في كل الأوبئة التي اجتاحت العالم، هناك عاملان مشتركان في التعامل هما عزل المصابين وعزل المناطق التي يتفشى بها المرض .
شهد العالم على مر التاريخ العديد من الأمراض والأوبئة الفتاكة كانت بعضها أوبئة محصورة بدول أو نطاق جغرافي معين وكان بعضها أوبئة عالمية أو ما يطلق عليه “جائحة” Pandemic. وحصدت تلك الأوبئة أرواح عشرات بل مئات الملايين وتسببت في تغيرات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية في العالم بأسره، بل ومنها جوائح غيرت مجرى التاريخ.
كان أشهر هذه الأوبئة وأشدها فتكاً في العصور القديمة والوسطى الطاعون الأسود (الموت الأسود) وطاعون جستنيان وطاعون عمواس بمنطقة الشام. وفي العصر الحديث نجد الكوليرا والجدري والإنفلونزا الإسبانية وغيرها من الأوبئة.
- طاعون عمواس
من أوائل الأوبئة التي انتشرت في المنطقة العربية ويعد أشهرها. ظهر في السنة الـ18 للهجرة 640م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وظهر في البداية في بلدة اسمها عمواس بالقرب من القدس ومنها انتشر في منطقة الشام.
حصد طاعون عمواس حياة نحو 30 ألفاً من أهل الشام، بينهم عدد كبير من الصحابة. وترجع شهرة طاعون عمواس في كتب التراث والتاريخ إلى الطريقة التي تعامل بها عمر بن الخطاب مع الوباء إذ امتنع عن دخول المدينة وأمر بعدم دخولها وعدم خروج المصابين منها. وهو ما يعده البعض أول الطرق العملية لتطبيق أسلوب الحجر الصحي وعزل المناطق الموبوءة منعاً لتفشي المرض وهي الطريقة التي اتبعتها الصين فور اكتشاف تفشي فيروس كورونا في مدينة ووهان. فقامت بعزل المدينة وعدة مدن أخرى وصل إليها الفيروس مما ساهم في الحد كثيراً من تفشي الوباء ومنعه من إصابة الملايين.
كان طاعون “الموت الأسود” أخطر كارثة واجهتها البشرية في القرن الرابع عشر، وأكثر الأوبئة فتكاً وقدرة على الانتقال والانتشار (Getty Images)
- طاعون جُستنيان541م
ظهر طاعون جستنيان أول مرة في مصر عام 541م وربما انتقل إليها من مكان مجهول ثم انتقل عبر ميناء الإسكندرية إلى القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية البيزنطية) أو روما الشرقية في عهد الإمبراطور جستنيان، ولذلك أُطلق على الطاعون اسم “طاعون جستنيان” الذي أصيب هو أيضاً بالطاعون لكنه تعافى منه. كما امتد الطاعون إلى الإمبراطورية الساسانية ومعظم المدن المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن طاعون جستنيان حصد أرواح من 30 إلى 50 مليون شخص أي حوالي نصف عدد سكان العالم آنذاك.
لم يتخذ الناس آنذاك إجراءات حازمة ضد انتشار المرض الذي أصاب حتى حيوانات الشوارع ونفق منها الآلاف وأهمل الناس في دفنها بصورة سليمة مما أدى إلى تفشي الطاعون أكثر.
وكان للطاعون تبعات اقتصادية كبيرة على مستوى العالم لتسببه في وقف حركة التجارة تماماً بين المدن. كما أعاق جهود الإمبراطور جستنيان في توحيد أراضي روما الشرقية والغربية. وأضعف من قوة بيزنطة مما سهل على الدول الأخرى استرداد أراضيها منها بل والإغارة على أراضٍ جديدة وتأسيس دول وممالك جديدة.
- الموت الأسود 1331-1351
كان طاعون “الموت الأسود” أخطر كارثة واجهتها البشرية في القرن الرابع عشر، وأكثر الأوبئة فتكاً وقدرة على الانتقال والانتشار، إذ انتقل بسرعة من الصين إلى الهند وآسيا الوسطى حتى اجتاح أوروبا وشمال إفريقيا.
ظهر طاعون “الموت الأسود” عام 1331 في الصين وانتقل منها إلى آسيا الوسطى وشرق أوروبا والقسطنطينية ومنها إلى أوروبا والشرق الأوسط.
وبحلول عام 1349 كان “الموت الأسود” قد تفشى في كل دول أوروبا ومدنها وحصد مئات الآلاف بل الملايين من السكان، وبحلول عام 1351 كان الوباء قد قضى على نحو نصف سكان أوروبا. وتذكر بعض المصادر أن عدد ضحايا الموت الأسود يقدر بـ75 مليوناً إلى 200 مليون. وتسبب في تغيرات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وفي تغيير التركيبة السكانية في أوروبا وبخاصة بالنسبة إلى المكون اليهودي، إذ كانت الكثير من بلدان أوروبا التي اجتاحها الطاعون تقتل السكان اليهود إذا لم يدخلوا في المسيحية لاعتقادهم أنهم هم سبب انتشار الطاعون في أوروبا.
كما أدى الموت الأسود إلى اختفاء طبقات اجتماعية كاملة من المجتمع الأوروبي.
حاولت بعض الدول مثل إسبانيا وهولندا وايطاليامواجهة انتشار المرض وقامت بقطع أي اتصال بينها وبين الدول التي تفشى بها الطاعون وعلقت عمليات التبادل التجاري معها وهي خطوة أشبه بقيام الدول في يومنا الحالي بتعليق حركة الطيران من الدول الموبوءة وإليها ومنع مواطنيها منالسفر اليها .
ضرب وباء الكوليرا العالم عدة مرات منذ القرن التاسع عشر بداية من دلتا نهر الغانج بالهند، وحصد أرواح الملايين حول العالم. (Getty Images)
- طاعون لندن العظيم 1665
ظهر طاعون في هولندا عام 1664 وانتقل مع سفن التجارة إلى لندن عام 1665 ليفتك بسكانها ويقتل نحو ربع سكان المدينة.
انتشر الطاعون بسرعة أكبر في الأحياء الفقيرة لانعدام الرعاية الصحية بينما غادر الملك تشارلز والنبلاء وكبار التجار المدينة للهروب من الطاعون ومُنع الفقراء من مغادرة أسوار المدينة. كما مُنع المواطنون من الخروج من المنزل إذا ظهر فيه أي حالة إصابة كما كانت توضع علامة على المنزل لمنع الاقتراب منه، وبذلك كان يعزل المرضى ويمنع اقتراب الأصحاء منهم، إلا أن ذلك كان يؤدي أيضاً إلى إصابة كل أفراد العائلة بالمرض ومن ثم موتهم. وخصصت عربات تجوب شوارع المدينة لجمع الجثث ودفنها بمقابر جماعية خارج أسوار المدينة.
- الجدري
من أكثر الأوبئة التي حصدت أرواح البشر على مر التاريخ. يُعتقد أنه ظهر أول مرة في مصر قبل نحو 3 آلاف عام.
وتفشى الجدري في أماكن متفرقة في مختلف أرجاء العالم وفي حقب زمنية مختلفة، وحصد نحو 300 مليون إلى 500 مليون شخص.
أدخله الأوروبيون إلى الأمريكتين في القرن الخامس عشر وتسبب في مقتل غالبية السكان الأصليين بالمكسيك.
تذكر بعض المصادر التاريخية أن أول طريقة لعلاج الجدري اكتشفت في الصين قبل نحو ألف عام، وتذكر مصادر أخرى أن أتراك الأويغور في تركستان الشرقية هم أول من اكتشفها قبل ذلك بكثير وتوارث الأتراك هذه الطريقة إلى أن وصلت إلى الأناضول واستخدمها الأتراك السلاجقة والعثمانيون. وفي القرن الثامن عشر بالتحديد عام 1721 كتبت الليدي ماري مونتاغو زوجة السفير البريطاني لدى الدولة العثمانية رسالة إلى بلادها تتحدث فيها عن طريقة يستخدمها العثمانيون لتحصين أنفسهم من الجدري. عبارة عن أخذ بعض المواد المعدية من جلد الشخص المصاب بالجدري ووضعها في خدوش سطحية بذراع الشخص المراد تحصينه. وقد اعتمدت هذه الطريقة في أوروبا بعد فترة من الرفض. ثم انتشرت هذه الطريقة في العالم كله.
وفي عام 1796 استخدم الطبيب الفرنسي “إدوارد جينر” جدري البقر لتحصين الأشخاص ضد الجدري، مما ساعد في تشكيل مناعة داخل الجسم. ومهد الطريق أمام الأبحاث والدراسات لاكتشاف لقاح ضد الجدري مما أدى إلى انخفاض كبير بالتدريج في حالات الإصابة.
وسجلت آخر حالة للجدري عام 1977 في الصومال وفي 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية انتهاء مرض الجدري من العالم وانتصار البشر عليه.
ـ الكوليرا
ضرب وباء الكوليرا العالم عدة مرات منذ القرن التاسع عشر بداية من دلتا نهر الغانج بالهند، وحصد أرواح الملايين حول العالم.
في كل الأوبئة والجوائح التي ذُكرت نرى عاملين مشتركين في التعامل هما عزل المصابين وعزل المناطق التي يتفشى بها المرض أو قطع التواصل معها (Getty Images)
أُنتج لقاح الكوليرا عام 1885 إلا أن استخدام اللقاح لم يقضِ على المرض واستمر الكوليرا في الظهور وحصد الأرواح في بلدان متفرقة.
وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن موجة التفشي السابعة للمرض التي بدأت عام 1961 في جنوب آسيا، لا تزال مستمرة حتى الآن. وتشير بيانات المنظمة إلى وفاة نحو 3 آلاف طفل في اليمن بسبب الكوليرا منذ عام 2016.
وطبقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية يُصيب وباء الكوليرا سنوياً 1.3 مليون إلى 4 ملايين شخص ويتسبب بمقتل 21 ألفاً إلى 143 ألفاً.
وينتشر الكوليرا أكثر في البلدان والأماكن التي يعاني سكانها من سوء التغذية أو الأماكن الفقيرة التي تعاني من تلوث الأغذية والمياه. ويمكن مواجهته بتحسين الظروف المعيشية لهم ورفع جودة الخدمات الصحية.
ـ الإنفلونزا الإسبانية
من أشهر الأوبئة في القرن العشرين وأكثرها حصداً للأرواح. ظهرت عام 1918 في أواخر الحرب العالمية الأولى لتضيف إلى العالم معاناة جديدة إضافة إلى معاناته ويلات الحرب.
تفترض بعض النظريات نشوء المرض بالصين وانتقاله منها إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، إلا أنه لا يوجد أي دليل على ذلك. ولم تظهر أولى حالات الإصابة بالوباء في إسبانيا بل ظهرت في الولايات المتحدة أوائل عام 1918 ثم في أوروبا، إلا أن الرقابة على الصحافة آنذاك كانت تمنع نشر تقارير تتحدث عن انتشار الوباء لعدم تثبيط الروح المعنوية للجنود.
وكانت الصحافة الإسبانية أول من تحدث عن الوباء في مايو/أيار 1918 باعتبارها دولة حافظت على مبدأ الحياد خلال الحرب ولذلك سُمي بالإنفلونزا الإسبانية على الرغم من أنه كان قد قتل حينها مئات الآلاف في دول أخرى.
لم يهتم العالم كثيراً بالوباء بسبب انشغالهم بأمور أخرى في أعقاب الحرب فضلاً عن تضرر المنشآت الصحية ووفاة آلاف الأطباء في الحرب.
حصدت الإنفلونزا الإسبانية أرواح 50 مليون شخص على الأقل حول العالم وأصابت نحو نصف مليار إنسان وساعد في انتشاره أكثر عودة الجنود المصابين بالوباء من الحرب إلى مدنهم وقراهم. وكانت معدلات الوفاة في إفريقيا والأماكن الفقيرة أعلى من الأماكن الغنية التي تتوفر بها رعاية صحية مناسبة.
وعلى عكس أنواع الإنفلونزا الأخرى تميزت الإنفلونزا الإسبانية بقدرتها على إحداث مضاعفات مميتة فيمن أعمارهم أقل من 45 سنة. وتشير الإحصائيات إلى أن 99% من الوفيات كانت في أشخاص أعمارهم أقل من 65 سنة، وأكثر من نصف الوفيات كانت في المجموعة العمرية ما بين 20-40 سنة. وكان السبب الرئيسي للوفاة هو الاختناق نتيجة نزيف رئوي أو التهاب رئوي ثانوي. ويرى البعض أن سبب المناعة لدى كبار السن ضد الإنفلونزا الإسبانية يعود إلى تعرضهم للإنفلونزا الروسية عام 1889 مما أكسبهم مناعة جزئية ضد الفيروس.
ـ إنفلونزا الخنازير
ظهر وباء إنفلونزا الخنازير في المكسيك في مارس/آذار 2009 لدى أشخاص يعملون في مزارع لتربية الخنازير بعد حدوث طفرة جينية للفيروس مكنته من الانتقال من الخنازير إلى الإنسان وبين البشر.
ظهر وباء الالتهاب الرئوي اللا نمطي الحاد (سارس)، المعروف علمياً أيضاً بالمتلازمة التنفسية الحادّة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 في مدينة فوشان بمقاطعة غوانجدونغ جنوبي الصين (AFP)
وتقول بعض الدراسات إن الفيروس المسبب لجائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 أصاب الخنازير أيضاً ثم تحور بعد ذلك وانتقل مرة أخرى من الخنازير إلى الإنسان.
وفي يونيو/حزيران 2009 أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الوباء أصبح جائحة بعد تفشيه في العديد من الدول حول العالم وحصده أرواح الآلاف. كما حذرت من أن التحور السريع للفيروس يجعله أكثر خطورة ويُصعب من اكتشاف لقاح مضاد له.
وفي 2010 قدرت منظمة الصحة العالمية الوفيات الناتجة عن الإصابة بالفيروس بـ18,500 شخص حول العالم.
بينما قالت دراسة نُشرت عام 2012 إن الأعداد الحقيقية للوفيات تتراوح بين 151 ألفاً و575 ألفاً.
واجه العالم جائحة إنفلونزا الخنازير بطرق الوقاية نفسها التي يجري الحديث عنها اليوم للوقاية من فيروس كورونا المستجد، مثل العزل والتباعد الاجتماعي وما إلى ذلك. ولاحقاً صُنع لقاح للمرض وأُعلن عن احتوائه.
ـ فيروس إيبولا
ظهر فيروس إيبولا أول مرة عام 1976 وتفشى في السودان، وفي جمهورية الكونغو (زائير سابقاً) في قرية تقع على مقربة من نهر إيبولا الذي اكتسب المرض اسمه منها. ويُرجح أن يكون الخفاش آكل الثمار هو مصدر الفيروس غير أن بعض أنواع القردة مثل الغوريلا والشمبانزي هو ناقل الفيروس الأساسي للإنسان. ويتسم الفيروس بشدة فتكه وارتفاع معدل الوفيات لدى المصابين به إذ تصل إلى نحو 50%.
وفي عام 2014 تفشى وباء إيبولا مرة أخرى في غينيا وانتقل منها إلى عدة دول إفريقية ووصل حتى الولايات المتحدة بواسطة مسافر واحد فقط.
وحصد الفيروس أرواح أكثر من 11 ألف شخص وأصاب حوالي 27 ألف شخص في إفريقيا.
ولا يوجد حتى الآن علاج مُرخص به لفيروس إيبولا ولكن يُحرص على توفير الرعاية الطبية المناسبة للمصابين وتقديم أدوية تعزز كفاءة الجهاز المناعي.
ـ فيروس سارس
ظهر وباء الالتهاب الرئوي اللا نمطي الحاد (سارس)، المعروف علمياً أيضاً بالمتلازمة التنفسية الحادّة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 في مدينة فوشان بمقاطعة غوانجدونغ جنوبي الصين. وأصاب 8 آلاف و96 شخصاً، وتسبب في وفاة أكثر من 774 شخصاً في العالم، حوالي 350 منهم في الصين، وأثار فيروس سارس موجة ذعر عالمية منذ ظهوره في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 حتى اختفائه في يوليو/تموز 2003.
وفي مارس/آذار 2003 أصدرت منظمة الصحة العالمية تحذيراً من السفر إلى مكان ظهور المرض ووصفته بـ”التهديد العالمي”.
وفي 5 يوليو/تموز 2003 أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس سارس قد جرى احتواؤه.
في كل الأوبئة والجوائح التي ذُكرت نرى عاملين مشتركين في التعامل هما عزل المصابين وعزل المناطق التي يتفشى بها المرض أو قطع التواصل معها. وهو ما طبقته غالبية الدول لمواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد وإن كانت بعض الدول قد تأخرت في تطبيق ذلك مثل بعض الدول الأوروبية وإيران.
إضافة إلى تلك الأوبئة توجد أمراض أخرى تحصد أرواح الملايين سنوياً مثل السرطان وأمراض القلب والسكري. وعلى الرغم من أنها تفتك بملايين البشر فلا يُتعامل معها على أنها أوبئة تشكل خطراً على العالم لأنها لا تنتقل بالعدوى من شخص إلى آخر. علاوة على إصابة ملايين الأطفال ومقتل مئات الآلاف منهم سنوياً بسبب أمراض ناتجة عن سوء التغذية والفقر، الغالبية العظمى منها في قارة إفريقيا، إلا أن ذلك لا يلقى اهتماماً دولياً ولا يسلط عليه الضوء من قبل الإعلام بالقدر الذي يحدث عندما ينتشر أحد الأوبئة، على الرغم من أن عدد ضحايا بعض هذه الأوبئة ضئيل جداً بالمقارنة بضحايا الجوع والفقر والحروب.