بهدوء، وعلى عكس الصخب الذي رافق إعلانه تحرير مدن وبلدات من نظام الأسد خلال أيامٍ قليلة؛ وإقامة “الإدارة الذاتية الديمقراطية” فيها قبل سبع سنوات، يسارع حزب العمال الكُردستاني الخطا لطي صفحة تلك الإدارة؛ والاختفاء من المشهد في المناطق الكُردية السورية، بعد أن أدى دوراً مؤثراً؛ ساهم كثيراً في ما يبدو عليه المشهد السوري اليوم، نتيجة تحوله من مجرد عصا بيد النظام؛ هدفت إلى تحييد تلك المناطق وإسكات أهلها، إلى مشروع عالمي؛ استثمر فيه جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين المتدخلين في سوريا، والتقوا عنده رغم ما بدا خلافاً ظاهراً بينهم، فاستفادوا منه في تحقيق مصالحهم، ولعل مبتدأها هو الحفاظ على وجود نظام الأسد.
فقد أزال الحزب صور زعيم الحزب العمال الكُردستاني التركي عبدالله أوجلان، وأعلامه وراياته ورموزه، وكل مظاهر هويته؛ من الساحات والشوارع في مدينتي القامشلي والحسكة، بشكل فاجأ الجميع بمن فيهم أنصاره، وخلق إرباكاً في صفوفهم، مثل ذلك الذي أحدثه عندما ألغى من أدبياته السياسية كلمة “روجآفا”، التي كانت بمثابة الحبل السري الذي يربطه بالجسد الكُردي. فالحزب اعتبر حتى اللحظة الأخيرة تلك الأشياء من المقدسات، التي لا يجوز المساس بها، ولطالما أرهب خصومه بسببها؛ وفبرك لهم التهم من قبيل: “شتم القائد آبو، وعدم احترام دماء الشهداء المقدسة، والإساءة للرايات التي سقطوا تحتها”، حيث استثمر في تلك المسائل جيداً، درجة اعتبار نفسه “حزب الشهداء” المضحي، وعمد على أساسها إلى التنكيل بالجميع، وكسب مزيد من الأنصار والمتعاطفين والمدافعين.
والواقع هو أن الدور الوظيفي لحزب العمال الكُردستاني في سوريا يشارف على نهايته، فنظام الأسد اليوم في أفضل حالاته، ويكاد الأمر ينعقد له في جميع أنحاء البلاد، بعد أن استعاد حلب التي زاحم الحزب فصائل المعارضة فيها، وغادر الأحياء التي كان يسيطر عليها؛ بذريعة مقاومة الأتراك في عفرين، وذلك بعد فترة من خروج تلك الفصائل من المدينة. أما مدينة الرقة التي يوجد فيها مسلحو الحزب، فلا تعتبر منطقة معادية بالنسبة للنظام، وحتى منطقة إدلب التي تتكدس فيها الفصائل المسلحة؛ بعد مغادرتها مناطق المصالحات مع النظام لا تشكل خطراً وجودياً عليه، خصوصاً في ظل الصراعات التي تعصف بها، وتبقى مناطق الجنوب السوري البعيدة؛ التي لا يؤثر ما يجري فيها على الوضع السوري بشكلٍ عام، بعد تحويل النظام البلاد إلى جزر معزولة، واستفراده بها الواحدة تلو الأُخرى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اختفاء حزب العمال الكُردستاني من المناطق الكُردية السورية؛ لن يشكل بعد الآن خسارة لنظام الأسد، ولن يؤدي إلى حدوث فراغ في المنطقة، فالنظام موجودٌ في الأساس في تلك المناطق ولم يغادرها أصلاً، رغم اللعبة المشتركة التي لعبها مع الحزب، والتي حاول من خلالها الإيحاء بغير ذلك. فقد بقيت الدوائر العسكرية والأمنية؛ وحتى المدنية التابعة للنظام على حالها، رغم أن الحزب أنشأ دوائر مماثلة على هامشها، وشكلت المنطقة خزاناً بشرياً ومادياً للنظام، رغم توقف شعب التجنيد التابعة له عن العمل تقريباً، ذلك أن عمليات الحزب العسكرية لم تلحق أذى بالنظام، بل صبت في المجرى ذاته غالباً، كما أن “خراج المنطقة” ذهب دون نقصان إلى خزائن النظام.
إن ما يجري الآن في المنطقة، ليس سوى المرحلة الثانية من عملية الاستلام والتسليم؛ التي بدأت بين نظام الأسد وحزب العمال الكُردستاني قبل سبع سنوات، والتي سلم النظام في مرحلتها الأولى الملف الكُردي في المنطقة إلى الحزب، وانسحب من بعض الدوائر الهامشية، من أجل إعطاء مزاعمه في تحرير المنطقة المصداقية، وتوفير الظروف الملائمة له لإدارة العملية، في حين راح يدير المنطقة من وراء الستارة، متخذاً من الحزب واجهةً له. وإن ما يشيعه الحزب من أن ما يقوم به من إزالةٍ للصور؛ يدخل ضمن إطار “عملية التطوير والتحديث” التي بدأها، أو بداعي أن الغبار علاها؛ وتمزقت بعض الرايات بفعل الزمن، ولا بد بالتالي من إزالتها لا تنطوي على عاقل؛ خاصةً أن “التطوير والتحديث” لم يشمل صور رئيس النظام ورموزه، والتي لم تبرح مكانها يوماً، في المنطقة التي يفترض أن الحزب حررها منه.
إن قيام حزب العمال الكُردستاني بإزالة صوره ومتعلقاته من مدن وبلدات المنطقة؛ تدخل في إطار التحضير النفسي لأنصاره، لمرحلة إخلاء مقراته لنظام الأسد، والاختفاء منها. تشبه العملية كثيراً ذلك الفراغ الذي أحدثه النظام قبل سبع سنوات، تمهيداً لإحلال الحزب مكانه في بعض المواقع، ذلك الفراغ الذي وجد الناس أنفسهم بسببه دون حماية، خاصةً مع تصاعد أعمال اللصوصية والقتل، الأمر الذي اضطرهم إلى التمسك بقشة الإنقاذ التي ظهرت فجأةً، من الجرائم التي أخذت تهدد حياتهم وممتلكاتهم بشكل يومي. لقد أدت التطورات في سوريا، والتي ساهم فيها الحزب نفسه إلى جعل “أيامه معدودةً”، وما ستشهده المنطقة خلال المرحلة المقبلة من سيناريوهات، بما فيها أعمال عنف ليست سوى مجرد تفاصيل، للوصول إلى النتيجة الوحيدة التي ليست سوى رحيل الحزب، خاصةً بعد أن أوصل الأخير الكُرد إلى مرحلة تدور خياراتهم فيها بين بقائه، مضافاً إلى سيئاته عجزه عن حمايتهم، وبالتالي تكرار ما يجري في المناطق السورية الأُخرى أو في عفرين، وإما القبول بنظام الأسد، وهو الأمر الذي لن يكلفهم سوى استبدال صورة بأُخرى.