عبد الباسط سيدا
العربي الجديد:15/6/2021
من بين ما يميز المجتمعات الديمقراطية عن تلك الاستبدادية النظرة إلى الحكم، وحدود التصرّف في الثروات العامة، والموارد المالية الخاصة بالدولة، فبينما تدرك القوى التي تشكل الحكومة، بعد فوزها في الانتخابات النزيهة، وفق القواعد المتفق عليها في النظام الديمقراطي المتبع، أن وظيفتها لا تتجاوز حدود إدارة الدولة والمجتمع، وتأمين احتياجاتهما عبر تقديم الخدمات للمواطنين، وفتح الآفاق أمامهم، ومعالجة المشكلات الموجودة؛ واستشفاف ملامح المشكلات المستقبلية، وماهية الخطط الاستراتيجية الرامية إلى الحدّ من تأثيراتها، وتجاوزها نحو فضاءاتٍ أوسع، تضمن الرعاية الصحية الجيدة، والتعليم المتطوّر، وفرص العمل المنتج لجميع المواطنين من دون أي تمييز أو استثناء.
هذا في الأنظمة الديمقراطية. أما القوى التي تسلطت على الحكم والمجتمع بالقوة والإكراه، بمختلف الأشكال، في الأنظمة الاستبدادية، فهي ترى أن من حقها التصرّف، وبصلاحياتٍ كاملة، بموارد الدولة والمجتمع، وكأنها ملكٌ خاص للزمرة الحاكمة، ومن دون أي التزام بتأمين حاجات المجتمع، أو تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. وهذه الظاهرة مستفحلةٌ في الأنظمة الجمهورية العربية في منطقتنا أكثر من الأنظمة الملكية. وربما لهذا الأمر تفسيراته، فالأنظمة الملكية والأميرية في منطقة الخليج اعتمدت نظاماً وراثياً محدّد القواعد، ارتكز على المجتمع الأهلي وتقاليده وقواعده، الأمر الذي حقّق للأنظمة والمجتمعات المعنية قسطاً ملحوظاً من الاستقرار، حتى في مرحلة ما قبل الفورة النفطية التي جاءت لتمكّن هذه الأنظمة من تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين؛ بل وتحقيق إنجازات كبرى في ميادين العمران والتجارة والاستثمارات المستقبلية.
ولكن هذا لا ينفي وجود ثغراتٍ وتبايناتٍ حول قضايا وتوجهاتٍ عديدة في الدول المعنية، خصوصا على صعيد حقوق المرأة ودورها الفاعل المطلوب في الدولة والمجتمع، مع ضرورة الإشارة هنا إلى بداياتٍ مشجّعة.
ولعله من المناسب أن تتم المقارنة في هذا المجال بين مستويات المعيشة ومستوى التطور العمراني، وفاعلية المؤسسات الصحية والتعليمية والبحث العلمي في الدول الخليجية والدول ذات النظام الجمهوري، التي كانت، وما زالت تمتلك من الثروات النفطية التي كانت، وما زالت، تُنفَق على نزوات المتحكّمين ومغامراتهم وفسادهم. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى ليبيا والعراق. أما النظامان الملكيان في كل من الأردن والمغرب اللذين افتقرا إلى إمكانات الدول الخليجية، وعانيا، في الوقت ذاته، من مشكلاتٍ داخلية وإقليمية، فقد التزما صيغةً، ولو نسبية محدودة، من صيغ الملكية الدستورية التي فتحت المجال أمام العمل السياسي المقيد، وشهدا الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبولة بصورة عامة، الأمر الذي انعكس إيجاباً على استقرار الدولتين، وأدّى إلى عدم تعرّضهما للهزّات العميقة التي تعرّضت لها جميع الأنظمة العربية الجمهورية. ولا يُقال هنا إن الأوضاع مثالية في المملكتين، ولا يُلقى الستار على جملة المشكلات الأساسية التي تعاني منها الدول العربية ذات النظام الملكي؛ وإنما ما يرادُ بيانه أن الأوضاع في تلك الدول، على الرغم من كل النواقص والسلبيات، تظلّ أفضل بكثير من الأوضاع التي عاشتها، وتعيشها، الأنظمة العربية الجمهورية العسكرية “الثوروية” التي اتخذ معظمها من الأيديولوجيا القومية، وشعار تحرير فلسطين والوحدة العربية، ومواجهة الإمبريالية والصهيونية والرجعية، غطاءً لها للتغطية على استبدادها وفسادها على مدى عقود أنهكت المجتمعات، وحوّلت الدول إلى كياناتٍ عائمة، توجّهها أمزجة الحكام؛ وتتحدّد ملامحها ووظائفها استناداً إلى الصراعات الداخلية بين أجنحة الحكم ومراكز السلطة.
ولعل المثال السوري في هذا الميدان هو الأوضح على صعيد ما ألحقه النظام العسكري المستبد الذي تلحف بالأيديولوجيا القومية – الاشتراكية، لـ “يشرعن” سطوته وسيطرته على مفاصل الدولة والمجتمع السوريين. تلك السيطرة التي امتدّت، بفعل الأجهزة الأمنية المعقدة المتشابكة، إلى الحياة الخاصة للأسر والأفراد، وتحكّمت بأرزاق الناس، وسدّت عليهم جميع منافذ حرية التعبير، وحوّلت العمل السياسي خارج نطاق حزب البعث إلى مجرّد استطالة شكلية، مهمتها الإيحاء بوجود تعدّدية سياسية، قولبها حافظ الأسد ضمن “الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1972. أما من اعترض، فكان مصيره التهميش والتغييب و”الشيطنة”.
لقد تعامل حافظ الأسد مع الدولة السورية كأنها من ممتلكاته الشخصية. أعطى لنفسه كامل الحق في التصرّف بمقدّراتها، وهندسة هيئاتها ومؤسساتها. ووضع الواجهات التزينية التي كانت توحي بانطباعاتٍ زائفةٍ مفادها بأن هناك عملية تقسيم للسلطة بين المؤسسات؛ وذلك بعد أن تمكّن من إزاحة سائر المنافسين ضمن الدائرة الضيقة في الزمرة الحاكمة التي كانت قد سيطرت على البلاد في انقلاب 1963؛ الذي سوّقته سلطات حزب البعث تحت اسم “ثورة 8 آذار”، وكانت، في واقع الحال، وبالاً على سورية والسوريين، وما زال الشعب السوري يدفع ضريبة مآلاتها.
لم يقتصر دور حافظ الأسد في التأسيس لسلطة الاستبداد في سورية اعتماداً على الأجهزة الأمنية التي تمكّنت من التحكّم بالحزب والدولة والمجتمع، وحوّلت المنظمات الشعبية إلى مجرّد امتداد للسلطة. كما تحكّمت بالاستفتاءات والانتخابات الشكلية التي قرّر الأسد تنظيمها لتكون دعايةً مضللة تروج كأنها تعكس توجه النظام الديمقراطي.
وإنما أسّس الأسد للفساد الشمولي الذي لم يقتصر على المسؤولين الكبار، بل اتسع نطاقه، ليشمل غالبية الموظفين العاملين لدى الدولة الأمنية. ولم يقتصر الفساد على الوظائف المدنية، بل شمل الجيش الأجهزة الأمنية. وتجلى ذلك بصورة خاصة في الرشاوي والسرقات والتهريب وتجارة الممنوعات؛ حتى بات الفساد من سمات “الثقافة العامة الأسدية”، لم يسلم منها إلا من التزم ضميره، وظل محافظاً على كرامته، على الرغم من جميع الصعوبات.
ولم يكتف حافظ الأسد بإفساد العاملين في الدولة، بل حرص على بناء شبكةٍ من التجار ورجال الأعمال ورجال الدين المرتبطين بالنظام؛ خصوصا في حلب ودمشق، الذين استفادوا من القوانين والإجراءات الاقتصادية التي كانت تأتي في مصلحتهم.
ومع الوقت، ترسّخت الشراكات بين هؤلاء ومسؤولي النظام الكبار، سيما من الأمنيين والعسكريين، ليصبح السوريون في مواجهة تحالف الاستبداد والفساد. وكان الفساد العام واجهةً للتغطية على الفساد الأكبر الذي مارسته أسرة الأسد، والأسر المرتبطة معها بروابط النسب والعلاقات الزبائنية. فقد سيطرت هذه الأسر على النفط والمعابر والموانئ، واستفادت من المساعدات الخليجية التي كانت تقدّم لسورية بسخاء، باعتبارها دولة مواجهة.
وكان النظام يدّعي أنه يسخر تلك الموارد لبناء التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل الذي تبين لاحقاً أنه لم يتجاوز حدود التفاهمات الإستراتيجية التي هندسها هنري كيسنجر في اتفاقيات فك الارتباط عام 1974، والتي أفسحت المجال أمام الأسد للتدخل في لبنان، والسيطرة عليه، ليهيمن عليه لاحقا النظام الإيراني عبر واجهته، حزب الله، خصوصا في مرحلة الأسد الابن.
وكان من اللافت حرص النظام الأسدي، بمرحلتيه، على تسويق وهم محدودية موارد سورية وإمكاناتها الاقتصادية؛ والعزف على وتيرة ضرورة إنجاز الوحدة العربية أولاً، ليتحقق التكامل الاقتصادي، وتتوفر الشروط المطلوبة للنهضة الاقتصادية.
هذا في حين أن دولاً كثيرة أصغر من سورية مساحة، وأقل سكاناً، وبموارد شبه معدومة مقارنة مع موارد سورية، استطاعت تحقيق قفزاتٍ نوعيةٍ في ميدان التقدم الاقتصادي، وتوفير مقوّمات العيش الكريم الواعد لمواطنيها، وذلك باعتمادها نهج الشفافية والنزاهة، ومحاربة الفساد، والمحافظة على حقوق المستثمرين.
ثار السوريون قبل أكثر من عشر سنوات على النظام الذي لم يعط الجيل السوري الشاب الأمل، ولم يوفر له الشروط المطلوبة ليمارس دوره في بناء وطنه، ونهضة مجتمعه. وفي البداية، كانت المطالبات بالإصلاح كما نتذكّر جميعاً، وكانت الدعوة إلى محاسبة الفاسدين، وضمان الحريات بإلغاء قانون الطوارئ، وإلغاء المادة الثامنة في الدستور التي كانت تقضي بأن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع قبل الانتخابات.
ولكن النظام عوضاً عن أن يتعامل مع الموقف بحكمة ووطنية ومسؤولية، لجأ إلى سلاحه القديم – الجديد، ترويع السوريين بالقمع والاعتقال والقتل.
وبناء على ما تقدّم، المشكلة المستعصية التي تعاني منها مجتمعات منطقتنا لا تتمثّل في الاستبداد وحده، بل في الاستبداد المتحالف المتداخل المتفاعل عضويا مع الفساد، ولا مخرج من دون الخلاص من الاثنين، خصوصا آفة الفساد؛ فبلجمها تزول الأسباب التي تدفع المستبد إلى التمسّك بالسلطة حتى الرمق الأخير، حتى ولو أدّى به إلى فتح البلاد أمام كل الجيوش والمليشيات كما هو حاصل اليوم في سورية، حيث مناطق النفوذ التي تتحكّم بها قوى إقليمية ودولية ومليشيات محلية ووافدة؛ مناطق تتوجه نحو أن تتحوّل إلى مقاطعاتٍ منفصلة، حتى ولو لم يعلن عن التقسيم بصورة فعلية. ومع ذلك يصرّ رأس النظام على إعادة تدوير نفسه، فالأهم بالنسبة إليه البقاء في المشهد، بغض النظر عن التكاليف الكارثية.