طارق عزيزة العربي الجديد:27/2/2023
حين طويت صفحة الانتداب الفرنسي، نالت سورية استقلالها تحت اسم “الجمهورية السورية”، وبه شاركت في تأسيس الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
وعلى الرغم من التقلّبات السياسية، وتبدّل أنظمة الحكم نتيجة الانقلابات العسكرية في سنوات الاستقلال الأولى، لم تتغيّر التسمية، إلى أن أُعلن قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، في فبراير/ شباط 1958.
جاء الاستفتاء على الوحدة واستقالة الرئيس السوري، شكري القوتلي، تحصيلَ حاصل، فقد مهّد ضبّاطٌ سوريون طريق الوحدة، بإجراءاتٍ فرضَت أمراً واقعاً أرادوه مع بعض السياسيين، وفي مقدمتهم البعثيون، لأسبابٍ تتعلّق بصراعات داخلية على السلطة، مستغلّين حماسة الشارع السوري، آنذاك، للقومية العربية، ولشخصية الرئيس جمال عبد الناصر الكاريزمية. لكنّ مؤرّخين وسياسيين كثيرين عاصروا المرحلة يرونها خطوةً متسرّعة لم تُدرس بعناية.
توجّب على سورية دفع ثمن باهظ للوحدة، إذ اشترط عبد الناصر على السياسيين والعسكريين السوريين الداعين إليها حلَّ الأحزاب، وإلغاء البرلمان، وتشديد الرقابة على الصحافة، أي إلغاء الحياة السياسية التي ميّزت سورية منذ استقلالها.
إلى ذلك، خضع السوريون للعقلية الأمنية وسلطة المخابرات المهيمنة على مصر الناصرية، فضلاً عن أنّ اقتصاد “دولة الوحدة” امتداد لنمط “الاقتصاد الاشتراكي” الموجّه، الذي فرضته ثورة 23 يوليو في مصر، على عكس الاقتصاد السوري الحرّ. وبإضافة الصراعين، الإقليمي والدولي، على سورية، وبعضُ أطرافه خصوم لعبد الناصر، يتبيّن عسر التجربة وضعف حظوظ نجاحها.
لم تعمّر دولة الوحدة سوى ثلاث سنوات. وبمثل ما بُنيت على ما يشبه انقلاباً عسكرياً، انتهت بانقلاب عسكري، ضمن مسلسل تسييس الجيش وعسكرة السياسة في سورية، الذي جرّ الويلات على البلاد.
ففي 28 سبتمبر/ أيلول 1961، قاد الضابط عبد الكريم النحلاوي انقلاباً قال إنّ غايته “إجراء إصلاحات في الجيش، بعد أن ساءت الأمور إلى الحد الذي اقتضى هذا التحرّك”، وفق ما أورد صلاح نصر، في كتابه “عبد الناصر وتجربة الوحدة”، وكان حينها رئيس المخابرات العامة المصرية.
وبحسب نصر، أعلن النحلاوي، بعد استفسار منه عن أهداف الانقلاب، “أنه يقوم بهذه الحركة، وهو حريص على وحدة الإقليمين في الجمهورية العربية المتحدة، وعلى الاعتراف برئاسة عبد الناصر للجمهورية”، نافياً أن يكون هدف الحركة القيام بعمل انفصالي.
لم يمنع ذلك تحميلَ النحلاوي وزر الانفصال، لكنه عاد وأكّد موقفه في برنامج “شاهد على العصر”، على قناة الجزيرة سنة 2010، وكذلك في حوار مع “العربي الجديد”، نُشر قبل عام، قال فيه: “لم نقم بالانفصال كضباط سوريين، بل جمال عبد الناصر هو من قام بالانفصال من خلال إعلانه الحرب على سورية”، في إشارة إلى ردّ فعل عبد الناصر، ومسار تطوّر الأحداث في اليوم التالي للانقلاب.
من مفارقات ما صار يُعرف بـ”عهد الانفصال” أنّ “الانفصاليين” الذين اتهمتهم الدعاية الناصرية بالعداء للعروبة والقومية العربية، هم من أدخلوا صفة “العربية” على “الجمهورية السورية”، لتصبح “الجمهورية العربية السورية”، في المادة الأولى من “الدستور المؤقت” الذي أصدروه سنة 1961. تكرّس الأمر في الدستور الذي وُضع في سبتمبر/ أيلول 1962، ثم حافظت الدساتير اللاحقة على التسمية، على الرغم من أن سورية ليست دولة العرب وحدهم، وتضمّ قوميات وإثنيات عدّة.
يرى بعضُهم أنّ ذلك الإجراء أتى في سياق دعاية “الانفصاليين” المضادّة، للردّ على الاتّهامات، بإثبات التزامهم القومي وولائهم للعروبة، غير أنّ الوقائع ترجّح أنّهم كانوا متأثّرين فعلاً بالمد الأيديولوجي العروبي، ولم يراعوا تنوّع الشعب السوري.
ففي أغسطس/ آب 1962، أجرت الحكومة إحصاءً سكّانياً في محافظة الجزيرة (شمال شرق)، أفضى إلى تجريد نحو 120 ألف كردي من الجنسية السورية، ليُصنّفوا “أجانب”، علماً أنّ الأكراد يُعدّون القومية الثانية بعد العرب، من حيث عدد سكان سورية، ومع النمو السكاني الطبيعي، بلغ عدد أولئك “الأجانب” عام 2000 قرابة 300 ألف من الأكراد السوريين المجرّدين من الجنسية.
وفي إطار عمله على استمالة الأكراد لثنيهم عن المشاركة في الثورة السورية، أصدر بشّار الأسد في إبريل/ نيسان 2011 مرسوماً يمنح الجنسية السورية لعددٍ ممن حُرموها بسبب إحصاء 1962.
في النهاية، لم يتمكّن “الضباط الانفصاليون” من السيطرة على البلاد، فانهارت سلطتهم تحت ضغط شعبي أواخر عام 1962. لكن عودة الحياة الديمقراطية لم تدم سوى أشهر، حيث انتهت صبيحة 8 مارس/ آذار 1963، بانقلاب حمل “حزب البعث العربي الاشتراكي” إلى السلطة.
هكذا، عاد من سعوا بإلحاح من أجل الوحدة مع مصر، على حساب الديموقراطية السورية الفتية، لينقلبوا عليها وهي تُحاول استعادة أنفاسها، ويؤسّسوا نظام الحزب “القائد للدولة والمجتمع”، الذي انتهى إلى حكم الفرد في “سورية الأسد”.
وإذ تحوّلت الجمهورية إلى حكم عائلي وراثي، والعروبة إلى غطاء أيديولوجي يستر سلطة أمنية نهّابة، وتمزّقت الهوية السورية إلى عصبياتٍ طائفيةٍ وعشائريةٍ ومناطقية، ينهض السؤال: أيّ معنى بقي لتسمية “الجمهورية العربية السورية”؟