ابراهيم الجبين
تم تدريب المعارضة السورية نفسياً خلال الأعوام العشرة الماضية على رفض الاعتراف بالواقع، وانتقلت إليها تلك الخصلة التي لطالما انتقِد عبرها المستبدون؛ الانفصال عن الواقع وعدم الاعتراف به، فغدت المعارضة غير قادرة على التعامل مع الحقائق الراهنة بصورة طبيعة، وبدفع من قوى ما، تشعر هي وحدها بها، تجد نفسها مصرّة على إنكار ما بات الجميع متيقناً منه.
فشل الجولة الأخيرة من أعمال اللجنة الدستورية، وإعلان المبعوث الدولي غير بيدرسون أنها كانت مخيبة للآمال، لم يكن مفاجأة لأحد. ولا حتى للمعارضة ذاتها ولا للجنتها الدستورية، إلا أنها وفقاً لما أعلنه قادتها، بحاجة إلى الظهور بمظهر المنضبط الملتزم بقرارات الأمم المتحدة والتفاهمات الدولية، والمحتاج دوماً للمزيد من البرهة على أن نظام الأسد غير عابئ بها ولا مكترث لأي التزامات سبق أن أعلن عن تقيدها بها.وماذا بعد؟ ما جديد تلك المعادلة؟ فالنظام لا يصدم المجتمع الدولي لأول مرة، هذا نهجه وهذه سياسته، مقابل ما يظهره ذلك المجتمع من عجز أمام هذا التفلّت واختراق جميع التفاهمات الدولية وقبلها القوانين الدولية وحقوق الإنسان وقبلها ارتكابه لكل أشكال جرائم الحرب واعتقال المدنيين وتعذيبهم وقتلهم بدم بارد وما إلى آخر تلك السلسلة التي لا نهاية لها.
ليس مطلوباً من بضعة سياسيين عزّل لا يملكون من أمرهم شيئاً أن يقهروا إرادة نظام عجزت عن ردعه جيوش دول كبرى ودول في الإقليم
الدقيق أن المعارضة السورية بوضعها الحالي، تدرك هذا أيضاً وليست مشوشة كما يحاول البعض تصويرها، غير أنها تدرك معه ما معنى اعترافها بفشل الحل السياسي. إن هذا سيعني أن الشارع السوري سيطالبها على الفور ببديل، والبديل يكاد يكون أصعب من الحلين العسكري والسياسي معاً.
الاعتراف بفشل المفاوضات مع نظام مثل نظام الأسد، ليس نقيصة ولا يكشف عجز المعارضة عن أخلاقيات التفاوض واجتراح الأساليب. فليس مطلوباً من بضعة سياسيين عزّل لا يملكون من أمرهم شيئاً أن يقهروا إرادة نظام عجزت عن ردعه جيوش دول كبرى ودول في الإقليم بعضها يهرول اليوم نحو الأسد، وكأنه الملاذ الأخير للعرب من الخطر الفارسي الذي دخل البيوت وبات خلف أبواب غرف النوم.
الاعتراف بفشل المسار السياسي، من جانب آخر، ليس إعلان هزيمة، كما حاول كثيرون خلال الأعوام الماضية إيهام السوريين، فمن فشل في هذا المسار هو الأسد ولا أحد غيره. والتعنّت الذي يظهره ليس من علامات الانتصار بل على العكس تماماً، هو عجز تام عن التحوّل إلى مستقبل جديد، وفراغ جعبة لم يعد فيها سوى ورقة بيع سوريا وثرواتها وسيادتها للداعم الروسي – الإيراني. ولا معنى لانتصارات بـ”يد الغير” ترسّخ واقعاً لا يدوم ولن يقوى على قيادته الأسد ونظامه.
يعتقد كثير من العاملين في الشأن السوري المعارض أن الحل السياسي هو الفرصة الأخيرة، بعد أن قيل لهم إن المقاومة العسكرية طريقها مسدود وإن العالم يحاربها وإنها اليوم تقوم على فصائل متنازعة وعلى جهاديين هنا أو هناك، من بينهم من تضعه الولايات المتحدة أكبر حليف للمعارضة السورية على لوائح الإرهاب.
باختصار تمكّنت المعارضة من الاعتراف بهزيمة عسكرية للثورة، لكنها تعاند الاعتراف بفشل التفاوض مع الأسد.النفس الطويل ليس في البحث عن السراب والتشبّث بالحلول التي لا تفضي إلى شيء. بل بمراجعة الأداء كله، واعتبار التوقف عن شرعنة الأسد، كلما حان موعد جديد للجنة الدستورية، نقطة تحوّل ستليها استحقاقات كبرى، أبرز ما فيها أنها شأن سوري سوري، تجري بين السوريين أنفسهم، وفي ضفة الثورة لا في مستنقع النظام كما روّج البعض، حين طرح نقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق ليحاول تغليف رغبته بالتطبيع مع الأسد بحرصه على سوريا من الأميركيين والصهاينة، على حد قوله.
وهو لا يأتي بجديد، فقد طرحنا قبل أعوام أن نقل أعمال اللجنة الدستورية بضمانة دولية هو نوع من كسر لأنف الأسد، لكن بشروط، أولها إخراج المعتقلين والتوقف عن اعتقال المزيد وضمان أمن المعارضين السوريين في الداخل والخارج، وهو ما لم يحصل آنذاك، فكيف سيحصل اليوم والأسد يشعر بأنه قد تنفّس بفتح ثغرات في المواقف الدولية منه، وأن نوافذ الأمل قد أشرعت من هذا البلد العربي أو ذاك تجاهه.
الهلع من الاعتراف بفشل جنيف أصبح مثل حكاية الملك العاري وثوبه الشفاف، فالكل يرى الآن أن المعارضة السورية لا تريد ذلك، لقلقها مما سيليه، إلا المعارضة وحدها، ما زالت تعتقد أنها مستورة معفاة من تقديم بديل.
وحين يسأل سائل من السوريين تلك المعارضة إلى متى هذا اللحاق بالوهم؟ يأتي الجواب سريعاً: هاتوا البديل. ألا تذكّر هذه العبارة الرجيمة بما أثار غضب السوريين طويلاً عن المطالبة بإسقاط نظام الأسد، والسؤال: ما البديل؟
هناك من فقد الأمل من مماطلة الأسد ومن الألاعيب الروسية. والتكوين الذي يعاد تشكيله الآن لن يذهب سدى، فهناك مؤسسات عسكرية تنشأ، وهناك قوى تعمل على إعادة التموضع على الخارطة
التحولات والتصادمات الاجتماعية الإيجابية التي تجري بين تيارات الوعي في المناطق غير الخاضعة لسلطة الأسد، يمكن أن يُبنى عليها الكثير، ولعل الذي كان يريده الروس والإيرانيون من وتهجير وحشر أهل الثورة في أماكن محددة في الشمال السوري ينقلب الآن على أصحابه، لتصبح تلك المناطق، على ما جرى فيها مما يمكن أن يقع في أي بلد مستقر، فتصبح تلك المناطق منصات جديدة لإنتاج الثورة من جديد، بصيغتها الأحدث والأكثر قدرة على تحقيق أهدافها.
ما يجري خلف الصورة العامة من تطورات على الساحة العسكرية بين الفصائل السورية والتحاقها بالجيش الوطني، كفيل وحده بدفع المعارضة إلى إعادة النظر. فهناك من فقد الأمل من مماطلة الأسد ومن الألاعيب الروسية.
والتكوين الذي يعاد تشكيله الآن لن يذهب سدى، فهناك مؤسسات عسكرية تنشأ، وهناك قوى تعمل على إعادة التموضع على الخارطة.
ولكن لا يمكن لذلك الطور الجديد أن يحدث، ويكون خلاقاً، بالأدوات ذاتها وبالذهنية ذاتها، ومن لا يشعر بهذا سيجد أن السوريين قد تجاوزوه يوماً ما، وأنه بات خلفهم في طريق الحل الذي لن يكون كما يتوقعه الأسد ولا معارضوه الحاليون.