• الأحد , 29 ديسمبر 2024

هكذا دمّرت الدعاية السورية المضادة أحد مؤسسي “الخوذ البيضاء”

*المدن – ميديا | الأربعاء 28/10/2020

قبل شروق الشمس بقليل في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، كانت إيما وينبرغ نائمة بعد ليلة مضطربة في مدينة إسطنبول التركية، لكنها استيقظت في ذلك الصبا ح على صوت طرقات قوية على باب منزلها، لتكتشف بعد لحظات زوجها، جايمس لو ميسورييه، مؤسس منظمة “ماي داي ريسكيو” البريطانية، وأحد مؤسسي فريق الدفاع المدني السوري الشهير “الخوذات البيضاء”، قتيلاً على الأرض تحت شرفة المنزل.

وتحدثت وينبرغ للمرة الأولى إلى الإعلام قبيل مرور عام على “انتحار” لو ميسورييه، في حديث مطول مع صحيفة “غارديان” البريطانية، واصفة اللحظات الأولى لاكتشاف جثة زوجها ورجال الشرطة الخمسة الذين أخبروها بما حصل، وكيف لم تستطع تغطية الجثة بغطاء رغم أنها كانت تستطيع رؤيتها عبر الباب: “كانت أسوأ لحظة في حياتي”.

بعد ساعات كان خبر وفاة لو ميسورييه ينتشر بسرعة ليصبح حديث الدوائر السياسية في إسطنبول وشمال سوريا قبل أن يصل الخبر إلى موسكو ولندن حيث حظي بشهرة واسعة. تم إطلاع كبار المسؤولين في العاصمتين، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، قبل الإفطار.

كان الحدث خبراً عالمياً بتداعيات واسعة النطاق، خصوصاً أن جونسون التقى مع لو ميسورييه أثناء عمله كوزير للخارجية العام 2014، وبقي داعماً لعمل مجموعته غير الربحية.وبحسب “غارديان”، كان لو ميسورييه منذ أواخر العام 2013، يساعد في تنسيق فرق المتطوعين في شمال غربي سوريا، حيث يتمركز معظم أولئك الذين عارضوا الديكتاتور المحلي بشار الأسد.

كانت المنطقة بعيدة عن متناول رجال الإنقاذ التابعين للحكومة السورية، وبالتالي بدأ السكان المحليون من معلمين ونجارين ومدنيين بسطاء، بتنظيم أنفسهم في مجموعات لإخراج أفراد عائلاتهم وأصدقائهم وجيرانهم من تحت الأنقاض التي تخلفها الغارات الجوية العنيفة.وهنا طلب بعض رجال الإنقاذ المساعدة من شركة “آرك” للاستشارات الإنسانية، ومقرها الإمارات العربية المتحدة، حيث كان لو ميزورييه يعمل.

وكان الرجل يشعر بخيبة أمل متراكمة طوال عقد من الزمن أمضاه في الشرق الأوسط، واكتشف خلاله أن شركات الأمن الأجنبية ذات الميزانية الكبيرة، عملت على إثراء المقاولين الأجانب بدلاً من تمكين السكان المحليين. وكان يعتقد أن المنظمات المحلية التي يعمل بها مدنيون على الأرض يمكن أن تقدم المزيد من الأفعال الصالحة. ولهذا السبب وجد أن عمل فريق الدفاع المدني السوري الناشئ مناسب له تماماً، ولهذا استقال من عمله وانتقل للإقامة في تركيا.والحال أن الفكرة نمت بسرعة، حيث كان لو ميسورييه الذي خدم كقائد في الجيش البريطاني خلال تسعينيات القرن الماضي، يساعد في تدريب رجال الإنقاذ المتطوعين وتأمين التمويل الدولي لعملهم. وفي أوائل العام 2014، أسس منظمة “ماي داي ريسكيو” (Mayday Rescue) كمؤسسة توجه المساعدات إلى رجال الإنقاذ، وجعلها شاغله الوحيد إلى حين وفاته.

وقالت “غارديان” أن المفهوم الذي أسسه لو ميسورييه أصبح بسرعة وكأنه “علامة تجارية”، ففريق “الخوذ البيضاء” مثلما بات يعرف في وسائل الإعلام، بدأ باستخدام كاميرات مثبتة على الرأس لتسجيل ما يحدث على الأرض، وانتشرت صور متطوعي فريق الدفاع المدني السوري وهم يتدافعون بين الأنقاض لإنقاذ الأرواح، ووصل صداها إلى أنحاء اعالم. وكانت صور إنقاذ الأطفال من تحت الأنقاض مثيرة للمشاعر حقاً، كما احتفل صانعو الأفلام ومشاهير العالم بجهود المنظمة، التي كانت ترعى نحو 200 فريق محلي في أنحاء سوريا، يتطوع فيها 4000 منقذ وطبيب، كما وفرت المنظمة شاحنات الإنقاذ وسيارات الإسعاف ومعدات الحفر.وبحسب المعلومات المتداولة، تبرعت بريطانيا والدنمارك وألمانيا وهولندا وقطر وكندا بما مجموعه حوالى 30 مليون دولار في السنة، لصالح فريق الدفاع المدني السوري، بموازاة تعرض مئات آلاف المدنيين في شمال غربي سوريا لقصف عنيف وممنهج من قبل الطائرات السورية والروسية، علماً أنه بحلول منتصف العام 2015 كان نحو 500 ألف شخص قد فقدوا حياتهم بالفعل في الصراع، علماً أن أرقام القتلى ازدادت بشدة مع تكثيف الضربات الجوية الروسية في السماء السورية أواخر العام 2015.

وبينما كانت سوريا تتفكك، فإن دول العالم كانت تخشى من التدخل المباشر في البلاد كي لا تنجر إلى كارثة مشابهة لكارثة التدخل العسكري البريطاني الأميركي المشترك في العراق العام 2003، وبدا أن تمويل “الخوذ البيضاء” وسيلة خالية من المخاطر لتقديم المساعدة، وعليه أصبح التعاون بين الحكومة البريطانية ومنظمة “ماي داي ريسيكو” واحداً من التدخلات البريطانية العلنية في الحرب السورية. علماً أن عمل “الخوذ البيضاء” حاز على جوائز عالمية عديدة، بما في ذلك ترشيح المنظمة مرات عديدة لجائزة نوبل للسلام. وفي العام 2016 حاز لو ميسورييه على وسام رتبة الإمبراطورية البريطانية، وفي العام التالي فاز فيلم وثائقي عن “الخوذ البيضاء” من إنتاج “نتفليكس” بجائزة “أوسكار”.لكن، بموازاة تنامي شهرة المنظمة، فإنها اجتذبت أيضاً أعداء أقوياء عازمين على تدمير سمعتها ومطاردة الأشخاص الذين يقفون وراءها.

وكان التعامل مع وفاة لو ميسورييه قبل عام، على أنها جريمة قتل محتملة، منطقياً. خصوصاً أن الرجل وفريق “الخوذ البيضاء” كانا محوراً لحملة تضليل واسعة عبر الإنترنت خلال السنوات الأخيرة، قادها مسؤولون روس وسوريون، روجها المدونون المؤيدون للنظام السوري وشخصيات إعلامية من اليمين المتطرف يصفون أنفسهم كمعارضين للإمبريالية، من بينهم الكندية إيفا بارتليت والبريطانية بايلي والفرنسي بيار لوكوروف.وليس من الصعب فهم الدوافع الكامنة وراء حملة العداء هذه، فالمنظمة الإنسانية كانت تعمل في مناطق سورية خارجة عن سيطرة النظام، وتساعد في إنقاذ ضحايا الهجمات المروعة التي قام بها النظام وحلفاؤه، وفي الوقت نفسه، فإن الصور التي كانت تبثها المنظمة قوضت رواية النظام وسرديته لما يجري في البلاد، وأظهرت أن النظام لا يقاتل الإرهابيين بقدر ما يقصف المدنيين في بيوتهم. ووصلت غارات الطيران على المناطق المدنية إلى مستويات غير مسبوقة منذ أيلول/سبتمبر 2015، عندما تدخلت روسيا في الحرب السورية بشكل مباشر لإنقاذ الأسد من الهزيمة.

وكذبت اللقطات الحية للرجال والنساء والأطفال الذي يعانون من إصابات مروعة، المزاعم الروسية والسورية بأن حملتهم العسكرية لاستعادة محافظة إدلب وضواحي دمشق استهدفت فقط الإرهابيين الإسلاميين والمتعاطفين معهم.وبحسب “غارديان”، نمت حملة التضليل الإعلامي بسرعة، وكان هدفها زرع الشكوك حول “الخوذ البيضاء” ونشاطهم التوثيقي للحرب السورية. ومع مرور الوقت، أصبح شمال غرب سوريا نقطة جذب للمتطرفين العازمين على استخدام الفوضى لشن جهاد عالمي. واستغل المروجون للبروباغندا الرسمية حالة التشويش الحاصلة على الأرض. وسرعان ما ظهرت مزاعم عبر الإنترنت بأن تنظيم “القاعدة” اخترق “الخوذ البيضاء” وأن التنظيم الجهادي استولى على الجماعة كطريقة بسيطة للحصول على أموال أجنبية. وبرزت أيضاً اتهامات بأن المجموعة أنشئت من قبل حكومات غربية متؤامرة لإزاحة الأسد من السلطة لأهداف استعمارية، بموازاة الحديث عن أن متطوعي “الخوذ البيضاء” يفتعلون الأزمات الإنسانية من أجل تشويه سمعة الكرملين ونظام الأسد على المستوى الدولي.

وتم الترويج لنظريات المؤامرة السابقة عبر الإعلام الرسمي السوري والروسي، بالإضافة لتوظيف “الأغبياء المفيدين” من الشخصيات الرائجة في “يوتيوب” و”تويتر” لبث هذه الاتهامات الكاذبة. وكان لو ميسورييه شخصياً هدفاً يومياً للتلفزيون الروسي الرسمي، حيث وصف بإنه إرهابي وجاسوس يمارس الجنس مع الأطفال ويتاجر بالأعضاء البشرية، من بين اتهامات أخرى. كما تم وصفه بأنه عميل للاستخبارات الغربية ويستخدم المنظمات الإنسانية كـ”حصان طروادة” من أجل تغيير الأنظمة السياسية المستقرة، ووصل الأمر حد التشهير به في مجلس الأمن التابع للأمن المتحدة، عبر لجنة شكلتها موسكو.وكان الهدف هو تشويش الفضاء الإعلامي بأكاذيب من شأنها تقويض ثقة الداعمين لـ”الخوذ البيضاء” بالمنظمة، وخصوصاً الحكومات المانحة. وأثرت حملة التضليل بالفعل، على سمعة “ألخوذ البيضاء” والروح المعنوية لمتطوعيها. وفي أيلول/سبتمبر 2018، تحدث “لو ميسورييه” مع مراسل “غارديان” مارتن شولوف عن عن العبء المتزايد والتوتر النفسي الناجم عن حملة التضليل.

وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الجغرافيا السياسية للصراع السوري وطبيعة الحرب نفسها أكثر صعوبة من أي وقت مضى. حيث بات شمال غرب سوريا الركن الأعلى كثافة بالسكان في البلاد، لأن النازحين واللاجئين والهاربين من كافة المناطق استقروا هناك ضمن المجتمعات المحلية، التي تمركزت فيها أيضاً بعض الجماعات الإسلامية المتشددة. وأصبحت مسألة من يسيطر على إدلب جوهرية بالنسبة للحكومات التي أرادت توضيحاً بشأن اليد التي تتلقى منحها المالية.

وقال مدير البرامج السابق في “ماي داي ريسكيو” إيثان ويلسون أن المنظمة تعرضت طوال العام 2019 لضغوط متزايدة. وواجه الدبلوماسيون الذين يتعاملون مع المنظمة مزيداً من الأسئلة التي طرحها السياسيون حول كيفية ومكان إنفاق أموالهم. وكانت هنالك مخاوف من أن المنظمة لا تمتلك أنظمة وهيكلية كافية لمراقبة تدفقات التمويل والحسابات العديدة. وتم طلب إجراء تدقيق من قبل وزارة التنمية الدولية في الحكومة البريطانية أواخر العام 2018 وتم تسليمه في حزيران/يونيو 2019.وفي الأسبوع الأخير من حياة لو ميسورييه، بلغ التوتر حده الأقصى. وفي 7 تشرين الثاني/نوفمبر، قبل أربعة أيام من وفاته، اجتمع مع فريق جديد من مدققي الحسابات، وبات يشعر بأنه يفقد السيطرة على “ماي داي ريسكيو”.

وبات يفكر أن كل ما كان يعمل من أجله طوال سنوات، يواجه تحديات مفاجئة وصادمة بطريقة لا يمكن أن يفهمها. والأسوأ من ذلك، كانت سمعة مؤسسته وفريق “الخوذ البيضاء” على المحك. وصار يخشى أن يحكم عليه التاريخ بأنه الرجل الذي دمر الإرث الإنساني للفريق وعرض المساعدة للسوريين المحاصرين للخطر. وكان ذلك الضغط لا يطاق ودفعه للانتحار، تحت وطأة اتهامات ثبت أنها محض افتراءات كاذبة.وفي مطلع العام الجاري، تم استدعاء الخبير الهولندي المخضرم كورنيليس فريسفيك (62 عاماً) لفحص الحسابات المالية لمنظمة “ماي داي ريسكيو” بناء على طلب المانحين الذين كانوا منزعجين من بريد إلكتروني أرسله لو ميسورييه لهم قبيل وفاته، وأثار فيه العيد من القضايل المالية. وكانت المنظمة تواجه أسئلة حول عمليات اختلاس محتملة قام بها لو ميسورييه وزوجته طوال سنوات، فيما كانت المعاملات المالية في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا، شديدة الصعوبة من ناحية التوثيق لكونها تجري بشكل نقدي وليس عبر معاملات بنكية. وكانت المنظمة الممولة من قبل عديد من الحكومات، كل منها مسؤولة أمام سياسييها، معقدة بما فيه الكفاية بشكل يترك أثراً على مستقبل المساعدات الإنسانية في سوريا عموماً.وبحلول منتصف شهر آذار/مارس الماضي، بدأ كورنيليس يشك في سردية الاختلاس التي كانت شائعة حول المنظمة، وقال: “أصبح من الواضح تدريجياً أن هذه المزاعم لا يمكن أن تكون صحيحة”.

وأضاف: “لم نتمكن من العثور على فلس واحد تم إنفاقه بصورة غير مبررة”، وأشار التقرير النهائي وتقارير أخرى مشابهة إلى نفس النتيجة مع انتقاد الهيكلية الإدارية والتنظيمية للمنظمة، التي جعلت هذه الاتهامات تنتشر في المقام الأول.من جهته، قال إليوت هيغينز، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ”بيلينغكات”، وهي منظمة صحافة استقصائية ركزت على النفوذ الروسي في سوريا وأماكن أخرى: “جايمس، من دون أن يشعر أيقظ جيشاً. كان جوهر المحرضين ضده مجتمعاً هامشياً مناهضاً للإمبريالية، موجوداً بالفعل. وقامت روسيا برعاية هذا المجتمع تحت جناحها واستخدمت أفراده لبث معلومات كاذبة بشأن الخوذ البيضاء”، موضحاً أن التعامل مع أولئك النقاد كان صعباً “لأنه كلما تفاعلت معهم زاد عدد الأشخاص الذين يسمعون ما يقولونه”.

مقالات ذات صلة

USA