ياسين الحاج صالح //القدس العربي:24/9/2022
كانت الدولة في المجال العربي مساحة للصراع الاجتماعي في حقبة ما بعد الاستعمار، تتأثر به وتؤثر فيه. وهو ما عنى أنها قلما كانت فاعلاً موحداً هي ذاتها، ربما في ما خلا مصر الناصرية، بل حتى مصر بقدر ما على ما يشهد صراع ناصر وعامر إثر حرب 1967. ما أخذ يحصل في الدول العربية الرئيسية في ستينيات القرن الماضي، وأكثر في سبعينياته هو توحيد مركز السلطة، وبالتالي صعوبة تخلل المجتمع له، وبالعكس اختراق جهازي من طرف الدولة للمجتمع وبثقل ساحق.كيف حصل ذلك؟ ثمة، أولاً، أثر الحرب الباردة الذي جعل الدول الضعيفة، العربية وغير العربية، أقل ضعفاً مما هي في الواقع بفعل استنادها إلى شريك من أحد القطبين الدوليين، بينما ظهرت القوى الدولية النافذة أضعف مما هي في الواقع بفعل توازن الردع على مستوى القمة الدولية. هزيمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 تندرج ضمن هذا المنطق: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الأقوى عسكرياً واقتصادياً فشلت، ومصر الناصرية الأضعف خرجت بنصر سياسي.
ثم إن الاستناد إلى ظهير دولي يعطي الدولة الآمنة على نفسها استقلالاً عن المجتمع المحكوم في انفصال عن الديناميكيات الداخلية، بما يسهل للدولة استتباعه وإضعافه.عام 1967، وبعد أن دانت المرجعية الشرق أوسطية للأمريكيين، وقفت الولايات المتحدة بقوة إلى جانب إسرائيل ضد مصر الناصرية.
هذه الحرب أنهت الدولة الاستقلالية العربية، والجيل الذي خاض النضال ضد الاستعمار بصور مختلفة. السبعينيات شهدت إخماد آخر البؤر الثورية في المجال العربي، واحترقت الطاقة الثورية للقضية الفلسطينية في الحرب اللبنانية، وفي الاندراج ضمن الاستقطابات العربية. كان الهجوم الأمريكي على ليبيا عام 1986 إثر حادثة لوكربي إيذاناً بانتهاء منطق الحرب الباردة والاستفراد الأمريكي بالسيطرة العالمية.
ثانياً، مفعول الريع النفطي إثر حرب 1973 التي خرجنا منها مهزومين عسكرياً على الجبهة السورية، ونصف مهزومين على الجبهة المصرية، لكن أعقبتها الصدمة النفطية الأولى التي وضعت بيد دول الخليج فوائض ريعية هائلة، تجاوزت تعزيز استقلالها عن مجتمعاتها إلى تعزيز تبعية المجتمعات لها. ثم إنه جرى «تنقيط» سوريا ومصر ببعض هذه الفوائض، ما كان له أثر مماثل بقدر ما لما حدث في دول الخليج، وبقدر مقارب في العراق وليبيا. الريع وضع المجتمعات في موقع أضعف حيال الدول على جميع المستويات.
فإذا كان «لا ضرائب بلا تمثيل»، وهو ما كان شعار المقاومين البيض لسلطة التاج البريطاني في المستعمرات الأمريكية أثناء الثورة الأمريكية في سبعينيات القرن الثامن عشر، فإنه لا تمثيل مع الريع. الدولة المستولية على منابع النفط بالتعاون مع القوى الصناعية الرأسمالية التي تتغذى به، هي وما تقيم حكم رفاه ريعي، وما تدفع «ضرائب» ولاء متفاوتة لقطاعات من محكوميها، وما يسهل لها أن تستأصل بانتقام بلا حدود أي أصوات معترضة على النظام، بما في ذلك بالمناشير الكهربائية أو بهيئات «المناصحة» التي تحتفظ بالمعتقلين سنوات بعد انتهاء أحكامهم، مثلما هو العرف الجاري اليوم في الإمارات العربية المتحدة.
في المقام الثالث وفرت الانقسامات الأهلية هوامش مناورة واسعة لنخب متواضعة الكفاءة السياسية والأصول الاجتماعية، واستمرأت السلطة والثروة، حتى صارت تغذية الانقسامات استثماراً سياسياً، لا تُفهم من دون فعل الدولة ولا تفهم الدولة من دونها. في سوريا كان لانقسامات المجتمع الموروثة نفاذ متفاوت إلى الدولة حتى الحكم البعثي.
بعد ذلك، وفي زمن حافظ الأسد خصوصاً، صارت الدولة هي النافذة إلى انقسامات المجتمع، تديرها وتتلاعب بها وتثير المخاوف الأهلية.
الكلام على تحالف الأقليات، العابر للحدود ليشمل لبنان إلى جانب سوريا ظهر في سبعينيات القرن العشرين، وأول من أشار إليه في حينه هو كمال جنبلاط، ولعله دفع حياته ثمناً لما رأى.
توفر الطائفية التي صارت شاغلاً فكرياً وسياسياً منذ السبعينيات ريع ولاء رخيص، مقارب في مفعوله للريع النفطي، من حيث إنه يضع بيد الدولة قوة غير متعوب عليها وتكاد تكون مجانية، بما يسهل سحق أي اعتراضات اجتماعية، بالسجون والتعذيب والمجازر.
حين أخذت تظهر مطالب ديمقراطية في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، كان تضافر الديناميكيات الثلاثة المذكورة فوق قد قطع شوطاً مهماً، وأمكن دونما صعوبة إلحاق الهزيمة بأي خصوم سياسيين داخليين.
هذا حصل في سوريا عبر عنف رهيب، وفي العراق وليبيا عبر مزيج من القسوة والريع النفطي، وفي مصر عبر ريع قناة السويس والعمالة المصرية في بلدان الريع النفطي، والمعونة الأمريكية إثر الصلح المصري الإسرائيلي. المعونة ريع سياسي معزز لاستقلال الدولة.
تعبير تغول الدولة دخل الاستخدام أثر انتصارها على أي أصوات داخلية في عقد السبعينيات، ولعله يتضمن ما يتجاوز الديكتاتورية وحكم القسوة إلى ضمور العنصر الإقناعي ونمو البهيمية في هذه الدولة. هذا الانتصار بحد ذاته، وبما يعنيه من هزيمة سياسية ومعنوية للخصوم، هو عامل رابع في التغول، أتاح للدولة كسب ما بين عشرين وثلاثين عاماً من استقرار فوقي، جيل كامل.
وأخيراً، كان للحرب ضد الإرهاب تأثير معزز للدولة عموماً في الشرق الأوسط، وإن يكن عرّض بعض الدول، السعودية بصورة وسوريا بصورة أخرى، لضغط وقتي، مرة إثر 11/9/2001، ومرة إثر احتلال العراق في نيسان/إبريل 2003.
هذا ظهر بقوة حاسمة بعد الثورات العربية. منطق الحرب ضد الإرهاب على ما أخذ بالظهور منذ عام 1993، ثم بالطبع أكثر بعد 2001، هو العمل الأمني والعسكري والسياسي والمالي ضد شبكات إسلامية سنية، لا تدعمها دول خلا أفغانستان التي جرى احتلالها.
التجربة العراقية أقنعت الأمريكيين بأن هناك منظمة مهمة في الشرق الأوسط، اسمها الدولة، هي وكالة ممتازة للحرب ضد الإرهاب. وهذه حرب تعذيبية بنيوياً، أي من حيث هي عنف الأقوياء ضد ضعفاء، وليس فقط من حيث إنها اقترنت بالعودة إلى التعذيب والسجون التعذيبية في أمريكا ذاتها، وفي «المواقع السوداء» المنتشرة في أوروبا الشرقية والقرن الافريقي، فضلاً عن غوانتانامو، التي جعلها الأمريكيون محطات اعتقال وتعذيب للإرهابيين المحتملين.
العدو في الحرب ضد الإرهاب هو بصورة تمييزية الإسلام السني، أي أكثرية العرب. هذه الأكثرية أضعفت، ووجدت نفسها في «الجهة الخاطئة من التاريخ» من دون أن يعرض عليها النافذون في العالم، أو محلياً أي شيء لتغير الموقع.
ويفسر هذا التأويل الضمني للإرهاب الشبكي السني ما يتراوح بين السكوت عن والتعاون مع منظمات لا تزال على قوائم الإرهاب من قبل واضعي القوائم: أعني «بي كي كي» وحزب الله ذاته.
تعرض نموذج الدولة – الغول للتحدي في الثورات العربية، وجرت الاستجابة للتحدي بالتبني التام لمنطق الحرب ضد الإرهاب، على نحو يزايد على مؤلفي هذه الحرب، مثلما يفعل الحكم الأسدي في سوريا.
بمحصلة الثورات خرجت الدول أضعف بعض الشيء، لكن خرجت المجتمعات أضعف بكثير، محطمة مادياً ومعنوياً، وبلا حتى ما كان بقي من حياة سياسية متكيفة مع الشرط الغولي.
مستقبل التغول يبدو مضموناً في المناخات السياسية والنفسية لهزيمة الثورات العربية. يتعلق الأمر بتغول ثان وتدهور أشد للبعد الفكري في الدولة، بعد التغول الأول في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. الدولة اليوم هي البهيمة العامة.