• الخميس , 28 نوفمبر 2024

د.محمد حاج بكري: الوعي في الثورة السورية

عندما بدأت الثورة السورية والاعتصامات والمظاهرات تجتاح أرجاء المحافظات، وبدأت معها أوراق خريف نظام الأسد تتساقط جراء سنوات طويلة من تجفيف منابع العدالة والمساواة والحرية والحكم الرشيد أردفتها موجة  عارمة من العنف والقمع والقتل والنزعة الإيديولوجية السلطوية للفكر والرأي المعارض، وبما أن اليد العليا أو القبضة القوية هي لمن يملك مفاتيح تحريك دفة الأحداث وتحويلها والسيطرة عليها كما هو معروف أرجع الجميع مسؤولية ذلك على النظام  المتهاوي.

والحقيقة أن ذلك صحيح إلى حد كبير جدًا، ولكنه ليس بالمطلق، فالتاريخ سيؤكد يومًا أننا كقوى تغيير ثورية لم نستطع تحمل مسؤولية اللحظة التاريخية بشكل عقلاني، وخصوصًا تلك الشريحة التي تندرج تحت مظلة مجتمع الفكر والثقافة، حيث أنها تتحمل جزء كبير من المسؤولية.

ولكن بالطبع فإن التعامل التعسفي والقمعي لنظام الأسد وقواه الأمنية باستعلاء واستكبار تجاه الشعب يتحمل المسؤولية التاريخية الجسيمة عن تلك الانتهاكات الإنسانية، في وقت كان يمكن ان يتم التعامل مع ذلك الوضع والتغيير التاريخي بطريقة أكثر حكمة وعقلانية وإنسانية، مع بعض التنازلات التي لم تكن لتكلف تلك الزعامات كراسيها ومناصبها وحياتها.

حان الوقت أن نأخذ زفيرًا وطنيًا، نعيد فيه ترتيب مطالبنا وأولوياتنا، حان الوقت أن نفكر بعقل واعٍ كيف نحمي ثورتنا من العابثين وأصحاب المشاريع الخفية والإغراقات القاتلة من صنّاع الفوضى وقتلة الأوطان وطارئي السياسة الذين لا نعرف جذورًا لهم.

مئات الرسائل تتزاحم لتأكل بعضها على تطبيق الواتساب كل يوم وعشرات المجموعات بصور ومقاطع فيديو، إشارات واضحة نحو الغرق، انقسام وشتائم، فوضى ومناكفات ومقالات لكتاب مجهولين وأسماء وهمية تحمل معلومات لا يمكن التأكد من صحتها مليئة بالتخوين والمعروف منهم مزاوداته، تملأ الدنيا بالوطنية والثورية وهو في أقصى بقاع الدنيا بعيدًا عن الوطن، بيانات يومية لا نعرف عدد الموقعين عليها، تحليلات لا ندري مدى جدّيتها، وكرة الحديث تتدحرج، والتطمين والحضور الرسمي غائب لمؤسسات الثورة والأصعب من كل هذا شارع غاضب جدًا.

كثر الطهاة في طنجرة الوطن… ولم أعد أعرف كيف نحميه في رحلة الاختطاف هذه.. لا شجعان لا حكماء  ولا مفكرين ولا أكاديميين لا زعامات عشائرية يدلون بدلوهم… الكل ينظرون إليه بعين الخوف والشفقة، البلل وصل إلى صدورهم دون أن يمدّوا أيدهم ليصلحوا الرتق في أسفل السفينة.

على أي حال، ورغم مرور أكثر من سبع سنوات على هذه الثورة التاريخية الاستثنائية، إلا أنه -وللأسف الشديد– لم نبلغ بعد مرحلة النضج الثقافي والسياسي، حيث ما زالت مسالة التسلط الأيديولوجي قائمة ونظام الأسد لم يستفد منها سوى في مسألة استخلاص أفضل وسائل القمع والقتل والاستبداد، حيث لا زال مصرًا على مسألة الاستعلاء والاستكبار، كما لم تتعلم بعض جماعات الثورة والمعارضة كيف تستفيد من وضعها الراهن لتقوية مكانتها الاجتماعية والسياسية الوطنية.

خرجت من بين تلك الجماعات التي قادت الثورات جماعات أخرى معارضة لها، وهي اليوم تحمل السلاح في وجه من كانت تقف معهم يومًا ما، وليس ذلك سوى نتيجة واضحة لطغيان الفكر الفردي التسلطي والمصالح الشخصية والتعصب والأهواء والغرائز البشرية السيئة على مصلحة الجماعة والوطن  لذا فان الأجواء التي تخيم اليوم  على ثورتنا باتت ملبدة بغبار التجاذبات السياسية الفردية والمشاققات الثقافية  والفكرية اللامسؤولة.

وساد اليوم شعور أكبر بالاستياء من العملية السياسية نفسها التي آمنوا بأنها ستكون وسيلتهم للحرية والديموقراطية، وفقدت كل من الحكومة والائتلاف والأحزاب المعارضة والساسة من جميع الأشكال والألوان مصداقيتهم أمام من وثقوا بهم، وهو ما أوجد ذلك التنافس والصدام بين المدافعين عن الوضع الراهن بعد التغيير، وبين تلك الشريحة التي تأملت مكاسب شخصية من الثورة ولكنها لم تنلها.

فهل أصبح الشعب السوري مطالبًا حقًا أن يختار بين حاكم ديكتاتوري يرضى به على مضض ويفعل فيه ما يشاء دون رحمة ولا حكمة، أم ينتظر من الغرباء أن يخلصوه من ذلك الظلم والاستبداد؟

كل الخوف هو في تحول الثورة السورية الى صيف ساخن من التجاذبات والمشادات والعنف المتبادل والذي يمكن ان تتلوه انقلابات وثورات ضد الثورة الرئيسية , ( حيث يجلس الثوار على أنقاض ما هدموه ويتحولون إلى مستبدين جدد مع استمرارهم بالتغني بشعارات الثورة فيما الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تزداد سوءا، مما يثير حنق الجماهير المتطلعة للتغيير، فتتلبد غيوم ثورة على الثورة ويبدأ الناس بالاحتجاج والخروج للشارع فيواجههم قادة النظام ” الثورة ” بقمع أشد فتكا من قمع الأنظمة السابقة ، حيث صفة الثورة التي يسمون أنفسهم بها تعطيهم الحق من وجهة نظرهم لاتهام معارضيهم بأنهم أعداء الشعب وأعداء الثورة وعملاء للاستعمار ….. الخ )
يقول الدكتور. إبراهيم أبراش ان بعض ( الثورات تكون سلمية ولا يراق بها الدم فتنعت بأسماء دالة على ذلك كالقول بالثورة البرتقالية ، وثورات أخرى اتسمت بالدموية كالثورة الفرنسية التي أزهقت الآلاف من معارضيها ثم ارتددت على ذاتها ليقتل الثوار بعضهم بعضا حتى قيل بأنها أصبحت كالهرة التي تأكل أولادها  و أحيانا تستمر الثورة لعدة سنوات وتعجز في النهاية عن تحقيق أهدافها وتتحول إلى حرب أهلية ).
وهذا يعني ان اهداف الثورة السياسية  والاجتماعية والاقتصادية والتربوية    الخ  التي  نتجت عن الثورة  يمكن ان تفقد بريقها وثقة المجتمع فيها في حال استمر الاتجاه العام في السير نحو طريق الفوضى والمشاققات والنزاعات السياسية الداخلية , وتغلب الفردية وانتشار روح الأنانية الضالة على المصلحة العامة والمسؤولية المشتركة , وهو ما قد يعيد المجتمع الى نقطة الصفر التي بدا منها , وهذا الأمر يمكن ان يفتح مجالا رحبا للمتسلقين وتجار الفوضى والتدخلات الخارجية  والثورة المضادة التي يقودها نظام الأسد .
وباختصار

إذا لم تكن الحالة الثقافية  والفكرية للمجتمع السوري بالمستوى الذي تسلحه بقدرة الثورة، فإنها تطمع فيها قوة خارجية وتتدخل في شؤونها، وبواقع أكبر مما نحن فيه الآن ولا توجد مواجهة واستجابة لهذا الخطر سوى بالقدرة والشجاعة على التنظيم السياسي والاجتماعي للمرحلة التاريخية، وبمعنى آخر،  فإنه لابد أن تسود المشهد السياسي السوري اليوم أيديولوجية الوعي بالمسؤولية التاريخية والإيمان بأن ضبط هذا الوعي واحتلاله من هذا الطرف أو ذاك هو شرط أي تحول أو تقدم ممكن، والنتيجة الحتمية لذلك هو تعميق الاتجاه التقليدي إلى بناء السلطة في الوعي وجعل المحاسبة على الضمير والرأي على أساس المحاسبة الاجتماعية ومقياس الوطنية.

ولكن يبدو أن من مات ضميره وغلّب المصالح الشخصية على مصلحة البلاد والعباد ميؤوس منه، حتى ولو تحققت معجزة يحيي العظام وهي رميم.

 

مقالات ذات صلة

USA