مسيرة شعبية عفوية إلزامية احتفاءً بالذكرى العشرين للحركة التصحيحية، طالب في جامعة البعث بحمص رفض الذهاب مع رفاقه في رحلة عفس وطنية نظّمتها “الفرقة الحزبية” لزيارة ضريح المقبور حافظ أسد في القرداحة، وخطيب مسجدٍ ما في درعا استنكف مرّتين متواليتين عن الدعاء له أو لابنه المجنون على المنبر في ختام خطبة صلاة الجمعة!.
صحيح أنّ عصوراً طويلةً من الاستبداد والاحتلال مرّت بها شعوب المنطقة العربية، قد خلّفت أجيالاً متعاقبة من “رجال الدين” الذين توارثوا رضا الطاعة والنفاق للخلفاء والملوك والأمراء والرؤساء، تزلّفاً للسلطة أو خشيةً من بطشها، بعيداً عن الدور المفترض والمطلوب منهم وهو تحفيز القيم الإنسانية والحثّ على الفضائل ومكارم الأخلاق وعلى رأسها الصدق والشجاعة، لكنّ النفاق الديني بعد حكم أسد تجاوز كلّ الحدود وفاق أيّ تصوّر، حتّى صار لدينا أئمّة مساجد وقساوسة يكتبون تقارير للمخابرات بالمصلّين!.
منذ استولى أسد الأب على السلطة في سوريا بدأ بالعزف على أوتار “الدين” كما عزف على أوتار القومية العربية والوحدة الوطنية والاكتفاء الذاتي واسترجاع الجولان ومحاربة الإرهاب، لم يترك عوداً ولا كماناً ولا ربابةً إلّا وعزف عليها، وجلس وراءه في “الجوقة” مجموعات من العازفين مختلفة ومتوائمة في ذات الوقت، العسكر يطبّلون، البعثيون يزمّرون، ورجال الدين ينفخون في النايات يتلوّون في غبطة وخشوع خلف القائد المؤمن الملهم، جوقة من الكلاب يقودها ضبع، ماذا يمكن أن تقدّم من ألحان!.
قرّب أسد إليه رجال الدين والحركات الدينية المؤثّرة في المجتمع السوري لاستخدامهم واستخدامها في خدمة مصالحه في التحشيد والتأييد، ونجح في ذلك كثيراً، دجّن ما أمكن تدجينه، وحبس من حبس وقتل من قتل ممّن رفضوه أو عارضوه، ليُشكّل وعبر سنوات طِوال جيشاً من “إمّعات التديّن” من كلّ الأديان والطوائف، يدافعون عنه ويقدّمونه للسوريين وليّاً لأمر المسلمين ذائداً عن حقوق المسيحيين وحامياً لحمى الأقلّيات الدينية والقومية، الرجل الذي حرم أكراد سوريا من هويتهم الوطنية السورية لكنّه فرض عليهم القومية العربية!.
قرّب أسد إليه رجال الدين والحركات الدينية المؤثّرة في المجتمع السوري لاستخدامهم واستخدامها في خدمة مصالحه في التحشيد والتأييد، ونجح في ذلك كثيراً، دجّن ما أمكن تدجينه، وحبس من حبس وقتل من قتل ممّن رفضوه أو عارضوه
لا يقلّ الدور الذي لعبه هؤلاء عن الدور الذي مارسته ميليشيات ومافيات البعث والمخابرات لتوطيد حكم الحاخام الأكبر حافظ أسد ومن بعده ابنه بشّار، “قندلفت” الأديرة، حبيب “القُبيسيات”، و”دون كيشوت” المراقد!. لا يخفى على أيّ من السوريين الذين ثاروا في وجه نظام الإذلال في سوريا وعلى غيرهم ممّن لم يثوروا، أنّ هذا النظام جمع واستغلّ كلّ ما أمكن له في الجيش وحزب البعث والإعلام وفي “طلبة الشريعة” الذين تتلمذوا مرّتين، مرّةً لحفظ القرآن والحديث ودراسة الفقه الإسلامي، ومرّةً لاستعمال بل استهلاك هذه المحفوظات بما يوافق التعليمات التي كانوا يتلقّونها في أفرع المخابرات، وكان المُنتج الخالص أشخاصاً ككفتارو والبوطي وأحمد حسّون ومحمود الحوت والأزعر المهبول مأمون رحمة، وآلافاً غيرهم.
(للأسف، تاريخ طويل مرّ على هذه الشعوب، لم يخرج خلاله “رجال الدين” عن وظيفتين: التأثير على عقول الناس في مصلحة الحكّام والأنظمة السياسية، أو السيطرة على عواطفهم وتوظيفها في سبيل أفكار وعقيدة ما).
لا يخفى على أيّ من السوريين، أنّ هذا النظام جمع واستغلّ “طلبة الشريعة” الذين تتلمذوا مرّتين، مرّةً لحفظ القرآن والحديث ودراسة الفقه الإسلامي، ومرّةً لاستعمال بل استهلاك هذه المحفوظات بما يوافق التعليمات التي كانوا يتلقّونها في أفرع المخابرات
قبل الثورة بيّنتِ الوثائق والتقارير المأخوذة من بعض وحدات “الأمن السياسي” التي تمّ اقتحامها من قِبَل المعارضة السورية المسلّحة، أنّ مستوى رصد الحياة اليومية للسوريين من قبل هذا الجهاز خصوصاً كان عالياً جدّاً، فلقد تضمّن تقارير حول نشاطات المواطنين الاعتيادية الطبيعية، بمن في ذلك الذين لا يشكّلون ولا تشكّل نشاطاتهم أيّ تهديد، كسفر المواطنين إلى خارج سوريا، أو حفلات الأعراس، أو الرحلات، لكنّ المفاجأة كانت في التقارير المفصّلة والمحفوظة عن خطباء مساجد قصّروا في الدعاء للرئيس على منابر خطب أيّام الجمعة، فلقد اعتبر ذلك جريمةً بالمعنى الحرفي للكلمة، وجرى التعامل مع كلّ حالة على حدة وفق برامج المخابرات!.
ثمّ بعد الثورة ظهر بوضوح أنّ كل أجهزة المخابرات كانت تعمل على تمحيص أي تصرّف معارض للنظام ومهما كان بسيطاً، كالبصق قرب تمثال للرئيس، أو التذمّر من الحكومة في عشاء عائلي، بل حتّى في ردود أفعال الناس تجاه “الدراما” التلفزيونية، مثل إحدى حلقات مسلسل “بقعة ضوء” قيل أنّها أثارت استياءً في “إدلب” بسبب معالجتها لقضية تتعلّق بالإسلام، وتمّ تداول الحديث عنها على منابر المساجد، فأجاب فرع شعبة المخابرات في إدلب على “فرع فلسطين”: (لا أحد تطرّق لذلك سوى خطيب واحد جرى استدعاؤه فتعهّد بعدم التكرار، وهو من الحياديين، رغم قرابته البعيدة ببعض الإخوان المسلمين، ولقد جرى استدعاؤه سابقاً في 1/11/1999 لعدم دعائه للسيّد الرئيس في خطبة الجمعة بتاريخ 22/10/1999)، يعني الرجل لم يخلص من القصّة القديمة، وسيبقى ارتكابه لجريمة عدم الدعاء للسيّد الرئيس حاضراً في سجلّه!.
وصل الأمر بمجلس الإفتاء الأعلى في سوريا سنة 2013 وعبر تلفزيون النظام إلى إصدار فتوى تقول: (إنّ الجهاد ضدّ كلّ من وقف واستهدف سوريا هو “فرض عين”، وليس على السوريين فحسب، إنّما على كلّ الدول العربية والإسلامية!)، وفي 2 أيّار 2018 وجّه مدير أوقاف ريف دمشق لخطباء المساجد في الغوطة الشرقية التي جعلها النظام وحلفاؤه يباباً، كتاباً يطلب فيه منهم الدعاء للسيّد الرئيس بشّار أسد في كل خطبة، والتضرّع إلى الله بأن يوفّقه لما فيه خير البلاد والعباد، كذلك في نيسان من العام الحالي عزلت مديرية الأوقاف في حمص عدداً من الخطباء وأئمّة المساجد لعدم قيامهم بالدعاء لبشّار أسد نهاية الخطب أو الصلاة.
وصل الأمر بمجلس الإفتاء الأعلى في سوريا سنة 2013 وعبر تلفزيون النظام إلى إصدار فتوى تقول: إنّ الجهاد ضدّ كلّ من وقف واستهدف سوريا هو “فرض عين”، وليس على السوريين فحسب، إنّما على كلّ الدول العربية والإسلامية!
هذه المعلومات ليست جديدةً على مسامع السوريين ومعارفهم، لكنّ نشر الكثير من التقارير الاستخباراتية التي أمكن الحصول عليها بعد الثورة وتسريب تعاميم وكتب مشابهة لتعميم مديرية أوقاف ريف دمشق آنف الذكر أحدث صدمةً لدى البعض الذين كانوا يعتقدون أنّ هذه المسائل كانت تجري شِفاهاً أو بالاتّفاق أو حتّى تطوّعاً، محاباةً أو نفاقاً ورياءً، لكن في الحقيقة لا!،
فكما حكم النظام سوريا بالحديد والنار من خلال قانون الطوارئ وغيره من القوانين الاستثنائية القراقوشية التي لا تمتّ إلى القوانين بصلة، استسهل تماماً إصدار القرارات والبلاغات والتعاميم والأوامر والتعليمات التي تُجبر السوريين إجباراً على تمجيده وتقديسه في المدارس والجامعات، المعامل والمؤسّسات، المسارح والسينمات، الكتائب والثكنات، الشوارع والساحات، الكنائس الصوامع المساجد والجوامع، في كلّ مكان!.
استسهل واستخفّ بالسوريين تماماً وكأنّهم مجرّد هباء منثور، بلا قيمة ولا وزن، وكان دور مشايخ سلطته وغطرسته نكرات الدين من كلّ الطوائف والمذاهب دوراً أساسياً وضيعاً سافلاً في امتداد طغيانه وفجوره.
من جانب آخر، لن ننسى ما فعله مشايخ النفاق والشقاق وقطع الأرزاق والأعناق، الذين فتكوا ما أمكنهم بالشعب السوري وثورته العظيمة، وللحديث بقية..