• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

الأسد.. حاكم سوريا أم مالكها؟

حسن النيفي .

بعد موت حافظ الأسد بأسبوع، أي في السابع عشر من حزيران لعام 2000 ، انعقد – على مدى أربعة أيام – المؤتمر القطري التاسع لحزب السلطة ( البعث) في دمشق، بهدف إقرار التوريث الشرعي لبشار الأسد كأمين عام للحزب وقائد أعلى للجيش والقوات المسلحة، وفي موازاة انعقاد المؤتمر، وبالتاريخ ذاته، أقلّت طائرة مروحية أربعةً من كبار ضباط المخابرات، حيث هبطت في سجن تدمر العسكري، أذكر أسماء اثنين منهم ( هشام الاختيار) الذي قُتل في العملية التي استهدفت خلية الأزمة عام 2012، واللواء محمد سيفو، الضابط المعروف في سلك الأمن السياسي.

وعلى مدى يومين متتاليين قابلت اللجنة الأمنية المذكورة معظم سجناء تدمر، تراوحت مدّة المقابلة من دقيقة إلى دقيقتين في الحد الأقصى للسجين الواحد. وقد أشاع فحوى المقابلات آنذاك بعض الأمل في نفوس السجناء، وكان معظمهم من الإسلاميين الذين شارف أكثرهم على إتمام عقدين من عمره في السجن.الحديث المقتضب لأعضاء اللجنة الأمنية أثناء مقابلاتهم مع السجناء كان يتركّز بالعموم حول التأكيد على أن سوريا مقبلة على عهد جديد، وأنه يتوجب على جميع الذين أخطؤوا بحق الوطن والدولة، أي السجناء، أن يثوبوا إلى رشدهم، وخاصة أن السيد الرئيس الجديد سيمنحهم فرصة التكفير عن أخطائهم، بالإفراج عنهم، إنْ همْ أثبتوا حسنَ نيّة حيال تلك الفرصة، وما هو لافتٌ، أن أعضاء اللجنة الأمنية كانوا يركّزون بشدّة أثناء المقابلات على ردّات فعل السجناء أثناء الحديث، أي أن ما يريدونه على وجه التحديد هو مدى الاستعداد النفسي للسجناء على نسيان تفاصيل معاناتهم المريرة، والتعامل بإيجابية مع الحقبة الأسدية الجديدة.

الحديث المقتضب لأعضاء اللجنة الأمنية أثناء مقابلاتهم مع السجناء كان يتركّز بالعموم حول التأكيد على أن سوريا مقبلة على عهد جديدوعلى الرغم مما أثارته هذه المقابلات الأمنية من تفسيرات وتأويلات بين السجناء، حول احتمال تغيير جدّي في ممارسة السلطة في سوريا، فقد ظل سقف الطموحات لدى القسم الأكثر لا يتعدّى فرصة الخروج من السجن، وقد تبيّن لاحقاً أن حتى هذه الفرصة لم تتحقق، إذ اكتفى بشار الأسد بإصدار عفو عن ( 600 ) معتقل فقط، في 16 تشرين ثاني عام 2000، بمناسبة ما يدعى بالحركة التصحيحية.

ما نضح من أحاديث وتلميحات اللجنة الأمنية، كان له تداعيات أقوى خارج السجن، إذْ ذهب الكثير من السوريين إلى حدّ الاعتقاد بوجود صراع بين تيارين داخل السلطة، أحدهما سُمّيَ ( الحرس القديم) وهو الذي يقف عائقاً أمام أي تغيير في نهج السلطة، وآخر ( جديد ) يدعو إلى الإصلاح والتحديث، وهذا التيار أغلبه ممن التف حول بشار،علماً أن المعطيات السابقة واللاحقة جميعها لا تؤكّد حصول صراع كهذا، لعل الأرجح أن الأمر لا يعدو كونه إشاعات من تصميم ونشر أجهزة المخابرات ذاتها، هذه الإشاعات تشبه إلى حدّ بعيد ما حاولت أجهزة المخابرات ترويجه حول تصميم بشار الأسد على المضيّ بنهجه الإصلاحي، على الرغم مما يواجهه من عقبات جسام، ولكن الأولوية ستكون للإصلاح الاقتصادي، ثم تأتي لاحقاً، وبالتدريج ،عملية الإصلاح السياسي، وقد تُرجِم الإصلاح الاقتصادي فيما بعد بإقدام السلطة على تحويل العديد من منشآت القطاع العام للقطاع الخاص، أو ما سُمّي بعملية ( الخصخصة)، وإتاحة المجال لإيجاد شراكات جديدة بين رأس المال والسلطة، كان من أبرز نتائجها ظهور مافيات مالية جديدة، وقسم من هذه المافيات انتهى إلى مواجهة علنية يخوضها مع رأس النظام .

لعل الدافع المخابراتي وراء الترويج لما سُمّي زوراً بالإصلاح، هو مشاغلة الرأي العام، وصرف الأنظار عما واكب عملية التوريث من إجراءات هزلية، لعل أبرزها تعديل الدستور بدقائق، ليناسب عمر بشار الذي لم يتجاوز آنذاك خمساً وثلاثين سنة. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإن الكوابح الحقيقية التي تحول دون إقدام الحكم الأسدي ، سواء في حقبة الأب أو الابن، على أي خطوة إصلاحية من شأنها أن تغيّر في نمط ممارسة السلطة، إنما تعود إلى تصوّر النظام لماهيّة السلطة أولاً، إذ لم يخامر الشك رأس النظام ولا لمرة واحدة، بأنه ليس حاكماً لدولة، بل هو مالك لعقار اسمه سوريا، وجميع ما يدب فوق هذا العقار هو ملك له، ومُسخّر لبقائه وديمومته في السلطة، ولعلّ هذا ما يفسّر التوحّش المطلق للنظام حيال كل من تعاطى السياسة كحق مشروع في نقد سلوك السلطة، إذ ربما بدا ذلك – وفقاً للأسد – على أنه عقوق سافرٌ، يستوجب أقصى درجات العقوبة.

لقد حاز بشار الأسد إبان توريثه الحكم، من عوامل القوة ما لم يكن مُتَوقعاً، ففضلاً عن ولاء حاشيته وجميع رموز الحكم في الجيش والمخابرات، فإن الموقف العربي والدولي كان مُباركاً له ، وبقوّة، ولو كانت تنتابه – آنذاك – أي نزعة او رغبة في تحسين علاقة سلطته بالشعب السوري لفعل ذلك، وبالطريقة التي يحددها ويختارها هو، لغياب أي شكل من أشكال الضغط عليه، وربما لو فعل شيئاً من هذا، لظهر أمام مؤيديه وحاشيته وربما الكثيرين سواهم – بمظهر القائد الأعظم صاحب الفضل الكبير والمنّة العظيمة، إلّا أنه لم يفعل، انسجاماً مع اعتقاده وتصوّره بان زحزحة أيّة بحصة من مكانها، ربما تتبعها انزلاقات أخرى قد تجعل الهرم الرملي يتداعى بحصةً تلو أخرى.ربما استطاع الأسد أن يوهم الكثير من مؤيديه بمشروعية حربه على السوريين، باعتباره المدافع عن البلاد في وجه المؤامرة الكونية التي تستهدف سوريا، وربما استطاع أيضاً أن يوهم المجتمع الدولي بأن ما يجري في سوريا لا يعدو كونه نزاعاً أهلياً سببه الإرهاب المتسلل من الخارج، وأن النظام هو أحد أطراف النزاع، وليس جذره الحقيقي وسببه المباشر، وربما استطاع كذلك، أن يوهم من ادّعوا أنهم خصومه ومعارضوه، بعبثية المفاوضات والمساعي الرامية إلى إيجاد حلّ سياسي لقضية السوريين،

ولكنّ إقناع الملايين من ضحاياه، سواءٌ الذين قضوا بقصف طائراته وبراميله، أو الذين ماتوا اختناقاً بعدوانه الكيمياوي، أو الذين يكابدون الشقاء في سجونه، أو الذين ماتوا غرقاً في البحار، أو الذين نزحوا أو تهجروا، هؤلاء أولياء الدم والوجع والقهر، هم وحدهم، يصعب إقناعهم بأن نظام الأسد يصلح للاندماج بالمنظومة الإنسانية للبشر، ولعلّ هؤلاء وحدهم – أيضاً – يدركون جيداً أن مواجهتهم مع نظام الأسد هي مواجهة وجودية، لا تحتمل بقاء الطرفين، ذلك أن الضامن الحقيقي لبقاء الأسد هو قبول الطرف الآخر بعدمية إنسانية ترفضها الفطرة السليمة للكائن البشري.استمرار المواجهة بين نظام الأسد وضحاياه تجاوزت الميادين القانونية والدستورية، بل تحوّلت إلى معركة (قيمية) لا يصلح لخوضها إلّا من استمسك بجذرها الأخلاقي.

مقالات ذات صلة

USA