لؤي صافي
30 نوفمبر 2020
واجهت الثورة السورية صعوباتٍ عديدة خلال السنوات الماضية، تعود في معظمها إلى ثقافة سياسية متوارثة منذ استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي على أقل تقدير.
لن أدخل، في هذه العجالة، في كل المشكلات والتحدّيات التي تواجه سورية، وتواجه قوى الثورة والمعارضة، ولكن أكتفي بنقاط أساسية ثلاث، يقتضي أخذها بعين الاعتبار، ليس من أجل تقديم حلول جذرية للمشكلات، لأن حلها يحتاج إلى زمن وتجربة عملية، بل لتطوير خطوات واضحة ومباشرة للتخفيف من أثرها السلبي على عمل قوى الثورة والمعارضة… لا بأس من التنويه، في البداية، إلى أن معظم أخطاء الثورة ناجمة عن الفوضى التي تحيط بكل الثورات، وعن تعقيدات المشهد الناجم عن إصرار النظام على استخدام العنف المفرط لمنع التغيير، أو التفاعل مع مطالب الثوار، والمصالح الجيوسياسية المتعدّدة في المشرق.
الثورة حدث عفوي تتحرّك من خلاله الشعوب لمواجهة أنظمةٍ تمتلك أجهزة أمنية واستخبارية متطورة. وعلى الرغم من صعوبة المشهد الحالي، والتحدّيات العديدة التي ما زالت تحيق بسورية وشعبها الأبي المعطاء، يجب القول إن الثورة السورية حققت إنجازاً تجاوز كل التوقعات، إذ استطاعت قهر دولةٍ أمنيةٍ من الواضح أنها أعدّت جيشاً لا لمصارعة أعداء الوطن، بل للتحكّم في الأغلبية السورية وإخضاعها لنظام طائفي مستبد وفاسد.
ويعود بقاء النظام اليوم إلى التدخل الإيراني، ثم الروسي المباشر، وفق تفاهمات دولية تشمل دولا عربية وأخرى غربية، وهو أمر ما كان لأحد منا أن يتوقع حصوله في القرن الحادي والعشرين، وهو لذلك واقعٌ لم تأخذه الثورة بعين الاعتبار.
استطاعت الثورة قهر دولةٍ أمنيةٍ أعدّت جيشاً لا لمصارعة أعداء الوطن، بل للتحكّم في الأغلبية السورية وإخضاعها لنظام طائفي مستبد وفاسدالنظر إلى التحدّي القائم والخطوات المستقبلية للتعامل معه بعد تجربة عقدٍ ليس كما قبله. ثمّة حاجة إلى بناء الخطوات المقبلة وفق تعقيدات المشهد الحالي، وهذا يحتاج إلى جهد نظري وعملي كبير، يتجاوز ما يمكن تضمينه في مقالة الرأي هذه، لعل السوريين الأحرار يحملون هذه المهمة في الأيام والأشهر والسنوات المقبلة. سأقتصر لذلك، في هذه العجالة، على تحديد أخطاء استراتيجية ثلاثة وقعت فيها الثورة، وخصوصا جناحها السياسي. لأني أميز بين مسارين متوازيين ضمن الثورة، العسكري والسياسي.
تولّد المسار العسكري من جهود الشباب السوري غير المسيس الذي تحرّك للدفاع عن الشرف والكرامة، بعدما هاجمت مليشيات الأسد القرى والمدن السورية بمساعدة المليشيات الطائفية التي جنّدتها إيران لدعم النظام، ومارست أبشع أنواع القتل والتنكيل والاغتصاب. أما الجناح السياسي فمثلته قوى المعارضة، وناشطون سياسيون وحقوقيون كثيرون.
ويمكن تمييز أخطاء استراتيجية أدّت بمجموعها إلى ما نحن فيه اليوم.على السوريين الأحرار أن يكونوا مستعدّين ومتماسكين، عندما تتحوّل رياح السياسة باتجاههمأولاً: اختراق القوى الدولية والإقليمية الجناح العسكري منذ الأشهر الأولى، فقد خضعت الكتائب المقاتلة إلى خطةٍ كانت تهدف، منذ البداية، إلى امتصاص الزخم العسكري للثورة.
خضعت الكتائب المقاتلة لغرفتي الموك والموم التي قامت بتوجيه الكتائب، وربط تحرّكاتها بتوجيهات عسكرية من قيادة الغرفتين. ومع ذلك، تمكنت الكتائب من قلب المعادلة العسكرية، ما دعا القوى الدولية إلى التدخل المباشر لمنع سقوط النظام. العمل العسكري أمر معقد، خصوصا في سياق الصراع الجيوسياسي الذي يحيق بسورية، والرهان العسكري في هذه اللحظة يجب ألا يكون الرهان الأول. القوى المعارضة لنظام الاستبداد في سورية لم تختر الصراع العسكري برضاها، بل فُرض عليها من خلال استراتيجية العسكرة التي اعتمدها النظام بتحويل الجيش السوري إلى قتال أبناء الوطن، ما أدّى إلى انقسام الجيش، وحمل عديد من مقاتليه السلاح ضد قيادته التي ارتكبت جرائم إنسانية، باستخدام السلاح الوطني ضد المواطنين.
لم يكتف نظام الأسد بذلك، ولكنه دعا المليشيات الطائفية الشيعية لدخول البلاد ومحاربة أبنائه، وسهّل جهود المليشيات السنية الطائفية في دخول المناطق المحرّرة من شمالي العراق. وانتهت الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة، لينجح النظام بتحويل الصراع من أجل الحرية إلى حربٍ طائفية أولا، ثم إلى ساحة صراع بين قوى إقليمية ودولية، أخفت بدخانها حقيقة الإرادة السورية الحرية في بناء دولة القانون والحرية والمساءلة والتداول السلمي للسلطة.
وبدلا من إضعاف الثورة، أدّى خلط الأوراق السياسية والقومية والطائفية إلى إضعاف النظام الذي انهار عسكريا لحظة التدخل الروسي الذي باركته دول عربية وإقليمية، بل سعت إلى تحقيقه، ولعبت فيه كل من إسرائيل والإمارات وسيطا بين القيادتين، الروسية والأميركية.خضعت الكتائب المقاتلة إلى خطةٍ كانت تهدف، منذ البداية، إلى امتصاص الزخم العسكري للثورةثانياً: الانقسامات الفئوية داخل المعارضة السياسية نتيجة عدم قدرتها على تشكيل تيار وطني متماسك، يحمل رؤى وأهدافا متقاربة، بل بروز عدد كبير من الكتل والمجموعات السياسية صغيرة الحجم كبيرة الادّعاء. تمحورت الانقسامات حول مصالح سياسية قريبة، وتحالفات مع قوى إقليمية، ما ولّد داخل المؤسسات، وخصوصا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، استقطاباتٍ صبت في مصالح الصراعات الإقليمية، لا المصلحة الوطنية. وتولد الاستقطاب الأكبر عن تنازع بين أصحاب المال السياسي التابعين لقوى إقليمية متصارعة للتحكّم في المشهد السوري داخل أروقة المعارضة.
وكانت لهذه الخلافات نتائج عميقة على مسار الثورة، فالخلاف الذي جرى داخل “الائتلاف” بشأن اختيار رئيس وزراء الحكومة المؤقتة، على سبيل المثال، حال دون تشكيل الحكومة المؤقتة لتنظيم شـؤون المناطق المحرّرة في بداية عام 2013، وأدّى إلى تأخير التصويت حتى النصف الأخير من ذاك العام، بعد أن تمكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بتشجيع من نظام الأسد لدخول الشمال السوري والتحكّم فيه، ما جعل دخول الحكومة المؤقتة غير ممكن.
تحويل الجيش السوري إلى قتال أبناء الوطن أدّى إلى انقسامه، فحمل عديد من مقاتليه السلاح ضد قيادته التي ارتكبت جرائم إنسانيةثالثاً: ضعف التنظيم والتخطيط، والذي تجلى برفض تطوير خطة استراتيجية للتعامل مع الأزمة السورية، والتعويل الكامل على التحرّكات والقرارات الدولية.
وفي غياب الجهود الحقيقية للعمل التنظيمي والإداري، والتواصل مع القوى الشعبية في الداخل السوري، اقتصرت جهود المعارضة السورية على التواصل الإعلامي والدبلوماسي. أضف إلى ذلك عدم تقيد مكاتب مؤسسات المعارضة بقواعد النظام الداخلي ولوائح تنظيم العمل المؤسّسي، وبالتالي العمل على تجاوزها أو ليّها، لتحقيق خيارات القوى المتحكّمة بمراكز القرار داخل المعارضة. وهكذا وقعت المعارضة السورية فيما وقع فيه النظام من إدخال عناصر مؤيدة ضمن “الائتلاف”، لم يكن لها دور سوى ترجيح كفّة طرف ضد طرف آخر.
تجلّى الضعف التنظيمي أيضا في جهل قيادات عديدة في المعارضة أن جوهر العمل السياسي هو خدمة المجتمع وبناء المؤسسات الخدمية لصيانة المجتمع في المناطق المحرّرة، وتقوية العلاقة بين القيادة السياسية والمجتمع، وليس الاعتقاد أن السياسة تقتصر على الاهتمام بمسائل السلطة بدلا من قضايا المجتمع. يمكن إيضاح ذلك بحوار جرى بين أحد قادة إحدى مؤسسات المعارضة ومسؤول في دولةٍ كانت داعمة في البدايات للثورة. عندما عرض المسؤول على القيادة تقديم دعم للخدمات الاجتماعية في المناطق المحرّرة، قاطعه المعارض الصنديد قائلا: إننا نريد أن نتحدث في المسائل السياسية. فأجابه ألا ترى أن توفير هذا الدعم للمناطق المحرّرة مسألة سياسية.
فأجابه المعارض بعفوية بدت أقرب إلى الوقاحة: لا نريد الحديث في مسائل دعم المشاريع العامة، ولكن في قضايا السياسة.في غياب الجهود الحقيقية للعمل التنظيمي والإداري، والتواصل مع القوى الشعبية في الداخل السوري، اقتصرت جهود المعارضة السورية على التواصل الإعلامي والدبلوماسيالأخطاء الثلاثة المذكورة كبيرة وقاتلة في صراع معقّد، وهي تعود، بطبيعة الحال، إلى أسباب ثقافية وبنيوية، تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لتجاوزها، لكن هذا لا يعني أننا غير قادرين اليوم على التخفيف من حدّتها، وتجاوز بعض آثارها السلبية. وثمة خطوات ضرورية ثلاث يمكن اتخاذها اليوم لتحسين العمل السياسي لمواجهة الحالة السورية.
الأولى: تطوير استراتيجية تعيد الصراع في سورية إلى صراع بين السوريين الأحرار الداعين إلى تغيير ديمقراطي من جهة والنظام الاستبدادي الطائفي القابع على صدور السوريين من جهة أخرى، فمع توسعة المشاركين في مؤسسات المعارضة، بحيث دخل فيها عدد كبير ممن هم أقرب، في تفكيرهم السياسي الوصولي، إلى ممثلي النظام، ضاعت الأولويات، وأصبح الهم اقتسام ما يمكن اقتسامه من مناصب سياسية بوجود النظام. وهذا خطأ جسيم، سيكرّس حالة الاستبداد والفساد، ويضرب بعرض الحائط تضحيات السوريين. والسوريون بحاجة اليوم إلى جبهة أو تنظيم يحمل هموم الثورة ومطالبها، ويتميز في خطابه ومطالبه عن المؤسسات المحسوبة على الثورة والقوى المطالبة بالتغيير بعد خروج مؤسسيها ورموز المعارضة السورية.المطلوب تشكيل جبهة وطنية تمثل قوى التغيير الديمقراطي في سورية من قيادات المعارضة التي لم تمارس المقاولة السياسية
الثانية: رفع زخم التعاون والتواصل بين الناشطين السياسيين وقادة منظمات المجتمع المدني السوري في داخل البلاد وخارجها، والتركيز على التواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية ومنظمات المجتمع المدني في الدول الديمقراطية، لفضح التواطؤ الدولي مع النظام، وإحراج القيادات التي توهم شعوبها بأنها تعمل على وقف مستوى الإجرام في سورية، في حين أنها تعمل مع قادة الثورات المضادّة في العالم العربي لخنق مطالب الشعوب في حياة حرة كريمة ضمن دولة القانون والمشاركة السياسية.الثالثة: تشكيل جبهة وطنية تمثل قوى التغيير الديمقراطي في سورية من قيادات المعارضة التي لم تمارس المقاولة السياسية، وبقيت صادقةً في التزامها بقيم الحرية والمشاركة السياسية والعملية الانتقالية العادلة، ورفض نظام الاستبداد والإصرار على استبداله. يمكن لجبهة وطنية صغيرة أن تختزل العدد الكبير من المنصّات السياسية التي يمثل كل منها عددا قليلا من الناشطين، وتسعى إلى تمثيل المطالب الرئيسية لقوى التغيير الديمقراطي في سورية، وتحافظ على التماسك الداخلي بين المعارضين السوريين من خلال نظام للتواصل واتخاذ القرار، وتبقى في تواصلٍ مستمرٍّ مع الحراك المدني وقادة الرأي والمجتمع السوري.
لا شك في أن الظرف السياسي الحالي غير مناسب لتحركات سياسية واسعة، فالرياح السياسية تسير اليوم عكس حركة التحرّر السوري من الاستبداد. لكننا نعلم جميعا أن الرياح السياسية غير ثابتة، بل متغيرة باستمرار، وعلى السوريين الأحرار أن يكونوا مستعدّين ومتماسكين، عندما تتحوّل رياح السياسة باتجاههم. ويمكنهم خلال الفترة الوسيطة بناء شبكات علاقات مع القوى التي تتحرّك فعلا لدعم الشعب السوري والقضية السورية، واكتساب دعم المنظمات الحقوقية والمدنية العالمية، لتصبح قوة ذات حضور وطني ودولي، وذات جاهزية لتكوين بديل مقنع عن النظام لحظة انهيار دعائمه الخارجية.