عمر كوش
بعد انطلاق الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، سارعت الأوساط المهيمنة في مراكز الدراسات والجامعات ووسائل الإعلام، إضافة إلى كبار المسؤولين الغربيين، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إلى تسميتها حرباً أهلية أو داخلية.
وحذا حذوهم مسؤولون سياسيون كثير، وذلك كي يتنصلوا من مسؤوليتهم الأخلاقية في دعمها، فضلاً عن المسؤولية القانونية بحسب ميثاق الأمم المتحدة، حيث إن هذا التوصيف يشي بأن ما يجري هو صراع مسلح على السلطة بين جماعات أو طوائف سورية، وليس حراك شعب ضد نظام الأسد القمعي والدموي، وكان سلمي الطابع طوال أشهر عديدة في بدايته، رغم القتل اليومي الذي كان يتعرض له المحتجون السلميون من طرف جيش النظام وأجهزة استخباراته وشبيحته.
ليس فقط التنصل من المسؤولية الأخلاقية والدولية في دعم الحراك الشعبي هو الدافع لدى المتنفذين والمسؤولين في أوساط الهيمنة الغربية ومؤسساتها الأكاديمية والإعلامية، بل هناك دافع مضمر وعنصري، يتمثّل في عدم إقرارهم، أو على الأقل عدم اقتناعهم، بأن الشعوب العربية تملك حس المسؤولية، أو الأهلية، لقيامها بثورات ضد أنظمة الاستبداد أسوة بالشعوب الغربية، انطلاقاً من أنهم وسموا منذ قرون عديدة الاستبداد بطابع شرقي، بمعنى أن شعوب الشرق اعتادت على التعايش مع الاستبداد كونه يشكل جزءاً من طبيعتها، لذلك فهي لا تقوم بثورة ضده، وغير مؤهلة لذلك.
غير أنّ المشكلة ليست في أوساط الهيمنة الغربية فقط، بل لدينا أيضاً، وتتجسد في لجوء بعض الكتاب والإعلاميين والباحثين وسواهم إلى تقليد ومحاكاة ما تقوله الأوساط الغربية، وحتى أولئك الذين لا يملكون العدة المعرفية الكافية، تبنّوا مقولات ومصطلحات الأوساط الغربية المهيمنة..
غير أنّ المشكلة ليست في أوساط الهيمنة الغربية فقط، بل لدينا أيضاً، وتتجسد في لجوء بعض الكتاب والإعلاميين والباحثين وسواهم إلى تقليد ومحاكاة ما تقوله الأوساط الغربية، وحتى أولئك الذين لا يملكون العدة المعرفية الكافية، تبنّوا مقولات ومصطلحات الأوساط الغربية المهيمنة، كي يسوقوا أنفسهم لديها، ظناً منهم أنها ستضمهم إلى أوساطها.
ووفق منطق التقليد، تفتّقت أذهان بعض المحللين والمعلقين والدارسين العرب، ومنهم سوريون، في إطلاق أوصاف، واشتقاق مصطلحات لغوية، تحاكي مصطلح الحرب الأهلية، بدءاً من “اللبّننة” و”العرّقنة”، ومروراً بـ”الليّبنة” إلى “البلّقنة”، وصولاً إلى “السوّرنة”، وذلك من أجل توصيف الوضع السوري.
وجميعها يُضمر مسميات احتراب أهلي طائفي، تُدمر معه الدولة، ويتقاتل فيه العباد، وقيْست جميعها على أشكال مختلفة من الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية، باختلاف المواقع والأزمنة، كما حصل في لبنان والعراق وليبيا والبلقان وسواها.
ليس في التقليد الذي يتبعه بعض الكتاب والباحثين السوريين والعرب سوى محاولتهم، السعي لإيجاد ما يلاقي رواجاً لدى تلك الأوساط، ومقصدهم بيع بضاعتهم، وبالتالي بيع أنفسهم، لأوساط الغرب المهيمنة سياسياً وإعلامياً وعلمياً، من خلال تبني ومصطلحاتها ومقولاتها، ومحاكاتها، وإسقاطها على الواقع في بلداننا العربية، حتى لو تطلب الأمر لوي عنق الواقع المعاش فيها، لأنّ المهم هو تلبية ما تريده تلك الأوساط، وفق مفهوم الشرقَنَة أو ما سميته “شرقنة الذات”، الذي يسعى أصحابه إلى التماهي مع ما تريده، وما ترسمه، تلك الأوساط المهيمنة.
وينطلقون من منطق المقايسة والإحالة والإرجاع، الذي يحكمه عقل منفصل عن الواقع، متعال ومتعجرف، لا يعترف بالمعطيات على الأرض والظروف المحيطة، ويساوي بين جميع الأطراف في المسؤولية، وما ينجم عن ذلك من تشويش وتعتيم، وعدم التمييز بين ممارساتها وأدوارها.
لقد أثّر الفكر السائد في أوساط الهيمنة ومنهجيته على نتاجات وأطروحات العديد من الكتاب والباحثين العرب، إذ ترتب على الشرقي شرقنة ذاته وفق نتاجات عقلية الاستشراق ومنظوماته، وظهرت تجليات الشرقنة في كتابات مفكري التيارات السياسية التي ظهرت على الساحة العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
كذلك فعلت شرقنة الذات فعلها في العديد من الأعمال الفنية والأدبية، سواء في السينما أم الرواية وغيرهما، من خلال التركيز على الصور الغرائبية للشرق التي تستهوي أو تستجدي الذوق الغربي، والتي ربما يجد فيها الغربي جزءه المفقود/ الآخر، أو صورة الآخر التي رسمها في مخيلته، وعليه تتأسس شرقنة الذات على وهم التماهي مع ذات “الآخر المتفوق” واللحاق بركبه، على حساب جلد “الذات الشرقية” وتعنيفها.
لا يستطيع من تصيبه لوثة شرقنة الذات أن يزعم بوجود معايير محددة بذاتها لوصف وضع ثوري أو حراك احتجاجي، في أي بلد من البلدان، بأنه حرباً أهلية، نظراً لاختلاف مركباتها كل منهما، وإن كان ثمة مشتركات ومؤشرات على الحرب الأهلية، فإنها تتمحور في اقتتال أهلي واسع، تشترك فيه مكونات المجتمع الواحد، وداخل الوطن الواحد.
أما وثائق القانون الدولي، فلم تتطرق إلى مفهوم الحرب الأهلية، بل ركزت على النزاعات المسلحة الدولية بشكل عام، لذلك يعتبر بعض فقهاء القانون الدولي أن الحرب الأهلية تندلع داخل الوطن الواحد بين طرفين مستقلين، بوصفهما عدوين، يسعى كل منهما الانتقام من الآخر وتصفيته..
وعليه، تضع مختلف التعاريف القانونية والسياسية الحرب الأهلية في خانة النزاعات المسلحة غير الدولية، مركزة على نطاق النزاع المسلح، وعلى وصف الأطراف المتنازعة، الأمر الذي يكسب المفهوم صفة الاتساع والعمومية والشمول.
أما وثائق القانون الدولي، فلم تتطرق إلى مفهوم الحرب الأهلية، بل ركزت على النزاعات المسلحة الدولية بشكل عام، لذلك يعتبر بعض فقهاء القانون الدولي أن الحرب الأهلية تندلع داخل الوطن الواحد بين طرفين مستقلين، بوصفهما عدوين، يسعى كل منهما الانتقام من الآخر وتصفيته، ولا يعترف أحدهما بالآخر أو بحكم مشترك بينهما.
لا شك في أن شرقنة الذات قد تفعل فعلها لدى من يبحث عن تسويق لذاته، لكنها تضمر غبناً لمن ضحوا بأرواحهم وحيواتهم من أجل الحرية والعدالة، ويزداد الشعور بالغبن أكثر حين تتعمّد بعض الأوساط، وربما مجاناً، وصف الحراك الاحتجاجي السلمي بالحرب الأهلية، ولا يبرّر ذلك أن فرادة الحالة السورية، وطول أمد الأزمة وتداخلاتها الإقليمية والدولية، جعلها موضع نقاش وسجال واختلاف حول دقة التوصيف، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن الثورة بدأت بحراك احتجاجي سلمي، تركز حول مطالب الحرية والكرامة، إلا أن العنف المفرط، والقمع الدموي، اللذين مارسهما نظام الأسد جعل الأوضاع في سوريا تتغير نحو الكارثة، خاصة بعد الانشقاقات والعسكرة