دفعت مجموعة مُتغيرات، بمناطق شرق الفرات السورية إلى واجهة الاهتمام مُجدداً؛ لعل أبرزها مؤخراً، تهديدات أنقرة العسكرية التي ارتفعت نبرتها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن تخفت لاحقاً في الشهر التالي؛ لكنها مع سلسلة تطوراتٍ متزامنة (كتزايد التحركات الروسية هناك عند مناطق نفوذ أمريكية، وإعادة إحياء مسار التفاوض بين “قسد” ونظام الأسد، وقبل ذلك وصول إدارةٍ جديدة للبيت الأبيض سرعان ما سحبت قواتها من أفغانستان)، أدت لغليانٍ في مناطق شرق الفرات، تجلت معالمه في سلسلة لقاءاتٍ وتحركات وتدفق هائل في التصريحات والمواقف للقوى المحلية والدول المعنيّة.
ونشر موقع “السورية.نت” هذا الأسبوع جزئين من سلسلة “غليان شرق الفرات”، ركز الأول الذي جاء بعنوان: “قسد بين الضغط التركي-الروسي وثلاثة سيناريوهات”، على مراحل التفاوض بين “الإدارة الذاتية” ونظام الأسد، من حيث دوافعها وتطوراتها، أوراق كل طرف فيها، ومآلاتها.
بينما جاء الجزء الثاني الذي حمل عنوان “خلفيات التحركات الروسية واحتمالات توسيع السيطرة”، ليحاول الإجابة عن مجموعة تساؤلات حول سياقات هذه التحركات، وأدوات وتكتيكات روسيا فيها، وما إذا كانت تمتلك مقاربةً واضحة، وإمكانية تحقيقها، في مناطق لطالما عُدّت ضمن نفوذ واشنطن.
يأتي هذا الجزء الثالث والأخير، ليبحث في مقاربة البيت الأبيض، لمسألة تواجد ومستقبل القوات الأمريكية في شمال وشرق سورية، من حيث شكل وأسباب هذا التموضع العسكري، وقراءة الموقف الحالي، مع محاولة رسم ملامح “الاستراتيجية” الأمريكية في المنطقة، واستشراف مستقبل هذا التواجد العسكري، المرتبط كما يبدو بحالة “ستاتيكو” على الأرض، واختبار سياسة “الخطوة بخطوة“.
طعنة في الظهر” بعد “الباغوز”
ربطت الولايات المتحدة -عبر إدارات ثلاث تعاقبت على إدارة الأبيض- وجودها في سورية بمحاربة “الإرهاب”؛ الآخذ حينها بالتمدد مع ظهور و صعود، ثم أفول التنظيم الذي يطلق على نفسه اسم “الدولة الإسلامية”.إذ بدأت واشنطن خلال عهد باراك أوباما، في النصف الثاني من سنة 2014، بالحشد لـ”التحالف الدولي” لمحاربة التنظيم، الذي هُزِمَ جغرافياً في منطقة الباغوز أواخر مارس/آذار 2019، بعد نحو ستة وعشرين شهراً من وصول إدارة دونالد ترامب للبيت الأبيض.
كان ترامب قد اعتبر في يناير/كانون الثاني سنة 2019، أن “سورية ضاعت ولم يبقى فيها إلا الرمال والموت”، متحدثاً عن سحبٍ لقواته من هناك:” أبناؤنا وبناتنا سيعودون، وسيعودون فوراً”.
لكن الإخلاء الجزئي أو إعادة التموضع لهذه القوات، جاء قبل يومين من عملية “نبع السلام” التركية في الثلث الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019، حيث برر ترامب قراره بقوله “حان الوقت للانسحاب من الحروب اللانهائية السخيفة”، بينما اعتبر كينو جبرائيل، المتحدث باسم “قسد”، هذه الخطوة الأمريكية كـ”طعنة في الظهر”.دفع هذا المُتغير، الذي أعقبه بنحو عامين، الانسحاب الأمريكي السريع من أفغانستان في أغسطس/آب الماضي، ثم تصاعد التهديدات التركية(أكتوبر/تشرين الأول)بعملية عسكرية في مناطق “قسد”، للإيحاء بأن واشنطن قد تُعيد ضبط مقاربتها في سورية، وربما تحث خطى الانسحاب العسكري؛ لكن المشهد لا يبدو كذلك تماماً.فمُعاينة الصورة عسكرياً على الأرض، كيف كانت ثم تطورت لاحقاً، ثم ربطها بقراءة الموقف سياسياً، وما يصرح به مسؤولو واشنطن، يُبدد إلى حد ما، ضبابية مشهد شرق الفرات، في المدى المنظور.
التموضع العسكري في 2019
بعد قرار ترامب، سحب وحداتٍ من الجيش الأمريكي في شمال وشرق سورية، بدأت هذه القوات فعلاً إخلاء مواقعها في كل من: أقصى شمال شرق محافظة حلب، وتحديداً في منطقتي عين العرب(كوباني) ومنبج، بالإضافة إلى المواقع العسكرية في الرقة والتي كانت منتشرة في شمال المحافظة، مدينة الرقة، ومطار الطبقة.حينها كانت تتمركز القوات الأميركية، في أكثر من 13 نقطة/قاعدة، ضمن مناطق الرقة وشمال شرق حلب فقط، إضافة لقواعد أخرى في محافظتي الحسكة ودير الزور، وكان الانسحاب الأمريكي من نقاطٍ/قواعد عسكرية عديدة، أبرزها:
مطار الطبقة، الذي كان يحوي مدرجاً لإقلاع وهبوط طائرات الشحن العسكرية، والمروحيات القتالية، ودخلته القوات الروسية بعد الانسحاب الأمريكي، حيث بدأت مؤخراً بتحصينه وتزويده بمنظومة S300 .تل السمن، شمال الرقة، حيث بقيت النقطة خالية بعد الانسحاب الأمريكي، ودخلت لاحقاً القوات الروسية للمنطقة.
اللواء 93 قرب عين عيسى شمال الرقة، ودخله الجيش الروسي بعد الانسحاب الأمريكي.مطار صرين شمال القرية التي تحمل ذات الاسم، واستولت عليه القوات الروسية بعد انسحاب الجيش الأمريكي.
قاعدة قرب منبج عند قرية النعيمية وكانت تحوي قوات قتالية قبل الانسحاب الأمريكي وتمركز الجيش الروسي فيها.
القاعدة الواقعة جنوب عين العرب (كوباني) قرب قرية الغسانية وتمركز فيها الجيش الروسي بعد الانسحاب الأمريكي.
قاعدة قرب قرية السبت بريف عين العرب وبقيت خالية بعد الانسحاب الأمريكي.
ويضاف إلى ذلك قاعدة المبروكة قرب الحدود التركية، جنوب رأس العين شمال غرب الحسكة، والتي أصبحت تحت نفوذ الجيش التركي بعد عملية “نبع السلام”.
ويرى محللون، أن الانسحاب الجزئي للجيش الأمريكي إثر قرار ترامب، أتاح للقوات المتبقية لاحقاً، والتي يقدر عدد أفردها بما يقارب 900، البدء بعملية إعادة تموضع جديدة، حيث تم توزيع قوات الرقة وحلب، على أهم القواعد في محافظتي الحسكة ودير الزور.
الأولويات و شكل القوات 2021
شهد الربع الثاني من سنة 2021 التي وصلت في بدايتها إدارة جديدة للبيت الأبيض، العديد من التغييرات في شكل القواعد الأمريكية المتبقية في سورية، إذ رصدَ خبراء “زيادة في مساحة بعض القواعد، وتحسين دفاعاتها الجوية والبرية، وإنشاء مدراج لطائرات الشحن والطيران الحربي”.
في الوقت الحالي ينتشر الجيش الأمريكي في 13 نقطة/قاعدة عسكرية في كل من محافظتي الحسكة ودير الزور (7 في دير الزور -6 في الحسكة)، ولكن 5 على الأقل من هذه النقاط زادت مساحتها وقدراتها العسكرية بشكل ملحوظ، وخاصة في قاعدتي العمر و كونيكو بدير الزور؛ أما قواعد الحسكة فهي، الشدادي قرب حقل جبسة، الرميلان في مطار أبو حجر الزراعي، تل بيدر(غرب البلدة وعند منطقة القليب).
وإذا أمكن ربطُ التحصين العسكري الإضافي لقاعدتي العمر و كونيكو بدير الزور، بتعرضهما لهجماتٍ قبل أسابيع، من قبل جماعات يُرجح ارتباطها بإيران، يقول محللون إن سبب تغيير شكل التموضع العسكري الأمريكي في شمال وشرق سورية عموماً، قد يكون مرتبطاً بتعزيز الأدوات التي تحفظ أولويات الإدارة الأمريكية في المنطقة، ومنها إبقاء قدرات قتالية كافية لمواجهة أي نشاط لتنظيم “الدولة الإسلامية” والمجموعات المرتبطة بإيران في دير الزور، وفرملة/تحديد زيادة النفوذ الروسي في شمال وشرق سورية، والذي سيبقى مؤطراً ضمن الهامش الذي تتيحه واشنطن كما يبدو وفق المعطيات الحالية.
لا انسحاب..شراكة لمحاربة “الإرهاب”
عندما حشدت تركيا قوات إضافية عند حدودها المتاخمة لمناطق شمال وشرق سورية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مع تهديد رئيسها رجب طيب أردوغان، بأن “التحرشات التي تستهدف أراضينا بلغت حداً لا يحتمل”، و”نفد صبرنا“، بدا المشهد وكأن طبول عملية عسكرية وشيكة اقترب ضربها، لكن المُعطيات اللاحقة للقاء أردوغان – بايدن على هامش قمة العشرين في العاصمة روما 31 أكتوبر/تشرين الأول، أظهرت مشهداً مُغايراً.
إذ خفت صوت هدير المدرعات التي كانت تدفعها أنقرة نحو الحدود الجنوبية، والتقطت “قوات سوريا الديمقراطية” أنفاسها، بعد ثلاثة أسابيع مُربكة بفعل التهديدات والتحركات التركية، وجاء ذلك تزامناً مع رسائل وتحركات بدت سريعة للجيش الروسي، تمثلت في بدء مناوراتٍ عسكرية، قرب تل تمر عند الطريق الدولي “إم-4″ شمال الحسكة، و شرق عين عيسى الخاضعة لـ”قسد” شمال الرقة.
بموازاة ذلك، تتالت تأكيدات أمريكية، في أكثر من مناسبة، على أن “الشراكة” مع “قسد” قائمة، والقوات الأمريكية باقية في سورية، إذ قال المتحدث باسم “البنتاغون” جون كيربي، إن “التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية لم يتغير، كما لم تتغير مهمتنا في سورية، التي ترتكز حصراً على التهديد النابع من تنظيم داعش الإرهابي”.
لاحقاً، وبالتزامن مع اجتماع في شمال شرق سورية، بين وفد أمريكي، ترأسه نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدني، إيثان غولديريتش، وقياديين من “قسد” على رأسهم مظلوم عبدي، أعادت الخارجية الأمريكية عبر حساب “تويتر” لسفارتها في دمشق، موقف التأكيد على أن ” الولايات المتحدة ستحافظ على وجودها العسكري في سورية، لضمان القضاء على تهديد المجموعة الإرهابية”.
ثلاثة أهدافٍ ومحددات
حددت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عبر تصريحات مسؤوليها، أهدافها في سورية مؤخراً بأنها ثلاثة: منع عودة نشاط تنظيم “الدولة الإسلامية“، واستمرار وصول المساعدات الإنسانية، والحفاظ على الهدوء الميداني واتفاقيات وقف إطلاق النار.
واعتبر المتحدث باسم الخارجية في واشنطن نيد برايس، في مؤتمر صحفي يوم التاسع من الشهر الجاري، أن بلاده مع هذه الأهداف، تواصل “تقييم السبل الأفضل لدفع مسار التسوية السياسية بشكل أفضل كما هو محدد في القرار الدولي 2254”.
هذه الأهداف الثلاثة، أعاد تأكيدها أواسط هذا الشهر، ايثان غولديريتش، مساعد نائب وزير الخارجية الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي، في مدينة إسطنبول، معتبراً أن بلاده تضغط “على نظام الأسد عبر العقوبات، لتحسين أوضاع السوريين ودعم ملف حقوق الإنسان”.
ويرى عمار قحف، المدير التنفيذي لـ”مركز عمران للدراسات الاستراتيجية“، أن “المقاربة الأمريكية تقوم اليوم على هدف تسكين وتجميد الصراع وتخفيف الاستثمار الدبلوماسي والعسكري للولايات المتحدة في سورية، عبر استمرار وجود الحد الأدنى من الوجود العسكري وزيادة استمرار الدعم الإنساني لاحتياجات الشعب السوري داخل سورية وفي دول الجور”.
ويضيف في حديثه لـ”السورية.نت”، أن واشنطن التي تقول كغيرها من الدول الفاعلة في سورية إنها تدعم مسار الحل السياسي وفق القرار الدولي 2254، تعمل حالياً وفق ثلاثة محددات.
الأول “إنساني، يهدف لاستمرار تدفق المساعدات الإنسانية، إلى كافة المناطق السورية”.
الثاني “رفع مستوى مشاريع التعافي المبكر وهو مصطلح فضفاض يستخدمه الأمريكان في التفاوض مع الروس لقاء الحصول على هدف التسكين وتجميد المشهد حالياً”.الثالث “استمرار محاربة داعش ومنع ظهور خلاياها مجدداً، وهذا ربما يُبررَ للاستهلاك المحلي داخل الولايات المتحدة”.
اختبار خطوة بخطوة: تخفيف العقوبات
ويقول الدكتور عمار قحف، إن “الإدارة الأمريكية تستخدم هذه المقاربة، لتحقيق هذه الأهداف ليس عبر زيادة العقوبات ضد نظام الأسد كما كانت سياسة ترامب، ولكن عبر تخفيف العقوبات واستخدامها كمحفز ضمن سياسة الخطوة بخطوة، بمعنى نرفع لكم مثلاً عوائق التعافي الاقتصادي والمُبكّر، مقابل عدم تأجيج الصراع وعدم تغيير المعادلات الموجودة على الأرض حالياً”.
ومن هنا تتبلور صورة عدم رسم واشنطن -التي تريد “تغيير سلوك النظام”- لخط أحمر في مسألة انفتاح بعض الدول العربية عليه، رغم حديثها عن “عدم تشجيع” الخطوة، حيث يعتبر مدير “مركز عمران”، أن “هدف الأمريكان من استخدام هذه الحوافز، تسكين وتجميد الصراع ومنع أزمة لجوء جديدة من أي منطقة داخل سورية”، و”اختبار نوايا روسيا” التي وصف تواجدها العسكري حالياً في شمال وشرق سورية بـ”الهش، وغير واضح المعالم”.
أما بالنسبة لتركيا، فإنها من وجهة نظر ذات المتحدث، أجّلت ولكن “لم تحجم عن فكرة العمل العسكري، فالمقاربة التركية تعتمد على مقارعة وجود حزب العمال الكردستاني وهي بهذا المنطلق لا تثق بأي جهة تضبط لها حدودها إن كان من النظام أو الروس والامريكان، وبالتالي هي تريد أن تحقق حماية أمنها القومي”.
وختم بالقول، إن “العملية العسكرية، تبقى أحد أدوات السياسة التركية للدفع نحو مزيد من التفاهمات مع واشنطن وموسكو. والتلويح الأخير بالعملية العسكرية، كان موجهاً نحو الروس بحكم أن هؤلاء قاموا بعدة تصعيدات داخل مناطق درع الفرات و إدلب، وبالمحصلة قد تلجئ تركيا لعملية عسكرية مستقبلاً؛ الوضع الحالي غير ثابت، والأمور مرشحة للتغيير”.
المصدر: السورية.نت