ذكرتني تهمة ” إيهان نفسية الأمة”، الموجهة إلى عدد من مؤيدي نظام الأسد، ممن تم اعتقالهم في الأسابيع الأخيرة عقابا لهم على توهمهم أن دورهم في الدفاع عنه يعطيهم الحق في قول رأيهم حول ما يجري في سورية ، وأوضاع السوريين الكارثية، التي ترتبت على انتصار مؤزر حققه الأسد على الإرهاب، وما ادلوا به من انتقاد لمسببات هذه الأوضاع، وأبدوه من استغراب لما آلت إليه ، وجعل الملايين يشتهون الموت، ليتخلصوا من عذابات لم تبق أثرا في وجودهم لما يمكنهم أن يسمونه” حياة”.مان هؤلاء المعتقلين، أناثا وذكورا، على النظام، بشفاعة الخدمات التي قدموها له، فوجدوا أنفسهم في الموقع الذي سيق إليه الملايين من مواطنيهم، الذين احتجوا مثلهم على شيء ما ينقصهم ،أو ينغص ويدمر حياتهم، وأرجو أن لا يكون مصيرهم كمصير معظم من اعتلقوا، وتعرض مئات الآلاف منهم لأفظع طرق التعذيب والقتل الوحشية، وانتهوا إلى إحدى حفرتين في قرية نجها أو قرب القطيفة، حيث فقدوا الحق في أن يكون لهم قبر يحمل اسمهم.
ـ تذكرني تهمة “إيهان نفسية الأمة” بسنوات ثلاث أمضيتها في سجن عدرا، واسبوع قضيته في فرع “أمن الدولة” بانتظار أن يتعطف علي مملوك ويقابلني ، ويلقنني درسا في أصول السياسة الوطنية.
عندما قرر مقابلتي، جاء من قال لي : تعا ولاه، وعندما اتيت إليه، طمشني ووضع القيود في يدي ، علمت فيما بعد أنه عميد في الفرع، وعندما ايقن انني صرت جاهزا للمقابلة، انا الذي لم تكن هناك تهمة موجهة إلى، بعد أن امضيت ثلاث سنوات في السجن تطبيقا لقرار محكمة، حشرني في المعقد الخلفي لسيارة ما، واجلسني بين عنصرين مسلحين، واقتادني إلى مقر” المعلم”، حيث كان على أن انتظر قرب باب المصعد وذراعي مرفوعتين على امتدادهما إلى الاعلى، ووجهي إلى الحائط، وأحد العنصرين يوجه بندقيته إلى رأسي، وأنا اضرب اخماسا باسداس ، واستمع إلى طقطقة كعب حذاء شخص يمشي في غرفة ورائي مقابلة للمصعد، وهو يتحدث هاتفيا مع سيده وضحكته تجلجل بين كل جملتين في المكان.بعد قرابة ربع ساعة، جذبني العميد من ذراعي، ودفعني باتجاه الباب المفتوح، حيث وقف علي مملوك ، الذي قال مخاطبا العميد ،عندما رآني : أوف، اوف، ليش كل هالشي!، فسارع العميد إلى فك قيدي ورفع الطميشة عن عيني، وهمّ بمرافقتي إلى داخل الغرفة ويده تقبض على ذراعي ، فاشار مملوك بيده ، وقال بلهجة مفعمة بالازدراء: خليك بره.هذه المسرحية، التي تذكر بالفيلة، التي يصطادها عادة من يتظاهر بالدفاع عنها، تعرض لها المئات، وخاصة اثناء التحقيق معهم، الذي ما أن يبلغ التعذيب فيه درجة من الشدة يعتقد قادة ” الفرع” أن المعتقل صار عندها سهل الاصطياد، حتى يظهر من يأتي إليه، فيقدم له كأس ماء وسيجارة، وهو يقول بصوت أبوي خافت: هدون ما بيعوفوا الله، ورح يضلوا يعذبوك لتموت، وانتي ما عندك شي بيستاهل تتعذب ميشانه، بس هدون ما بيعرفوا الله، وأنا متل أخوك ، وقسما، وعهد الله، ما رح يعرفوا كلمة وحدة من يللي رح تحكيلي ياه، ورح يضل بيني وبينك.
وهيك بترتاح من التعذيب وما بياخدوا منك شي، بقا شو رأيك، والله انا جيت احكي معك بدون ما يعرفوا، لأنه ممنوع اجي لهون، بس لما شفتك عم تتعذب، خاطرت واجيت، فلا تحطني بموقف صعب، وسين وجيم، واحكيلي ، احكيلي لا تخاف .بقراره اصطيادي، رحب على مملوك بي وقال إنه أجل شرب قهوة بعد الظهر ليشربها بمعيتي، ويريد أن يشرح لي الوضع الذي غبت عنه، وملخصه أن سورية لم تعد محاصرة أو مقاطعة، بل صالحها الجميع، بعضهم بالعلن كالرئيس الفرنسي ساركوزي، وبعضهم الاخر بالسر كأميركا، وأنها مرتاحة اليوم خارجيا وداخليا، ولذلك يريد لي الخير، وينصحني بالاقلاع عن المعارضة لأنه لا جدوى منها ، وستكون من الآن فصاعدا دون غطاء خارجي ، بينما الداخل ممسوك تماما، وما فيه من تنظيمات اسلامية جماعتنا، اخترقنا بهم الوسط الشعبي، الاسلامي، لنعلم ما يدور فيه بواسطة هذه التنظيمات ،ومخبرينا ،وقسم كبير من شيوخ المساجد المعاونين معنا، فيا استاذ، بدنا اياك تبطل تعارض، وأنا بالمناسبة صار لي زمان ما قريت وتثقفت، ومين أجدر منك بتولي هذه المهمة، مقابل راتب منيح؟.
سكت، ففهمت انه جاء دوري في الكلام، فسألته أن يطلعني هو أو احد مساعديه على الوثائق التي تثبت أنني اوهنت نفسية الأمة، وقبضت مليوني دولار من الاستاذ مروان حمادة، حبست بحجتها ثلاثة أعوام ؟.
ضحك وقال باريحية: قررنا نحبسك، شو كنت بتريد نقول: سجناه لأنه آدمي وبيحب الأمة ووطني وما بيقبض؟. قلت معقبا: رح قول أنك ابلغتني أن التهمة ملفقة، فقال وقد بدأ العبوس على سحنته ، شغلة ميته، وصارت ورانا ووراك. سألته: هل التيار الديني، الذي تتهمونه دوما بالارهاب لم يعد له وجود في البلد، فأكد مرة أخرى أنه لا وجود له، وأن التنظيمات الاسلامية الموجودة تابعة للامن. أضفت عندئذ : سيادة اللواء، ارتحتم لان الخارج ريحكم، فهل لديكم ضمانات تؤكد أن موقفه لن يتغير، وان راحتكم ليست إلى زوال. إليس من الأفضل أن يريحكم الشعب، الذي تعدونه منذ حوالي اربعين سنة بالحرية ، وتسجنون أبناءه بتهم ملفقة ك” إيهان نفسية الأمة”. توتر الجو قليلا، فاضفت: اشكرك على العرض الثقافي، حسب علمي لديكم مكتب يعمل فيه عدد من المتابعين ، وانك لست بحاجة إلى غيرهم .خرجت فوجدت العميد واقفا أمام الباب، في اليوم التالي كنت في منزلي ، وكان بانتظاري دورية الامن، التي دأبت على مراقبتي طيلة سنين .
لا اتردد في ابداء تعاطفي مع المعتقلين، الذين تقول وزارة الداخلية أنهم اعترفوا خلال التحقيق باقدامهم على التواصل مع صفحات مشبوهة ،وزوودها بمعلومات ملفقة”، منها على سبيل المثال معلومة تزعم كذبا أنه لا توجد امدادات منظمة بالكهرباء والماء والطعام في سورية الاسد، ومنها جمل لجان جاك روسو، صاحب كتاب ” العقد الاجتماعي”، الذي عاش اواخر القرن التاسع عشر، اوردتها في واحدة من تغريداتها المذيعة الموالية المعروفة هالة الجرف ، تقول إنه لا يكون نهناك وطن لمن يبيع نفسه لثري كي يعيش، لكن الوزارة رأت في الاستشهاد بها اعترافا من كاتبتها بتزويد جان جاك روسو بمعلومات ملفقة!.
اتعاطف مع المعتقلين، الموالين، لأن حقهم في الحرية لا يقل عن حقي وحق غيري منها، وحقهم في التعبير عن إرائهم مقدس ، سواء كانت تعجبني أو لا تعجبني، تؤيدني أو تعارضني، صحيحة أم غير صحيحة.
وادافع عنهم التزاما بوعد ثورتنا للسوريين ، لجميع السوريين دون استثناء، بالحرية، وباعتبار أي اعتداء عليها، بمثابة اعتداء على ذلك الشعار العظيم الذي تغنت به حناجر الملايين : سورية بدها حرية والشعب السوري واحد.
الحرية للجميع، للشعب السوري الواحد.بقيت جمل قليلة: أكد اللواء على مملوك خلو سورية خلوا تاما من الإرهاب وتنظيماته، ولكن، ما أن خرج عدد قليل جدا من السوريين، حسب احصاءات بشار الأسد، يطالبون بحريتهم، حتى صاروا جميعهم، ودون أي استثناء ، ارهابيين يستحقون القتل وقتلوا بالفعل دون تمييز ، فكان منهم الطفل الذي مات في حادث سير، والعجوز الذي تاه عن الطريق إلى منزله بسبب السن، والتقطه “الأمن” من الشارع، ورفض تسليمه لذويه دون اقرار مكتوب يعترفون فيه أنه كان مسلحا واعتقل والبندقية في يده … الخ.ايها المعتقلات والمعتقلون: لو ادركتم أن الحرية أثمن ما في الوجود، وأنها لا تتجزأ، لكنتم أيضا في السجن، ولكن لاسباب تتصل بحقوقكم كبشر، وليس لأنكم في نظر سادتكم خونة ” يوهنون نفسية الأمة” وأغبياء لا تعرفون أن نظامكم الأسدي يريدكم ، كغيركم، صما بكما لا تفقهون !