• الأحد , 24 نوفمبر 2024

التحرش الجنسي بالأطفال في سوريا… لا للصمت

الكاتبة. سنا الشامي

وجهت إحدى المدارس في العاصمة دمشق إنذاراً شديد اللهجة لذوي الطفل جان قائلة على لسان مديرها “لقد أصبح ولدكم طفلاً سيئ الطباع ويتراجع دراسياً”، ما ترك والدته التي تلقت المكالمة في صدمة وذهول.

علامات تدل إلى التحرش

تمتع جان بصفات حميدة في مدرسته، لكن هناك شيئاً ما حدث مع هذا الطالب المجتهد والخلوق في الصف السادس، تغير على إثره سلوكه، فما كان لطفاً تحول إلى سلوك عدواني وعنيف، وما كان اجتهاداً تحول إلى كسل وتراجع دراسي، والأخطر أنه أصبح يتلفظ بكلمات بذيئة ونابية، كما أن شكله تغير وأصبح كالمتسول.

تعد هذه بعض العلامات التي يعتمد عليها المتخصصون النفسيون في الكشف عن تعرض الطفل للتحرش الجنسي الذي يعد من الخبرات المؤلمة والصادمة التي يمر بها الأطفال، لما لها من تأثيرات وتداعيات مستقبلية خطيرة فيه، بخاصة إذا تكررت، إذ إن خطورتها لا تقل في حالات كثيرة عن الاعتداءات الجنسية المباشرة.فالطفل الذي يتغير سلوكه بين ليلة وضحاها يعطي مؤشراً خطراً لتعرضه للتحرش، لا سيما في الأماكن التي تكثر فيها التجمعات السكانية، حيث تعد مناطق خطرة على الأطفال.

مناطق الخطر

هذه المناطق كثرت في سوريا بعد الحرب، فمن مخيمات النزوح خارج الحدود، إلى الأماكن التي اكتظت بنازحين داخل حدود البلد “الوافدين”، حيث التجأ البعض إلى أماكن محددة داخل البلاد هرباً من الموت والدمار، لكنهم في الوقت ذاته أقاموا في مناطق أطلق عليها في ما بعد “مناطق أكثر خطراً” بخاصة على الأطفال، وهذا ما قالته داليا السويد المتخصصة في علم النفس الاجتماعي “في هذه المناطق، هناك احتمال مرتفع لتعرض الطفل للتحرش لاكتظاظها بالسكان وعدم وجود مراكز للتعليم وتدني المستوى الاقتصادي والاجتماعي للقاطنين فيها، إضافة لوجود أشخاص غرباء وجدد دائماً في هذه الأماكن”.

وهذا ما حدث مع الطفلة تالا التي تسكن مع والدتها في أحد هذه الأماكن، حيث تميزت الأم بكرمها وتواصلها الإيجابي مع الجيران، ففي إحدى المرات، أرسلت مع ابنتها طبقاً من الطعام لهؤلاء الجيران، وكانت في المنزل فتيات يلعبن مع بعضهن، فنادتها إحدى الفتيات التي تكبرها سناً لتدخل معها إلى غرفة أخرى، ومن ثم قامت بالتحرش بها. وبما أن الفتاة صريحة مع والدتها، استطاعت بعد أيام عدة من صمتها وبكائها المستمر، أن تخبر والدتها بالأمر.

وعن هذه الحالة تقول السويد “هذه الحالة تعد أسهل من غيرها في التعامل معها، لأن التحرش لم يتكرر، فمعيار التكرار أساسي جداً، لأنه في حال استمر مدة معينة، يعد مشكلة جنسية تحتاج لحل وعلاج”.

فجوة غياب المتخصص

وتعد الحرب في سوريا من أهم عوامل ارتفاع نسبة التحرش في البلاد، ففي السنوات الأولى لاندلاع المعارك، اضطر الجميع إلى التزام منازلهم إذ لم يستطعوا الخروج منها، بالتالي فقد دارت خلف الجدران أحداث لم يكشف إلا عما ندر منها.

ففي مدينة حلب، اضطرت سماح، (14 سنة)، للبقاء مع والدها في المنزل، لكن هذه الطفلة لم تكن تدري أنها ستتأذى من الشخص الأقرب إليها في الحياة، حيث تعرضت للتحرش مراراً وتكراراً من قبل والدها، ولم تستطع النجاة منه إلا بعد علم إحدى قريباتها التي تواصلت مع الجهات الأمنية المتخصصة، وبذلك اضطرت سماح للبوح بما عانته. لكن التواصل أحياناً مع تلك الجهات يعرض الضحية إلى انتشار قصتها في المجتمع، ما يزيد في أذيتها، كما أن غياب المتخصصين عن هذه الجهات والاكتفاء بالطب الشرعي كاختصاص وحيد للكشف عن هذه الحالات يعد قصوراً بالنسبة إلى المتخصصين النفسيين، فالتحرش ليس واضحاً كالاغتصاب، وقد لا تظهر علامات جسدية على المتحرش به، كما أن إخضاع الطفل لفحص الطب الشرعي يعرض الطفل لأذية نفسية مضاعفة.

أسباب التحرش

خلال الصيف الفائت، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا بقضية الطفلة جوى استانبولي التي تعرضت للتحرش والاغتصاب، ومن ثم القتل على يد رجل كان يتردد إلى إحدى الحدائق العامة، ويتعامل فقط مع الأطفال، واستدرجها بطريقة ما وأقدم على فعلته، وعن دوافع هؤلاء تجاه الأطفال تحديداً، قالت الطبيبة داليا السويد “هناك ما يسمى خلل اضطراب جنسي لدى المتحرش، كما يعد الأطفال من الفئات الأسهل للإيقاع بهم، والأمر الأكثر إيلاماً أن هناك من يستهدف الأطفال المعاقين الذين يعدون أكثر سهولة من غيرهم”.

وعن سبب ارتفاع نسبة التحرش في سوريا أوضحت أن “من أهم الأسباب هو الكبت الجنسي الناتج عن عقلية مجتمعية كاملة، إضافة إلى ما أفرزته الحرب والأزمات الاقتصادية التي أدت لصعوبة تكوين عائلة، وارتفاع السكن وتكاليفه، والاكتظاظ السكاني، إضافة لعدم التوعية المسبقة بما قد يتعرض له الطفل في مثل هذه الحالات”، وأشارت إلى أن ارتفاع معدلات التحرش جاء مع تخفيض المعايير العالمية للتحرش ما زاد نسب هذه الآفة.

التوعية بهدف المعرفة

ولم تنته قصة الطفل جان عند ملاحظة التغيرات التي طرأت عليه، وحاولت عائلته معرفة سبب هذا التغير، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل، إلى أن انتبه أعضاء أحد النوادي الذي يتردد عليه الطفل، وبعدها وصلت العائلة إلى القصة الكاملة.وفي هذا السياق، أضافت السويد “نحاول خلال لقاءاتنا مع الأهل توعيتهم لكيفية فهم أبنائهم والتواصل معهم ومعرفة ما يجري لهم، وقد لاحظت أنهم لا يتحدثون عن القصة بشكل مباشر، بل من خلال أسئلتهم تستطيع فهم ما يمرون به”، أما ما يتعلق بالتحدث مع الطفل “فهناك رأي يقول بعدم سؤال الطفل عما جرى معه أو محاولة تذكيره بالأحداث لأنها تؤذيه أكثر”.

الفتيان أكثر عرضة للتحرش

وهكذا، عمل أعضاء النادي على اللحاق بالطفل جان وسؤال أصدقائه في المدرسة، فعلموا أنه في أحد الأيام خرج قبل نهاية الدوام المدرسي وقصد الدكان الملاصق للمدرسة، حيث يوجد رجل كبير في السن نسبياً هو صاحب الدكان الذي قام بالتحرش بالطفل، وعندما كان يرفض جان طلبه كان يهدده بأن يقول لأهله عما يفعله، واستمر هذا الوضع أكثر من شهرين، وهو وقت كفيل ليتحول إلى أزمة نفسية تحتاج لعلاج وتدخل اختصاصيين.

وتقول السويد لدى سؤالها عن الأشخاص الأكثر تعرضاً للتحرش “أكثر الحالات هي تحرش من الرجال بالأطفال الذكور”، وتعزو هذا إلى توجه المجتمع لحماية الفتيات أكثر من الفتيان، وهذا ما حدث ويحدث في مناطق الوافدين، حيث لاحظت إحدى الأمهات أن ابنها يدخل ليلعب ساعات طويلة مع صبية أكبر سناً منه ويقفلون الباب على أنفسهم، وهي لا تعرف ماذا يجري هناك، لكنها كانت تلاحظ أن ابنها يخرج وقد بدا عليه خلاف ما دخل، وأن تصرفاته متغيرة، ودائماً ما تبادره بالسؤال لماذا تلعب مع هؤلاء من دون إجابة، وعن هذا تقول الاختصاصية السويد “ليس بالضرورة أن يكون تحرشاً جنسياً، فدائماً تعريف التحرش هو من قبل شخص بالغ تجاه طفل لم يتجاوز الـ 18 من عمره”.

جهود مبذولة للحماية

إن معرفة المنظمات الدولية بما قد يحدث لبلاد تتعرض لحرب دفعها لتقديم إضافة للمساعدات العينية، مساعدات معنوية نفسية، بخاصة للأشخاص في المناطق الأكثر ضرراً أو أماكن اللجوء والوافدين، وعملت المنظمات الدولية مع الجمعيات السورية المحلية على التعاون مع عدد من الاختصاصين داخل سوريا لتقديم التوعية اللازمة، وهذا ما أكده محيا سليمان وهو منسق مركزي في إحدى الجمعيات المحلية في طرطوس “لدينا أقسام وبرامج عدة داخل الجمعية هدفها التعامل مع الطفل وحمايته، بحسب الحالة التي تأتينا واحتياجاتها، فقد تمر بثلاثة أقسام من حماية الطفل، إلى الحماية القائمة على النوع الاجتماعي والعنف الجنسي، إضافة لقسم الدعم النفسي”.

واليوم هناك طرح داخل سوريا ببدء تدريس مادة خاصة بالتربية الجنسية لمساعدة الأطفال على فهم ما يحدث معهم، كما يتم العمل على تأهيل المدرسين بهدف التوعية وحماية الطفل، إضافة لوجود مرشد نفسي في كل مدرسة يساعد الطلبة، لكن هذا الطرح لاقى بعض الاستهجان الشعبي بسبب التسمية التي تعد صادمة داخل مجتمعات محافظة، كما أن هناك رأياً علمياً آخر من قبل بعض الأساتذة النفسيين المتخصصين في الجامعات السورية، إذ يقول أحد الأساتذة الذي رفض الكشف عن اسمه “انطلاقاً من معرفتنا المجتمع الذي نعيش فيه، فلا نحبذ وجود كتاب تحت مسمى التربية الجنسية، بل أن تمرر هذه المعلومات والتوعية عبر مواد أخرى كالعلوم والديانة وغيرها، إذ يسهل استيعابها والوصول من خلالها للغاية المرجوة”.

قانون حماية الطفل

ويعد القانون السوري لحماية الطفل من أفضل القوانين المشرعة، لكن الإشكالية التي تواجهه هي آلية تطبيقه وتنفيذه على أرض الواقع، فخلال السنة الماضية، صدر قانون محدث لحماية الطفل، وبحسب الحقوقيين أتت بنوده شاملة ووافية، ويقول المحامي عبد الرحمن خرفان “المشكلة في التطبيق تأتي بالدرجة الأولى خوفاً من الإفصاح عن هذه الحالات بخاصة من قبل الأهل الذين يضعونه في خانة (الفضيحة)”، ويتابع “هناك جزء كبير من التحرش يكون مقترناً بعمالة الطفل الذي يتعرض خلال عمله للتحرش، وقد تصل إلى حد الاغتصاب، وهذا أيضاً يمنع الإفصاح خوفاً من خسارة العمل كون هذا الطفل هو معيل عائلته”، وهنا يعد وجود القانون من عدمه غير مساعد.

وفي الفصل الخامس من المادة 156 من قانون حماية الطفل السوري، الذي يعالج حالات الاعتداءات الجنسية، وصلت العقوبات في هذه المادة إلى حد السجن مدة 21 سنة مع الأشغال الشاقة لكل من يثبت تحرشه بطفل وأذيته، بخاصة من كانت له صلة قرابة بالطفل المتحرش به، وتزداد العقوبة لدى التحرش بأطفال لديهم عاهة جسدية أو عقلية.

ويوضح خرفان أنه لاحظ خلال عمله كمحام ومنسق قسم حماية الطفل في إحدى الجمعيات المحلية أن هناك جهلاً مجتمعياً بمعرفة هذه القوانين وتطبيقها “هناك دور للمؤسسات والإعلام والجمعيات المرخصة والمنظمات في سوريا لم تقم به، عن طريق التعريف والتوعية بهذه القوانين وآلية وضرورة تطبيقها، فالمجتمع دائماً يبدي استغرابه لوجود هكذا قوانين، ويبدو أنه ما زال يتبع العادات والتقاليد والأعراف في التعامل مع تربية أبنائه، فهم يخافون من الوصمة المجتمعية”، والأهم بحسبه “أن كل قانون يعود نجاح تطبيقه بين مؤسسات الدولة والمجتمع مناصفة”.

توصيات

ومن أجل حماية الطفل في أي وقت وزمان توصي الطبيبة داليا بضرورة دعمه ومساعدته لكي تصبح لديه مرونة نفسية “يجب العمل على شخصية الطفل قبل وبعد التحرش، لكي تعود له ثقته بنفسه، والأهم العمل على إخفاء شعوره بالذنب، فالطفل عندما يتعرض للتحرش يشعر بالذنب تجاه نفسه لماذا حدث معه هذا”، إضافة إلى توعيته مع مَن وكيف يتعامل مع الأشخاص ومن يستطيع التقرب منه وأين وكيف.فوالدة الطفل جان كانت تربيه على ضرورة طلب مساعدة الآخرين بخاصة الكبار في السن، ولكن بعد تعرضه للتحرش من شخص كبير في السن ظهرت لديه حالة من “القرف” تجاه كل الأشخاص المسنين، بالتالي، والدته لم تعد تطلب منه شيئاً كهذا، إذ يبدو أن التربية تتجه إلى الفردية والخوف من تقديم المساعدة للآخرين أو اللعب أو التواجد معهم أينما كانوا.

تنويه: أسماء الأطفال وذويهم في هذا التقرير مستعارة بناء على طلب الأهل.

مقالات ذات صلة

USA