• الأحد , 24 نوفمبر 2024

الهويّة وسؤال أبي علي(1 من 2)

الدكتور حازم صاغية .

حين سمعني أبو عليّ، صاحب الدكّان المجاور، أدافع عن الكرد، سألني ما إذا كنت كرديّاً. وهو استغرب أن لا أكون، إذ ما الذي يدفع شخصاً، أيّ شخص، لأن يدافع عمّن لا يشاركونه هويّته.

فالكرديّ يدافع عن الكرد، والمسيحيّ عن المسيحيّين، والشيعيّ عن الشيعة، وهكذا دواليك.والحال أنّ قناعة أبي عليّ من نتائج السطوع الذي باتت تحظى به الهويّة والانتصارات التي تحرزها على غير صعيد. وهذا علماً بأنّ الكثيرين ممّن يشاركونه قناعته، ويُجمعون على تحكيمها في ما يفعلون، لا يُقرّون دائماً بواقعهم هذا.فنحن اليوم، وكما يكثر القول، نعيش في “عصر الهويّات”، وهو تعبير فضفاض يمكن لأيّ شيء أن يُدرَج فيه.

مع هذا لا يثير أيٌّ من المفاهيم الخلافاتِ التي يثيرها مفهومُ الهويّة، بحيث يلتقي فيه الإجماع والتفرّق تماماً كما يلتقيان في الدين. فحتّى الذين يسلّمون بوجود الهويّات ويتّفقون على تعريفها، سوف تختلف مشاعرهم حيالها.

فهناك من يُقبل عليها بفرح وسعادة غامرَين كما لو أنّها نبوءته وقد تحقّقت: لقد قلنا لكم ذلك قبلاً، أفلا ترون الآن، بعد كلّ ما حدث، أنّنا مختلفون خلافاً تستحيل تسويته. ولربّما كان أبلغَ تعبير عن الاحتفال بالهويّة، بالمعنى هذا، كلمة “الصحوة” التي يردّدها الأصوليّون الإسلاميّون. فالمَعنيّ بالأمر صحا أخيراً، بعد طول نوم، واهتدى إلى حقيقته الجوهريّة.

وهناك، في المقابل، من يُقبل على الهويّة حزيناً مكسور القلب: للأسف، كنّا عاجزين عن تجاوز هويّاتنا، وقد فشلنا في بناء مجتمع عابر للهويّات، أشدّ تنوّعاً وغنى وأقلّ واحديّةً وإضجاراً، مجتمعٍ تؤلّف إرادتُنا الإنسانيّة هويّتَه فلا تكون وريثة ضعفنا الإنسانيّ.

وتباينٌ كهذا إنّما يرجع أحد أسبابه إلى ما نراه عالماً أفضل. فعابدُ الهويّة ينظر إلى العيش مع سواه بوصفه نفياً للطبيعة وللطبيعيّ. ذاك أنّ البشر، كيما يأمنوا ويستقرّوا، مَدعوون إلى توطيد الحدود التي تفصل بين “أنواعـ”ـهم الكثيرة بحيث يحتمي كلّ نوع وراء جداره الصلد والسميك.

وبدوره يرى كاره الهويّة أنّ الطبيعة والطبيعيّ يفرضان أن لا تكون هناك حدود، وأنّ اختلاف الهويّات لم ينشأ إلاّ بعد رسم الحدود وبسبب رسمها. لهذا فالهويّة عدوان على وحدة إنسانيّتنا يلازمه عدوان آخر على الطبيعة ذاتها.

فالأوّل، إذاً، يرى إلى العالم بوصفه حدوداً لا تستطيع التقنيّة تجاوزها، كما لا تستطيع الأفكار أو المصالح أو التجارب أو الأمزجة. فنحن، في عمق النظرة هذه، لسنا سوى انعكاس للجبال والأنهار والصحارى التي تصنعنا. أمّا الثاني فيراها سهلة التجاوز لأنّها، في زعمه، مجرّد “بناء اجتماعيّ” وكفى المؤمنين القتال.

والراهن أنّ التشبّث بالهويّة، بوصفه استسلاماً للطبيعة، ينطوي على تشاؤم عميق بالبشر، وهذا مع الإقرار بأنّ الطبيعة استعمرت الثقافةَ في العقود الأخيرة، وغدت هي نفسها ثقافةً أكثر من أيّ شيء آخر. أمّا ما يقيم في إنكار الهويّة المطلق فلونٌ من تفاؤل ساذج بالبشر وتعويل مبالَغ فيه على نجاحهم في ترويض الطبيعة والثقافة. والبشر، في أغلب الظنّ، ليسوا مفعولين إطلاقيّين ولا فاعلين إطلاقيّين، تماماً كما أنّهم ليسوا أشراراً بالمطلق ولا أخياراً بالمطلق.

ولئن تجاور الخير والشرّ فيهم وتناحرا في الوقت عينه، فإنّ شروطاً وأوضاعاً تغلّب هذا على ذاك أو ذاك على هذا، وهي الشروط والأوضاع ذاتها التي تجعلهم مرّةً أقوى كما تجعلهم أضعف في مرّة أخرى.

بيد أنّ الهوبزيّ في عابد الهويّة، والذي يرى في الإنسان عدوّاً للإنسان، لا يكتم انتسابه، المباشر أو المداور، إلى وعي أرستوقراطيّ أوّلُه قوميّ وآخره عنصريّ عاجز عن تعقّل العالم إلاّ مَراتبَ مغلقة ومكاناتٍ حاسمة.

وما دامت الجماعةُ، وهي في النهاية مَرتبة، وحدتَه للقياس، غدا صعباً على الهويّاتيّ أن يكون ليبراليّاً، أو أن يطوّر ثقافة أخلاقيّة، أي أن يقسم عالمه المحيط إلى أفراد، وأن يتعاطف مع أفراد مضطهَدين، ولو من خارج جماعته – مَرتبته، لمجرّد أنّهم مُحقّون وأخيار. فهو ذو يقين فردوسيّ بأنّ الجماعة التي صدر عنها هي الفرقة الناجية وهي الضحيّة الكاملة والصواب المدجّج، فيما سواه وسواها شيء يتراوح بين العبء والكارثة.

هكذا يريد ذاك الهويّاتيّ أناساً “يشبهونه”، وفق التعبير الذي بات، منذ سنوات، شائعاً في لبنان، لأنّ في شَبهٍ كهذا تكثيراً للخير الذي هو اختصاص الـ”نحن”، وتقليلاً للشرّ الذي هو احتراف الـ”هُم”، وهذا ما يُحيلنا قطعاناً، ويحدّ التضامن الإنسانيّ بحدود القطيع. وإبّان حربنا الأهليّة، سبق لبعضنا أن لاحظ كيف أنّ أسلحة الذبح على الهويّة والقصف العشوائيّ لمناطق “الآخرين” رسالةٌ مفادها أنّ أهل الهويّة يريدون لخصومهم أن يكونوا أهل هويّة أيضاً: إنّنا سوف نقصفكم كلّكم كي تتّحدوا وتبقوا كلّكم هناك في مواجهتنا.

هكذا تتكتّل كلٌّ من الجماعتين فلا يخرج من واحدتها مَن يتضامن مع أهل الهويّة الأخرى ملوِّثاً إيّاها ومُلطِّخاً نقاءها البلّوريّ. وغنيّ عن القول إنّ هذا السلوك يجافي السياسة ويناقضها، هي التي تحضّ على تفكيك جبهة العدوّ وكسب مَن يمكن كسبه من أفرادها.

فكما الله واحد فإنّ الهويّة واحدة، وكما أنّ وحدته، غير القابلة للانفصام، لا تحتمل الزيادة والإنقاص والخلط الذي هو شِرك به، فإنّ وحدة الهويّة لا تحتمل ما لا تحتمله هويّة الله. ووعيٌ كهذا بِتنا نراه يعمل في السلام المهتزّ كما في الحرب الصلبة، ويحضر في الثقافة النضاليّة كما في السياسات المحافظة: ففي 2016 مثلاً، رسمت الفنّانة الأميركيّة البيضاء دانا شوتز لوحة موضوعها إيمّيتّ تِلّ، الغلام الأفرو أميركيّ ابن الـ14 سنة الذي قتله، عام 1955، عنصريّون بيض في ميسيسيبي. لكنّ كثيرين من النقّاد الأفرو أميركيّين شجبوا لوحتها لأنّها “استحواذ على ذاكرة السود” ينبغي على البيض أن يكفّوا عنه ويتركوه لأصحابه الأصليّين.

فنحن وحدنا من ننعى ضحايانا. لكنّ أكثر ما يفوت الهويّاتيّ أنّه يُضعف فكرته عن الهويّة حين يقول إنّنا نعيش اليوم صعود الهويّات. فالأخيرة، في عرفه، خالدة لا تتغيّر ولا تتحوّل، ويستحيل على الخالد أن يكون متحرّكاً وسائلاً، يعلو ويهبط، يتّسع ويضيق، على ما يشي تعبير “نعيش اليوم”.

فكيف، والحال هذه، لا نتغيّر نحن في هويّتنا فيما هي نفسها تتغيّر، بل كيف لا نتغيّر فيما نتغيّر؟فنحن نذكر مثلاً أنّ الهويّة التي كانت عنواناً لمشروع قوميّ وتوحيديّ، أقلّه لفظيّاً، باتت اليوم مشروع انفكاك وتفكيك. ولئن حمل الطور الأوّل احتجاجاً متحمّساً على الاستعمار لأنّه “جزّأنا”، فإنّ الطور الثاني بات يحتجّ عليه لأنّه “وحّدنا”.ومع أنّ الهويّاتيّين لا يؤكّدون شيئاً كما يؤكّدون الوحدة، فإنّ الهويّات تنشقّ أيضاً. فمصطلحات كـ”العربيّ” و”المسلم” و”المسيحيّ” و”السنّيّ” و”الشيعيّ”، وكذلك “السوريّ” و”الفلسطينيّ” و”الإسرائيليّ” و”الإيرانيّ” و”الأميركيّ” ينطوي في داخلها كثيرون ينفي بعضُهم البعضَ الآخر وينافيه.

وفضلاً عن تضارب المعاني، تبعاً لتضارب مصالح الناطقين بها من أبناء الهويّة ذاتها، وأجيالهم وخلفيّاتهم الفكريّة وأذواقهم الفرديّة، هناك اختلاف الأزمنة التي ظهرت خلالها تلك المصطلحات وتعاريفها. فالهويّة التي يقدّمها دعاتها بوصفها بنت الطبيعة هي بنت التاريخ حصراً، وكما كانت أثينا الإغريقيّة شرقاً في الزمن القديم فإنّ اليابان الآسيويّة غدت غرباً في الزمن الحديث.لهذا تبدو مثيرةً للسخرية تلك التعابير السقيمة التي درّجها الإعلام اللبنانيّ، و

ما لبث أن استوردها الإعلام العربيّ: “السوريّ”، “الفلسطينيّ”، “الأميركيّ”… إذ من هو “السوريّ” مثلاً؟ بشّار الأسد أم الذين ثاروا عليه، وهل هو السنّيّ أم العلويّ أم الكرديّ، الغنيّ أم الفقير، رجل الأمن أم ضحيّته، ابن الساحل أم ابن الجبل إلخ…؟ وطريقةٌ كهذه في التسمية، تُهدي بلداً بأمّه وأبيه لحاكمه، تغدو كاريكاتوريّة جدّاً حين تصدر عن لبنانيّ يعلم كم عدد اللبنانات المتضاربة التي تقيم وراء الغلالة الرقيقة للبنان الواحد. لكنّ الكاريكاتوريّة تبلغ ذروتها حين يُترجم التعبير إلى لغة أجنبيّة: فلنتخيّل مثلاً عبارة من نوع The Iraqi decided…، والتي قد تذهب بعراقيّ متحمّس ومُعتزّ بالتاريخ إلى حمورابي، حين يكون المقصود أنّ محمّد شيّاع السوداني هو الذي قرّر… ثمّ إنّ الإصابة بتورّم هويّاتيّ يُفقر الشخص ويحرمه أبعاده الكثيرة، جاعلاً منه مجرّد أبيض أو أسود أو مسيحيّ أو مسلم، وذلك على مدى 24 ساعة كلّ 24 ساعة. فهو هكذا فحسب، ولا شيئاً آخر غير هذا، وعليه، بهمّة ومواظبة لا تفتران، أن يشعر أنّه كذلك.

وهذا الفرز شبه البيولوجيّ، الناهض على انتماء مطلق، إنّما يتّخذ أشكالاً عدّة. هكذا مثلاً أعلن الشيخ العراقيّ قيس الخزعلي، زعيم حركة “عصائب أهل الحقّ”، أنّ تحليل الحمض النوويّ لصدّام حسين “أثبت أنّه من الهند”.

وفيما كان الخزعلي “ينظّف” الهويّة العراقيّة، وربّما العربيّة أو المسلمة، من صدّام، مُرتّباً الهويّة الهنديّة في موقع دونيّ، كان مصريّون كثيرون، مثقّفين وغير مثقّفين، يحتجّون على عمل لـ”نتفليكس” عن كليوباترا يقدّمها سمراء البشرة.

وربّما كان بعض النقد مُحقّاً في دفاعه عن الدقّة التاريخيّة، أو تحفّظه على الرداءة الفنّيّة، لكنّ أغلب النقّاد لم ينجحوا في إقناعنا بأنّهم يرون الهويّة الأفريقيّة شيئاً مساوياً للهويّة المصريّة، خصوصاً متى مثّلتها ملكة تعظّمها الرواية التاريخيّة.

فعلى هذا النحو يغدو تنسيبها إلى الغير حسماً معتبراً من رصيدنا، وربّما خفضاً لهويّتنا ولنا.لكنْ أيضاً سيكون صعباً على الهويّاتيّ أن يكون وطنيّاً بمعنى غير شوفينيّ، إذ أنّ وطنيّة كهذه سوف تربطه بأبناء هويّات دينيّة وإثنيّة أخرى.

ونحن حين نبالغ في توكيد الفوارق بين الجماعات، وهي قائمة، لا يبقى لنا ما نؤكّده من جوامع بينها، وهي قائمة أيضاً، اللهمّ إلاّ إذا قلنا: نعم، نحن بشر يجمعنا المشترك الإنسانيّ بسائر البشر، إلاّ أنّ هؤلاء الذين يقيمون قبالتنا ليسوا بشراً، بل استثناء على الحالة الانسانيّة. هكذا نكون كمثل ذاك الذي وصفته النكتة بأنّه يعادي العنصريّة حيال شعوب الأرض قاطبة لكنّه لا يستثني من عدائه إلاّ اليهود.

ومن يدري، فقد يقود هذا التصعيد الهويّاتيّ إلى مخيّلة جامحة تضجّ بتصوّرات بدائيّة وكاريكاتيريّة، كأنْ نفترض، إذا ما مضينا على هذه الطريق، أنّ ما من مسلم على الأرض يشرب الكحول لأنّ نبيّه منعه من ذلك، وما من مسيحيّ يحبّ يهوديّاً، والعكس بالعكس، لأنّ صلب المسيح أمر عالق بين الاثنين.

فما دامت الحافلة تكرّ بنا إلى الوراء، فلماذا نوقفها عند محطّة بعينها من ذاك الماضي؟وهذه وتلك من تعابير الخفّة تقيم جينيّاً في الهويّة التي يبدو أنّها تمسك بكلّ شاردة وواردة في حياتنا فيما تبقى، هي نفسها، ضعيفة المعنى هزيلة التعريف.

وذات مرّة أخبرني صديق لبنانيّ أنّه لم يفهم ما المقصود بالهويّة إلاّ بعد استضافته زائراً أجنبيّاً أراد تكريمه بتعريفه إلى طبق الملوخيّة التي تُعَدّ عندنا مفخرة المآكل. لكنّ لقمة واحدة كانت كفيلة بدفع الزائر إلى بيت الخلاء لاستفراغ اللقمة الصغيرة التي ابتلعها. أمّا صديقي فاعتبر تلك التجربة درساً أفهمه معنى الهويّة المجهول.

والهويّاتيّون، مدفوعين بهمّة الحماسة وفتور العقل، لا يتكاسلون في جعل التافه أشدّ تفاهة والسخيف أكثر سخفاً. فإذا سمع واحدُهم كلمة بذيئة ضدّ هويّته، صادرة عن ابن هويّة أخرى، استنفر ما أوتي من عصبيّة للردّ على كلام بذيء تترفّع الكتابة عن كتابته.

ولربّما قلّد الهويّاتيّ بفعله هذا ربّ العالمين حين وضع رأسه في رأس السيّدة أمّ لهب، حمّالة الحطب، إلاّ أنّ مبدأ أخذ الكلّ بجريرة واحد أو واحدة من أردأهم، يجبز لصاحبه أعمالاً وممارسات خطيرة في عدادها إخراس الألسنة وإحراق الكتب.وكما تشتقّ الهويّةُ الجماعةَ الأخرى من أسوأ أفرادها، فإنّها لا تكفّ عن اشتقاق الحاضر والمستقبل من الماضي.

صحيح أنّها ترسم للماضي صورة مُتَخيَّلة مستلهَمة من الجحيم، فيتبدّى زمناً للملاحم والرؤوس المتطايرة، كما ترسم للمستقبل صورة تستلهم الجنّة، إذ أنّ ما يلي الانتصار سوف يكون السعادة والمتعة الخالصتين . لكنّ الهويّة لا ترى الجنّة، في آخر المطاف، إلاّ من بوّابة الجحيم، ولا تطلّ على المستقبل إلاّ من شرفة الماضي. فهي لا تستقلّ عن نصّ تأسيسيّ، أو حدث تأسيسيّ، يوجّهان الخطى ويذكّراننا عند كلّ خطوة بمَن حالفنا ذات مرّة وبمن أساء إلينا في مرّات أخرى.

والماضي، لا سيّما شطره الصراعيّ الذي يجري توكيده وحده، يقود حكماً إلى “الجذور” التي هي نقيض “الآفاق”. فهو تالياً كنز الفردوس الضائع الذي تأدّى عن ضياعه تحويل الهويّاتيّ إلى ضحيّة لا تكفيه استعادة حقّ في الأمس بل يروح يصوّب الغد بجعله صورةً عنه.

فالهويّاتيّ، بالتالي، لا يشبه الفتى الذي يغامر ويكتشف العالم، محوّلاً اكتشافه هذا تدشيناً لجديد ولتجربة حياة خاصّة به، بل هو يشبه الشيخ الذي يقتات على التذكّر، مدركاً أنّ الزمن المتاح له بات قصيراً لا يُعتدّ به، وواعظاً الأصغر سنّاً بأن يقلّدوا الطريقة الجزائريّة، فيستشيرون على الدوام جذور ماضٍ لا يمضي، فيما هم يصنعون غدهم. وهو، كمحافظ راسخ في المحافظة، يفتخر بما صنعه الأجداد الغابرون، أو قيل أنّهم صنعوه، أكثر كثيراً من افتخاره بما صنعه هو. فصنيعه الشخصيّ، وما هو إلاّ ذرّة في جماعة وهويّة، لن يكون سوى صدى وتكرار لا يضاهيان الأصل الناصع، لكنّهما، فوق هذا، قد يُشوّهانه.

فالأجداد، في آخر المطاف، هم الشكل الأفلاطونيّ الأمثل للهويّاتيّ، فيما تستحيل رؤيتهم على حقيقتهم المجيدة دون مغادرة الكهف وملاقاة شمس الهويّة وضوئها. ونعلم أنّ الأطفال لا يطمئنهم شيء كما الأجداد، وما يضعونه في جيوبهم من هويّة وجذور، إذ يرون فيهم الوضوح الوحيد في طريقهم إلى مستقبل مجهول وغامض، وربّما وعِر.

هكذا يغدو من المغري دائماً أن نستعيد أجداداً بعضهم عرب وبعضهم كلدان وأرمن وسريان وفينيقيّون وآخرون ممّن انقرضوا إلاّ في إحيائنا لهم واستنجادنا بهم. وربّما كان الإسرائيليّون أكفأنا في تحنيط الجدّ العبريّ وإيقاظه بين آونة وأخرى كي يذكّر بالوعد الذي قطعه لأحفاده المختارين.

وما دام الجدّ هو القدوة، حُفرت في صلب الهويّة كراهيّتان: واحدة للنسيان الذي يهدّد بجعلنا ننسى الكراهيّة في عداد ما ننساه، بينما معشوقنا ذاكرةٌ تتذكّر أزمنة الافتخار بالجماعة وتاريخها، الفعليّ منها والمؤسطر

. أمّا الكراهية الأخرى فللأجيال واقعاً وفكرةً. فالجيل بتعريفه مفهوم يشي بالتحوّل والتغيّر، والهويّة تريد لنفسها أن تكون بمثابة جيل دائم ثابت وراسخ يترفّع عن أفعال الزمن وعن تعاقبه. والجديد الذي يغيّر أشياء كثيرة يقف عاجزاً إن لم يكن أمام الهويّة فأمام تقديمها نفسَها، كلّ ما يستطيعه هو أن يجدّدها بوصفها شيئاً قديماً.

أكثر من هذا، يلوح ما هو جديد في الهويّة أفدح في أكلافه الإنسانيّة وأخطر من القديم الذي فيها، خصوصاً وقد بات قادة كبوتين وميدفيديف يلوّحون بين الفينة والأخرى بما لا يقلّ عن سلاح نوويّ دفاعاً عن “وجودنا”. وهذا فيما يغدو “النوويّ الإيرانيّ” صانعاً كبيراً لسياسات المنطقة وأحوال شعوبها.

وإلى أدوات القتل، وصولاً إلى أدوات الإبادة، تُضاف الأفكار والضخّ الإعلاميّ وأشكال التنظيم واستنهاض الشبيبة وجمع التبرّعات حيث يعمل الجديد خادماً مطيعاً للبائد. وهذا إنّما يجفّف الإنسان الحرّ الصانع الذي يختار، كما يخصّب الإنسان المصنوع الذي يُوَرَّث ما اختاره له القدامى.

وعلى النحو هذا يُغلق باب الاجتهاد في الكلام، فتغدو للأشياء تعاريف بعينها، آحاديّة وطاردة لما عداها، ومنها تُصنع صورتنا عن العالم. فللخشب مثلاً يسود تعريف يُستمَدّ من تلك الشجرة الضاربة في الأرض. أمّا الباخرة التي جيء بخشبها من خشب الشجرة ذاتها ثمّ أطلقت عنانها للبحار فتغدو عدواناً على الخشب.

ومن بين سائر الاستخدامات والمعاني، يمسي الحديد مدفعاً أو دبّابة فحسب، والدم يمسي شهادةً وشهداء، كما تصير السهول والوديان أمكنة دائمة للقتل والقتال. كذلك فالتكرار والتوكيد سيّدا اللغة عند الهويّاتيّين، فلم يكن بلا دلالة ذاك التعريف الشعريّ الشهير بالنفس: “إن تسلْ عنّي فهذا مذهبيعربيٌّ عربيٌّ عربيّ”. وكما أنّ كلمة “عربيّ” واحدةً كانت لتفي بالغرض، على أن يتدبّر الشاعرُ أمر العروض، فخمس أغانٍ عن لبنان وخضرة أشجاره ومجاورته القمر كانت لتنبّهنا إلى اللبنانيّة التي يُراد تنبيهنا إليها.

بيد أنّ الهويّة، أيّاً كانت، لا تعيش من دون هذين التكرار والتوكيد اللذين نراهما في البيانات والخطابات الحزبيّة. ذاك أنّ السهو والشرود ممنوعان عن القضايا التي تستوجب التركيز كلّه، كلّ الوقت، بينما القضايا ذاتها بحاجة لأن تتفقّد نفسها وتطمئنّ إلى حسن اشتغالها وسط عالم قليل الطمأنة.

وهكذا فكلّما ابتعد بنا الزمن عن العودة إلى فلسطين، زادت القصائد والأغاني التي توزّع علينا تذاكر الرحلة الميمونة. على أنّ شراكة الهويّاتيّين في وعي واحد، ولو تقاسمته أطراف متناحرة، تُملي شراكة أخرى في الممارسة. فشهيرٌ ما عاناه البروتستانت، على اختلاف طوائفهم، حين باتت محاكم التفتيش تستهدفهم، لكنّهم حين حكموا سويسرا وهولندا أقاموا محاكم تفتيش مماثلة تستهدف الكاثوليك.

ولئن لم يتفرّد لبنان في ظاهرة “الذبح على الهويّة”، وهي تسمية فاقعة الدلالة، فإنّ “سفر القضاة” التوراتيّ زوّدنا أقدم النصوص حول الذبح على اللهجة: فقد انكشفت قبيلة أفراييم لأنّها كانت تقول sibboleth بدل الكلمة العبريّة shibboleth، فقتلت منها قبيلة جلعاد 42 ألف شخص جرّاء إنقاصها حرفاً واحداً.ولأنّ الهويّة ضدّيّة بالتعريف، هوَسيّة في ضدّيّتها، لا يعود مُستَبعَداً أن تقيم في حقول من دم إقامةً ضامرة أحياناً ومشرئبّة دائماً. ذاك أنّ الامتلاء بها قتل للآخر، إن لم يكن فعليّاً فرمزيّاً. والعنف قد يلامس الموت والإماتة، وقد ينطوي على وعود كئيبة كممارسة لاهوت الثأر والإذلال، والتطهير العرقيّ أو الطائفيّ، والمقابر الجماعيّة.

وبالطبع، وبالتعريف، تُوجّه من دون انقطاع دعوات كريمة إلى حروب الماضي كي تزور تلك الحقول وتباركها: فالذي قتل أجدادنا لا بدّ أن يقتلنا أيضاً، أمّا الذي قتله أجدادنا فلا بدّ أن نقتل أحفاده. وهذا كلّه رأيناه في الحروب اليوغسلافيّة والروانديّة وسواها.

وما دام أنّ الهويّة، بوصفها تنشيطاً للخفّة، قويّةُ الوطأة والحضور، أمكن أن يُعَبّأ قطاع من السكّان بحجج تقتل العقل حين ينجو الجسد منها. فعلى جناح المهاجرين المسلمين سوف “تؤسلَم أوروبا”، وعلى يد حفنة من الفاشيّين الأوكران قد تتعرّض الحضارة الروسيّة للاستئصال.ذاك أنّه ما إن يصيح ديك الهويّة حتّى يغدو كلّ قول مباحاً، إذ يحلّ الهوى محلّ العقل، والتحريض محلّ الإقناع.

فإذا نطق الهويّاتيّ بلسانٍ عاقل، تعدّديّ أو ديمقراطيّ، بدا شديد الافتعال: فهو ينطلق من افتراض التفوّق في هويّته، فإذا “أقرّ” لغيره بالاختلاف بدا كمن يقول: أنتم أحرار في أن تكونوا منحطّين، أو بدا مُطبّقاً لما سمّاه أحمد بيضون ذات مرّة “تعدّديّة الاحتقار”.

ولهذا السلوك في قاموس علم النفس أسماء كثيرة قد لا تشرّف صاحبها.والهويّة، التي تكون يقظتها شرطاً لتفعيل أحلام الهويّاتيّين، غالباً ما تبدو على شكل حلم مؤبّد. ذاك أنّ الطلب عليها يتزايد إبّان أزمات يرى كثيرون أنّ المخرج منها هو الغطس في ذاك الحلم الذي تطيب الإقامة فيه.

هكذا يُعزَف عن الحلول السياسيّة والاقتصاديّة، فيبقى الحلم متراس الردّ على الأزمات بينما تُستبعَد الأرقام والمعطيات الصلبة، فإذا أتى الهويّاتيّون على ذكرها استعجلوا حرقها لمصلحة “تحقيق الذات” أو تكريم الموتى والأصول.

فلكلّ مشكلة كبيرةً كانت أم صغيرة حلّ واحد، هو الحلّ إيّاه، وجواب واحد، هو الجواب إيّاه، إذ الحلول الملموسة والكثيرة للمشكلات الملموسة والكثيرة ليست من شيَم الهويّاتيّين.

وعلى عكس ظاهرات تقاس كمّيّاً، في الزمان والمكان، كالفقر والغنى، والقوّة والضعف، وتحوّلات متوسّط الأعمار، ونُسب التعليم…، فإنّ الهويّة لا تقاس بل تُوزَن، وهي قليلاً ما تقول لأصحابها شيئاً عن أحوالهم سوى وعدهم بأنّهم ما إن ينصروا هويّتهم حتّى تنصرهم ويحلّ الخلاص المنشود.

وكثيراً ما ترد كلمة “هويّة” مسبوقة بكلمة “أزمة”، فيحضر علم النفس، أو علم النفس الجماعيّ، بقوّة فيها، وتتكدّس الأعمال المكتوبة في وصف مشكلتها وتقليبها على أوجه عديدة. لكنْ مع هذا فإنّ وصف الحلّ الذي يقدّمه الهويّاتيّون يصمد في إصراره على كلمة واحدة لا تعبأ بالتعقيد.

وممّا لا يثير ما يستحقّه من اهتمام أنّ الهويّة، ما دامت خصبة وولاّدة، قد توقظ الذكور على اختلاف هويّتهم عن هويّة النساء. لهذا تعيش المرأة بعض أسوأ أوضاعها إبّان صحوة الهويّات النضاليّة والضدّيّة، سيّما وأنّ الأخيرة تتطلّب عضل الرجال وقيمهم في الذكورة والبطولة والصمود والشهادة إلى آخر المعزوفة التي تناجي روح الأسلاف على كتف المقابر.

ونعرف مثلاً أنّ ختان النساء باسم هويّة أفريقيّة ما، وبالأمراض والآلام التي يسبّبها الختان، واحد من أشكال تلك العلاقة. ونعرف أيضاً، وحرب البلقان ليست سوى مثل واحد، أنّ حروب الهويّة هي حيث يكثر اغتصاب النساء وتحبيلهنّ الإجباريّ بوصفه حفراً لهويّة منتصرة في صلب هويّة مهزومة.

وبين ما يخون انتباهَنا أيضاً أنّ الهويّة قد لا تستسيغ التعليم والمدرسة طالما أنّ ما يعلّمانه لا يمرّ في مصفاة عقائديّة تفرز العلوم “المفيدة” عن العلوم “الضارّة”. ولمّا نجمت هويّتنا كعرب عن صلة وثيقة بمواجهتنا الغربَ، انطوى استردادها على مكافحة التركة الاستعماريّة، ومنها المدرسة الحديثة، بل على صدّ الدولة الحديثة كذلك. وحساسيّة الهويّة حيال النقد مرَضيّة بقدر ما هي استحواذيّة وتوسّعيّة.

فالعروبيّ جدّاً يرى في نقد أمّ كلثوم أو المتنبّي ما يراه اللبنانيّ جدّاً في نقد فيروز أو جبران خليل جبران. وأرض ذاك الهويّاتيّ هي دائماً أجمل أرض وبحره أصفى بحر وجبله أكثر الجبال شموخاً.

لهذا فإنّ صعوبة العلاقة بالهويّاتيّ تتعدّى السياسة، إذ تصعب مشاركته سهرةً موسيقيّة أو جلسة تلاوات شعريّة أو مناسبة عزاء بميّت، وهذا قبل الوصول إلى المقدّسات الدينيّة التي ألصقها بهويّته أو الصق هويّته بها. وفي لبنان تحديداً هناك قائمة طويلة جدّاً من الرجال والنساء المعصومين الذين يُلهب أيُّ قول نقديّ فيهم هويّةَ أتباعهم ومقلّديهم الذين، والحال هذه، تُمَسّ كراماتهم.

لكنْ لكلّ هويّة خائن يقيم داخلها في مقابل العدوّ الذي يقيم خارجها، والأوّل “طابور خامس” أو “كاره لنفسه” أو “منكر لأصله” أو واحد من “يهود الداخل”… ولأنّ الشرّ الجوّانيّ الذي يطارده الهويّاتيّ، والذي يكون خفيّاً أو متخفّياً، يتسلّل بألف هيئة وهيئة، فإنّ كشفه يستدعي بالضرورة بضعة علوم زائفة ووضيعة. فالهويّاتيّ مرشّح بالتالي لأن يكون، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مخابراتيّاً متطوّعاً، إمّا لكونه مطّلعاً على معلومات “عنهم” لا يعرفها الآخرون، أو لكونه جامعاً لتلك المعلومات بشقّ النفس وعرق الجبين.

لكنّه، إلى هذا، قد يكون مخابراتيّاً نسّاباً متمكّناً من الأصول المزعومة أو عالِم فراسة يتهجّأ في وجه الفرد لؤم الجماعة.وللانتصار على العدوّ الخارجيّ والخائن الداخليّ، يضحّي عابدُ الهويّة بحرّيّته لزعيم تلك الهويّة، فيشبه المرأة المُستَلَبة التي تؤمن بأنّ الرجل قوّام عليها، أو العامل الذي يمجّد ربّ عمله.

ذاك أنّ الأب والقائد والبطل المُنزّه يلازمون الهويّات مُستجيبين للحاجات الطفليّة التي تغدو عليها الجماعات أمام القلق والخوف، أو حين تبحث عن ساحر يوفّر الحلّ السحريّ.

ولسوف يكون من الصعب دائماً أن يُنظر في تاريخ الهويّة وتاريخ سياستها بمعزل عن تاريخ التطفيل الذي أُخضعت له شعوب وجماعات بعينها، ثمّ حُملت لأسباب شتّى على الاستكانة للخضوع هذا.الدكتور حازم صاغية

مقالات ذات صلة

USA