• الأربعاء , 27 نوفمبر 2024

عرب وكرد.. ووطن ضائع

حازم نهار

قادتني الصدفة، منذ أيام، إلى الاستماع إلى جلسة حوارية على (قناة روجافا)؛ ثلاثة ضيوف من لون واحد تقريبًا، يتنافسون فيما بينهم على من أشدّهم تطرفًا، وبحسب ذاكرتي أحدهم يتحدث من أميركا، والثاني من ألمانيا، والثالث من “الإدارة الذاتية” إن لم أكن مخطئًا.في الحقيقة دُهشت (وتألمت فعلًا) مما سمعته، وأنا لا أرغب حقًا في نقل ما سمعته، ولا أريد أن أكون في موقع ناقل الكفر، لأن الناقل كثيرًا ما يكون -في الحالة السورية- كافرًا هو الآخر، أو قد يُوضع، رغم أنفه، في موقع الكافر هو أيضًا. ما سمعته يجعلني أترحم حقًا على الخطاب الأيديولوجي القومي العربي في بدايات تصنيعه قبل نحو سبعين عامًا أو تزيد، والذي كان وبالًا على العرب والعروبة، وأربأ بالكرد السوريين أن يبدؤوا من حيث بدأنا نحن العرب، فالحياة لا تسير إلى الخلف، ولا يمكن إحياء الموتى.نقدي لما سمعته في هذه الجلسة الحوارية يأتي من التزامي النهائي المشروعَ الوطني السوري، لا انطلاقًا من خلفية أيديولوجية قومية عربية من أي نوع، فهذا المشروع، كما أراه، يحترم العروبة والكردية والسريانية وسائر الثقافات والحضارات الأخرى، ولا يراها جميعها إلا في سياق إنساني متجدِّد ومنفتح على الثقافة العالمية، وغير ذلك يعني مواتها وتعفنها.هناك بعض النقاط التي أحبّ تثبيتها من وحي الجلسة الحوارية تلك:1- يُفترض التعامل مع آرائهم، حكمًا، على أنه يمثل وجهات نظرهم الشخصية، وينبغي لنا عدم تحميل أي سوري وزرَه، وكان المؤسف حقًا أنهم يقدِّمون أنفسهم نخبًا. 2- الانتماء العربي ليس فضيلة أو نقيصة، ومثله الانتماء الكردي، والتركماني، والسرياني، وغيرها. ولا تستحق هذه الانتماءات ذمًا أو مدحًا، والنقد يُفترض أن يوجه إلى الممارسات الواقعية المثبتة أو الأفكار على أساس فردي أو سياسي، لا على أساس كتلي أو عرقي أو إثني.3- أهمية التمييز بين العرب والعروبة من جهة والأيديولوجيات القومية العربية التي تمظهرت في صيغ استبدادية وشمولية من جهة أخرى، ومثله التمييز بين الكرد والكرديّة من جهة والأيديولوجيات القومية الكردية التي يبدو أنها تسير على خطى القومية العربية.4- كلما سرنا في طريق الخطاب التعبوي والتحشيدي على أساس إثني أو عرقي أو طائفي، كلما ابتعدنا عن العقل والمنطق، عربًا وكردًا وتركمانًا وآثوريين، وكلما اقتربنا أكثر فأكثر من الكارثة. وكلما ازدادت التخمة الأيديولوجية على حساب السياسة، وازداد الخطاب تكوّرًا وانغلاقًا على ذاته، كلما تحوّلنا إلى أعداء لا يتقنون إلا القتال، ويفشلون في كل شيء غيره، في السياسة والاقتصاد والثقافة والعمران.5- ضمور العقل السياسي يبدأ عندما يركن المرء إلى، أو يستقوي بالمؤقتات والعناصر القابلة للتغيّر السريع (القوة العسكرية، العلاقات الدولية)، وينسى في الوقت ذاته الاستراتيجيات والعناصر الأكثر ثباتًا (التاريخ والبشر والجغرافيا والمصالح المشتركة). 6- الطريقة الوحيدة من أجل أن تجد قضية كرد سورية صداها لدى السوريين هي النظر إليها بعين وطنية سورية، وغير ذلك لن يزيد السوريين إلا ابتعادًا عن بعضهم بعضًا، فنزعها من السياق الوطني السوري لن يكون إلا كارثة على الكرد والعرب معًا. ويُفترض أيضًا إيصال القضية على أنها قضية السوريين الكرد (أو الكرد السوريين) لا قضية كل الكرد في العالم، فهذه الأخيرة أكبر من طاقة السوريين مجتمعين، وليست من مسؤولية السوريين وحدهم.7- الخطابات والتحركات، العربية والكردية، عمومًا، تنطلق معظمها، اليوم، من أرضية الخوف، وما يأتي في سياق الخوف لا يُعتدّ كثيرًا به، ولا بدّ أن يحمل في طياته شيئًا من العوَر السياسي، ومن التجني غير العقلاني. وأضيف أنه لا تمكن مواجهة أو الحدّ من الخطاب الأيديولوجي، العنصري، التحشيدي، بخطاب من النوع ذاته، بل بخطاب وطني ديمقراطي سوري.اقتراب العرب السوريين من بعضهم بعضًا أمرٌ مرحب به، واقتراب الكرد السوريين من بعضهم بعضًا هو الآخر مرحب به، شريطة ألا يكون هذا الاقتراب في الحالات كلها: أولًا موجهًا ضد الآخر (عرب ضد الكرد أو كرد ضد العرب)، وثانيًا ألا يستقوي العرب أو الكرد بأطراف خارجية ضد بعضهم بعضًا، وثالثًا أن تكون غاية كل اقتراب هي الاندراج في مشروع وطني ديمقراطي سوري.8- لا أحد يستطيع أن يُخرج سورية من التاريخ والجغرافية، وهوية سورية أمامها لا خلفها، وإن كان للماضي دوره وتأثيره الذي لا يمكن إنكاره، إلا أن سوريي الحاضر مطالبون بإعادة بناء هويتهم من وحي الحاجات والمصالح والآمال في الواقع الراهن؛ هوية متجدِّدة تستوعب الماضي وتحتضنه من دون أن تبقى رهينته، هوية تستمد ثقلها الأساس من مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة. 9- الدفاع عن الوطنية السورية هو خيارنا الممكن والقابل للحياة، وما عداه مشروعات ميتة سلفًا، وطرح الوطنية السورية لا يصبّ أبدًا في طريق الاسترضاء، ولا هو من أجل عيون أحد، بل من أجل عيون الحقيقة السياسية، فحتى لو لم يكن في سورية سوى العرب، فالدولة التي تتوافق مع العصر هي الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، ولا مستقبل لنا جميعًا من دون المشروع الوطني الديمقراطي السوري.ينظر بعض العرب إلى المشروع الوطني السوري على أنه يأتي في سياق التنازل للقوميات أو الإثنيات الأخرى، أو أنه خطاب منافق بقصد كسب ودّ الآخر، وهذا غير صحيح. وينظر بعض الكرد للمشروع ذاته على أنه يأتي في سياق الالتفاف عليهم، وهذا أيضًا غير صحيح.10- الثقافة الوطنية السورية هي حصيلة تفاعل الثقافات المحلية كلها في بيئة ديمقراطية، وتفاعلها مع الثقافات العالمية، ويجب أن يتصرف العرب والكرد، وغيرهم، استنادًا إلى شعور الثقة بالذات، وبقدرتهم على التعبير الثقافي والحضاري في بيئة ديمقراطية، وإلا فإن مشاعر الخوف عندهم لا تعكس إلا يقينهم بعجزهم عن الفعل الثقافي والحضاري مستقبلًا.المطلوب منا نحن السوريين، اليوم، أكثر من مجرد “التعايش المشترك”، فهذا الأخير يحدث بين أطراف يكرهون بعضهم بعضًا، لكنهم قرروا عقد هدنة مؤقتة فيما بينهم، ربما إلى أن تتغير موازين القوى المحلية والدولية، ليعودوا بعدها ويغيروا من مواقعهم وأدوارهم وحصصهم، وربما كان التعبير المرادف له ضمنيًا هو “التعايش على مضض”. المطلوب من السوريين جميعهم هو التفكير في سبل العيش الوطني الذي يُعطي إلى الفرد، الإنسان، المواطن القيمة الأولى، ولا يحتجزه في، أو يختزله إلى، كائن أو عضو في قومية أو إثنية أو طائفة أو قبيلة.

جميع المقالات تعبر عن رأي الكاتب

مقالات ذات صلة

USA