أنور بدر
منذ اجتماع الهيئة العامة 18. 09. 2012، التي أسست في القاهرة لانطلاق “رابطة الكتاب السوريين” وحتى الآن، كانت الرابطة تمشي ببطء، حققت بعض الإنجازات، وربما تعثرت في بعض المحطات، حتى الانتخابات الأخيرة للأمانة العامة والمكتب التنفيذي التي جرت منتصف هذا العام، شابها ضعف في المشاركة سواء لجهة الترشيح أو لنسبة التصويت.ربما يعود جزء من الإشكالية إلى المأساة السورية بما فيها من قتل وتدمير وتشريد أكثر من نصف عدد السوريين بين نازح ولاجئ، وربما يعود جزء آخر من الإشكالية إلى حالة الإحباط التي أصابت السوريين مؤخرا أفرادا وتكوينات، كنتيجة لخيبات متتالية رافقت مسار الثورة الموؤدة، من هزيمة الحل العسكري إلى ضياع الحل السياسي في سوريا، غير أن السبب الأهم يكمن في غياب تجارب العمل الديمقراطي بشكليه المدني والسياسي في سوريا، عبر خمسة عقود ونيف من سلطة البعث التي أممت الحياة العامة وألغت الصحافة الحرة، وحلت النقابات والجمعيات المدنية أو استتبعتها لسلطة الحزب الواحد، ثم لسلطة الأجهزة الأمنية مباشرة، من نقابات العمال إلى اتحاد الكتاب، وأتحاد الفنانين، واتحاد الصحفيين، وصولا إلى الاتحاد الرياضي العام مثلا.خمسة عقود لم يقرأ فيها أجيال من السوريين إلا صحيفتي “البعث” و”الثورة” ولاحقا صحيفة “تشرين”، فيما بلغ عدد الدوريات المطبوعة عام 1920 في دمشق فقط 31 مجلة و24 جريدة دورية، إضافة لمطبوعات أخرى غطت أغلب المدن السورية.
كانت الحياة الثقافية والأدبية والفنية في سوريا عامرة بالكثير من الابداع والتنوع، من الصحافة والمسرح إلى الجمعيات الأدبية والفنية، ومن المنتديات الثقافية إلى الحياة الحزبية المتنوعة، وكنا نمتلك تاريخا مختلفا من النشاطات وأشكال التنظيم النقابي والثقافي قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، الذي فرض حالة الطوارئ ليكم الأفواه ويلغي الحريات، ويطور أدوات الفساد والاستبداد.وكنا نحن جيل الهزيمة في سوريا، إذ كنت طالبا في المرحلة الابتدائية حين حصل انقلاب البعث في آذار 1963، وقبل أن أكمل المرحلة الإعدادية من دراستي كانت هزيمة حزيران 67، كبرنا ونضجنا في ظل الاستبداد البعثي دون أن نعرف شكلا للسلطة وإدارة البلاد سواه.
وعندما جئت دمشقَ طالبا في كلية العلوم، لفت انتباهي وأنا أنزل من ساحة الحجاز إلى جسر فيكتوريا، يافطة على بناء قديم في شارع بور سعيد الصاعد باتجاه دوار الصالحية، كتب عليها “النادي العربي”، وكانت دوما تعاني من تراكم الغبار وطبقات الزمن، حتى يصعب تعرفها، في تلك الحقبة، لأكتشف لاحقا أن هذا النادي تأسس عام 1918، وكان شاهدا على الكثير من المحطات الهامة السياسية والثقافية في تاريخ سوريا، اسوة بالكثير من الجمعيات الأدبية والثقافية التي نشأت في كنف الدولة العثمانية وبعضها لاحقا في زمن الاستقلال القصير ومن ثم الانتداب الفرنسي، بمعنى ما، اكتشفت أن سوريا لم تكن جاهلية قبل مجيء الاستبداد البعثي إليها.
ولم يكن “النادي العربي” هو الوحيد في تلك المرحلة، إذ ظهرت في سوريا جمعيات كثيرة، نذكر منها: “ندوة المأمون” و”أصدقاء القلم” و”منتدى سكينة” و”المجمع الأدبي”، وفي عام 1948 ظهرت “عصبة الساخرين”، التي حملت من أسمها نصيبا، فظاهرة الصالونات الأدبية والجمعيات الثقافية ازدهرت بشكل كبير في سوريا ما بين نهايات القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، وقد امتدت في أغلب المدن والحواضر السورية، بالتزامن مع إصدار العديد من الصحف والمجلات الثقافية والأدبية والسياسية أيضا، والتي كانت تعبر عن تعددية في وجهات النظر، وبعضها كان يمثل أيدولوجيات فكرية وسياسية، فيما كانت “عصبة الساخرين” نقيض ذلك مثلاً.
الخطوة الأبرز جاءت عام 1951، حين اجتمع لفيف من الأدباء ينتمي أغلبهم لاتجاهات يسارية، ما بين ماركسيين ويسار البعث في تلك الحقبة، مع بعض المستقلين تنظيميا، لكنهم في ذات المدار الفكري التقدمي والديمقراطي، حيث أعلنوا تشكيل أول تجمع للكتاب في سوريا باسم “رابطة الكتاب السوريين”، نذكر منهم سعيد حورانيه، شوقي بغدادي، مواهب كيالي، حنا مينه، فاتح المدرس، صلاح دهني، حسيب كيالي، مصطفى الحلاج وسواهم، أعلنوا في بيانهم التأسيسي الذي تأخر حتى أيار/ مايو 1952 عن صفتهم كتاباً تقدميين، كما ألح البيان على مسؤولية الكتاب والتزامهم بقضايا أمتهم كجزء من قضايا العالم التي أصبحت واحدة.
سعيد حورانية
الملفت للانتباه أنهم أسسوا الرابطة التي يعتقدون ويريدون أن تمثلهم، بالمعنى الإبداعي والفكري، ولم يطمحوا إلى احتكار تمثيل كل الكتاب السوريين، ولم يطمحوا إلى احتكار تمثيل كل الكتاب التقدميين حسب وصفهم للرابطة، لأن الانتساب إلى أي جمعية أو مؤسسة مدنية أو نقابة أو حتى حزب سياسي هو اختيار شخصي وليس احتكارا أو وصاية من جهة أو سلطة ما.لذلك لاحظنا ظهور تجمعات مماثلة وموازية، كرابطتي “وحي القلم” و”الأدب الجديد”، كما ظهرت في دمشق جماعة “الكتاب التقدميين” وجماعة “أهل القصة”، فيما ظهرت في حلب “أسرة الأصدقاء”، وفي اللاذقية “رابطة الأدب السوري الجديد”، وفي دير الزور “اسرة الكواكبي”.
مسألة الاختيار هي التي تخلق التعددية، وتغذي الابداع وتؤسس للديمقراطية بمعناها العملي، بحيث يكون اي مشترك فكري وأدبي أو أيديولوجي مجرد حامل يقوم عليه البناء النقابي أو الجمعية المدنية، وليس احتكارا للتمثيل النقابي أو المدني، وربما يُفسر ذلك سبب انتشار “رابطة الكتاب السوريين” كمنظمة عرّفت نفسها بانها رابطة للكتاب التقدميين، وقد عزز من رصيد الرابطة الحضور الدؤوب لأعضائها في المشهد الثقافي والفكري كتابة وترجمة ونشراً، في مختلف الدوريات الثقافية لتلك الحقبة، إضافة لإصدارها سلسلة “كتاب الرابطة”، والتي صدر منها أكثر من 20 كتابا، مزيلة دوما مع أسم المؤلف بعبارة “من أعضاء رابطة الكتاب السوريين”.كما تعزز دور الرابطة أكثر بانضمام كوكبة من أهم الكتاب والمبدعين العرب في تلك الفترة، من ذوي التوجهات اليسارية والتقدمية، كحسين مروة ورضوان الشهال وأحمد سويد من لبنان، ويوسف ادريس وعبد الرحمن الشرقاوي من مصر وآخرين كثر غيرهم.هذا الحضور العربي في “رابطة الكتاب السوريين”، وقوة المشترك الفكري اليساري والديمقراطي بين كثيرين من أعضاء الرابطة، شجع ببساطة إلى تحوّلها في مؤتمر دمشق عام 1954 إلى “رابطة الكتاب العرب”، ويذكر أن أسماء عربية أخرى كثيرة حضرت هذا المؤتمر كمحمد دكروب من لبنان وعبد العظيم أنيس من مصر وسواهم. وقد انتخب الكاتب والشاعر شوقي بغدادي لتولى الأمانة العامة للرابطة الجديدة، حتى عام 1959 حيث صدر قرار بحلها في زمن الوحدة بين مصر وسوريا، نتيجة الخلافات بين عبد الناصر والشيوعيين عموما.
وحين جاء الانقلاب البعثي في آذار 1963، واندفع بقوة لتأميم الحياة العامة، فاغلق كل الصحف الخاصة في سوريا، وحل الأحزاب، وفرض قانون الطوارئ، لم يكن يوجد أي تنظيم للكتاب السوريين، إلى عام 1969 حين اجتمع في مكتب عبد الكريم الجندي بعض الكتاب البعثيين وطيف ماركسي أقل مع عدد من المستقلين، وجرى التوافق على اعلان تأسيس “اتحاد الكتاب العرب”، الذي كان بين مؤسسيه زكريا تامر، حنا مينة، حيدر حيدر، علي الجندي، صدقي إسماعيل، ممدوح عدوان وآخرين، فيما رأسه وزير التربية سليمان الخش أولاً، وبعد انقلاب حافظ أسد 1970، انتقلت رئاسة الاتحاد إلى صدقي إسماعيل حتى عام 1977.لتبدأ بعدها حقبة علي عقلة عرسان، التي استمرت 28 عاما، أنهى خلالها أي شكل من الاستقلال النسبي للمؤسسة النقابية عن السلطة ومؤسساتها الأمنية، ولم يتردد في فصل الروائي نبيل سليمان، أو الشاعر أدونيس، ولاحقا الروائي هاني الراهب، وفي هذه المرحلة فقد الاتحاد أهم مبررات وجوده كنقابة لحماية أعضائها والدفاع عن مصالحهم، أو للدفاع عن حق التعبير وحرية الرأي، إذ ضحى العرسان بكل ذلك لمصلحة الأجهزة التي جاءت به، ولمصلحة محاسيب السلطة الذين أغرقوا الاتحاد، حتى بلغ عدد أعضائه 1441، فيما استقال منه سعد الله ونوس وحنا مينة احتجاجا على فصل أدونيس، كما رفض بعض الكتاب السوريين الانتساب إلى هذه المؤسسة أمثال عبد السلام العجيلي ومحمد كامل الخطيب وبوعلي ياسين والياس مرقص ومنذر مصري وهالة محمد وسمر يزبك وسوسن جميل حسن وديما ونوس وروزا ياسين حسن ولقمان ديركي وكثيرين سواهم.
هاني الراهب
أعتقد أن مسيرة الانحطاط بعد علي عقلة عرسان كانت متسارعة، وربما لا تستحق التوقف عندها إلا في مؤشرات انحطاطها وفسادها المعمم، كقرار د. حسين جمعة في مؤتمر الاتحاد عام 2014 إصدار 20 كتابا في مجالات الابداع المختلفة للإشادة بالقتلة والبوط العسكري الذي دمر سوريا وقتل السوريين. فيما خليفته د. نضال الصالح، فقد ظلت تلاحقه سلسلة الفضائح التي تزكم الانوف حتى اضطر مؤخرا لتقديم استقالته، ولا أعرف إن كانت قد رست المزايدة حتى الآن على رئيس جديد لهذه المؤسسة التي أصبحت بؤرة للفساد والانحطاط، وبشكل خاص في موقفها من الثورة السورية وتمجيد قتلة الشعب، فكيف يمكن للكتاب والمبدعين أن يكونوا مع القتلة وضد شعوبهم؟!أعتقد أن هذه المؤشرات كانت كافية لتبرير مغادرة هذا الاتحاد البائس للكتاب العرب، والعودة إلى الجذر المضيء في تاريخ العمل المدني والنقابي للكتاب والمثقفين السوريين، العودة إلى “رابطة الكتاب السوريين” والتي أعتقد أنها في كل ما مرت وتمر به حتى الآن، ما زالت أمينة لأهدافها الأولى ولوظيفتها التاريخية في الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، والدفاع عن مصالح الكتاب وحقوقهم، في إطار الالتزام بمصالح السوريين كشعب، وسوريا كوطن لكل أبنائه.
فهل يمكن لنا أن نستعيد تجارب الماضي المشرقة في تاريخ سوريا بعيدا عن الصراعات والتناقضات التي حشرنا فيها الاستبداد البعثي؟هل يمكن لنا أن نستعيد ألق تلك الرابطة، وأن نستعيد إنسانيتنا وحريتنا المهدورة في زمن الديكتاتورية؟*- مادة خاصة بموقع “رابطة الكتاب السوريين”.