• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

شمال سوريا..الانفلات الأمني وسبل علاجه

العقيد عبد الجبار العكيدي

بعد معارك طاحنة استمرت لأكثر من ثلاث سنوات بين فصائل الجيش الحر وتنظيم “داعش” حصدت آلاف الأرواح من الطرفين، تكللت هذه المعارك بالنهاية في تحقيق نصر عسكري كبير عام 2017 في شمال سوريا، ضمن عملية أُطلق عليها “درع الفرات” وخاضتها فصائل الثوار بدعم وإسناد الجيش التركي ومشاركة قواته الخاصة، حيث نجحت العملية بدحر التنظيم الإرهابي وقوات سوريا الديمقراطية من هناك.

أصبحت المنطقة الممتدة من مدينة إعزاز غرباً إلى مدينة جرابلس الحدودية شرقًا ، مروراً بمدينة الباب (التي كانت المعقل الرئيسي للتنظيم) محررة من النظام وتنظيم داعش وقوات قسد، تبعها في بداية العام 2018 عملية “غصن الزيتون” التي نجحت بطرد وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة عفرين، ثم عملية “نبع السلام” في خريف العام 2019 التي قطعت أوصال مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وقضت على حلم الكيان الانفصالي، من خلال سيطرة فصائل الجيش الوطني مدعومة بالجيش التركي على مدينتي تل أبيض ورأس العين.

بعد هذه العمليات العسكرية الواسعة بدأ تحدٍ جديد تجلى بإدارة هذه المناطق من قبل الحكومة السورية المؤقتة والجيش الوطني، الذي تشكل قبيل عملية غصن الزيتون بأيام قليلة، وبدا أن فرض الأمن وتحقيق الاستقرار من أصعب التحديات وأعقد الملفات التي واجهت الجميع.على الرغم من تشكيل وزارتي الدفاع والداخلية في الحكومة السورية المؤقتة، وتأسيس الشرطة العسكرية والشرطة المدنية والكثير من الأجهزة الأمنية، إلا أن المشكلة الأبرز التي أرخت بظلالها على الشمال السوري المحرر وسكانه هي حالة الفلتان الأمني والفوضى التي أصبحت تعم المنطقة.

خلفت حالة الفوضى انعكاسات سلبية على كافة الصعد الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، حيث لا يكاد يمر يوم دون أن تشهد هذه المناطق عمليات اغتيال أو اختطاف أو تفجير عبوات ناسفة أوسيارات مفخخة في الأسواق والتجمعات، حاصدةً أرواح العشرات، بل المئات من المدنيين، ومستهدفة مقرات بعض الفصائل العسكرية وحواجزها.

وصل الاستهداف إلى مبنى الحكومة المؤقتة في مدينة إعزاز ومقر وزارة الدفاع في قرية كفرغان، الذي راح ضحيته قامة علمية وعسكرية كبيرة هو العقيد الدكتور المهندس محمد عدنان بكار.لم يقف الأمر عند التفجيرات، بل تجاوز ذلك إلى انتشارعمليات التهريب وتجارة المخدرات، عبر المعابر غير النظامية مع قسد والنظام التي أصبحت رائجة بشكل كبيرة في هذه المناطق في ظل غياب الرقابة الأمنية.

وهنا لا بد من التوقف عند أسباب هذا الانفلات الأمني في المناطق المحررة الذي يتجلى بما يلي:أولاً، تعدد فصائل الجيش الوطني وافتقارها إلى هيكلية مؤسساتية واضحة وتراتبية عسكرية منضبطة. ثانياً، ضم الفصائل العسكرية في الجيش الوطني للعناصر دون أي دراسة أمنية مسبقة، واهتمام الفصائل بكثرة أعداد مقاتليها على حساب النوع والمعايير الوطنية والأخلاقية والثورية.

ثالثاً، انتشار الفقر والحاجة وانعدام فرص العمل في المناطق المحررة، حيث أن غالبية الشباب يعملون ضمن صفوف الجيش الوطني، بسبب غياب فرص العمل وليس بدافع ثوري أوعقائدي، وهذا ما استثمرته استخبارات النظام والتنظيمات الإرهابية في تجنيد بعض ضعاف النفوس واستخدامهم لتنفيذ عملياتها الاجرامية.رابعاً، غياب السلطة التنفيذية القوية وضعف الأجهزة الأمنية المختصة في كشف المجرمين وملاحقتهم ومحاسبتهم، وعدم امتلاك تقنية كشف المتفجرات والألغام، وقلة الخبرة والمعرفة لدى العناصر الموجودة على الحواجز وعدم إدراكهم لطبيعة مهمتهم وخطورة مهمتهم على أمنهم الشخصي وأمن المنطقة بأكملها.خامساً، اكتظاظ المنطقة بالسكان والفصائل ممن هُجروا من كافة المحافظات السورية وزجهم في مساحة جغرافية محددة، وهم من حواضن وخلفيات اجتماعية متنوعة ومختلفة، وانتشار السلاح العشوائي وتصفية بعض الحسابات القديمة بين العوائل والأشخاص.

سادساً، عدم إنشاء جسم أمني موحد يضم ذوي الخبرة والاختصاص، وعدم الاستفادة من خبرات وتجارب الضباط المختصين المنشقين، سواء الأمنيين منهم أو العسكريين أو ضباط الشرطة.

سابعاً، عودة بعض العناصر والقياديين السابقين في تنظيم داعش إلى المنطقة تحت اعتبارات عائلية وعشائرية، ومنهم من انضم الى بعض الفصائل والأجهزة الأمنية بسبب المحسوبيات غالباً.والسؤال الأبرز الآن: من المسؤول عن حفظ الأمن في المناطق المحررة؟

أولاً، تركيا، وهي صاحبة النفوذ في الشمال السوري المحرر، ومسؤولة عن إدارته بعد أن ساهمت بإعادة تهيئة البنى التحتية ومرافق الصحة والتعليم فيه، وقد بدأت تواجه بعض الانتقادات جراء الحوادث الأمنية الأخيرة، وبالتالي يقع على عاتقها إيلاء أهمية أكبر للوضع الامني وإيجاد حلول فاعلة.

ثانياً، الحكومة السورية المؤقتة التي يقع على عاتقها حفظ الأمن لعموم المنطقة عبر وزارتي الدفاع والداخلية، وما يتفرع عنهما من شرطة عسكرية ومدنية وقوى أمن داخلي وقضاء عسكري، بالإضافة إلى الاستخبارات بكل أفرعها وأقسامها.

ثالثاً، فصائل الجيش الوطني وحواجزها المنتشرة على كامل هذه الجغرافية، والتي تدير كافة المعابر المؤدية الى المناطق المحررة، مسؤولة بشكل مباشر عن حفظ الأمن ومنع عمليات التهريب ودخول الأشخاص المشتبه بهم.

رابعاً، وزارة العدل من خلال القضاء والمحاكم المدنية والعسكرية وتطبيق الاحكام الصارمة بحق المجرمين مما يؤدي إلى الردع.

خامساً، وزارة الإدارة المحلية متمثلة بالمجالس المحلية للقرى والبلدات بإنارة مداخلها وشوارعها وتركيب كاميرات المراقبة وتوزيعها بطريقة مدروسة، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية.

لا شك أن الانفلات الأمني في المناطق المحررة، وانتشار عمليات الخطف والاغتيال وعمليات الاعتقال التعسفي سيؤدي إلى نتائج كارثية على هذه المناطق، يأتي في مقدمتها زيادة هجرة الأدمغة على نطاق واسع، ودفع العديد من الناشطين والإعلاميين والعاملين في المجالات الخدمية كالأطباء والمدرسين إلى البحث عن مناطق أكثر أمناً، وكذلك سوف تدفع لهجرة رؤوس الأموال، وتوقف عجلة الاقتصاد الضعيفة أصلاً في تلك المنطقة.

وأخيرا: فإن معظم المنظمات الإغاثية والتعليمية ومنظمات المجتمع المدني سوف تحجم عن العمل في ظل ظروف أمنية غير مستقرة.

ولمواجهة ما سبق ومعالجة هذا الوضع يمكن تقديم مقترحات لضبط الامن في المناطق المحررة:

أولاً، توحيد الفصائل العسكرية في تشكيل له هيكلية وتراتبية عسكرية منضبطة ويقوده ضباط منشقين من ذوي الاختصاص والخبرة، يتبع فعلياً وليس شكلياً، لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة.

ثانياً، تشكيل جهاز أمني مركزي واحد ذو صلاحيات كبيرة يشمل كامل المناطق المحررة من ذوي الخبرة والاختصاص من ضباط الشرطة والأمن المنشقين عن النظام يتبع لوزارة الداخلية، وإلغاء كافة المكاتب الامنية للفصائل التي تعتمد المحسوبيات على حساب الكفاءات.

ثالثاً، إغلاق تام وقطعي لمنافذ التهريب مع قسد والنظام.

رابعاً، إعادة متابعة وملاحقة المشتبه بهم وأصحاب السوابق والمنتمين سابقا لداعش وقسد في كل المناطق.

خامساً، تكثيف التدقيق الأمني على المقيمين في المخيمات العشوائية في الشمال السوري.

سادساً، إصدار أحكام قضائية صارمة بحق المتورطين بالعمليات الارهابية والمتهمين بالعمالة للنظام وقسد وداعش.

سابعاً، اعتماد منظومة شبكة كاميرات مراقبة واسعة في شوارع المدن والقرى والبلدات بالتعاون مع المجالس المحلية تكون موصولة بنظام المعلومات لدى الأجهزة الأمنية.

ثامناً، تكثيف الحواجز المشتركة من الشرطة العسكرية والمدنية وتسيير الدوريات الليلية لضبط الأمن في كل المناطق ورفدها بالعناصر الأمنية المتدربة.تاسعاً، التنسيق الكامل بين وزارات الحكومة المؤقتة المعنية بالملف الأمني وخاصة الدفاع والداخلية والعدل وبإشراف مباشر من رئيس الحكومة.لا بد أن نكون منصفين بحق المخلصين والغيورين من قيادات وعناصر الجيش الوطني الذين بذلوا جهوداً كبيرة لضبط الأمن ودعم الاستقرار وملاحقة الفاسدين، رغم قلة الموارد والدعم الحقيقي وكثرة المصاعب التي تعجز عنها دول وحكومات كبيرة ومستقرة.

مقالات ذات صلة

USA