الدكتور فيصل قاسم //القدس العربي
معظم الأمم تستغل كوارثها وكبواتها التاريخية لتنهض أقوى مما كانت عليه قبل الفواجع والانهيارات، لا نريد طبعاً أن نقارن بلادنا بألمانيا أو اليابان اللتين نهضتا بعد الحرب العالمية الثانية من تحت الأنقاض لتصبحا أعظم وأرقى بلاد العالم في كل شيء تقريباً، بل دعونا نستذكر بلداً أفريقياً محسوباً على العالم الثالث مثلنا، ألا وهو رواندا الذي شهد حرباً أهلية أتت على الأخضر واليابس وأدت إلى مقتل مئات الألوف من أبنائه، لكن تلك الدولة استطاعت أن تنهض من تحت ركام الحرب والدمار لتصبح مضرباً للمثل في التقدم والنظافة والحكم الرشيد.
لماذا خرجت رواندا من تحت الرماد ونمت وازدهرت من جديد، بينما في كل حالاتنا العربية حتى الآن، لم يخرج أحد من الحفرة بعد أن سقط فيها، بدءاً بالصومال مروراً بالجزائر ولبنان والعراق وسوريا وليبيا وتونس واليمن والسودان إلى آخر قائمة التخلف والخراب. نحن الوحيدون الذين ننتقل من تحت الدلفة إلى تحت المزراب. لماذا؟ لأننا بعد الكوارث لا ننظف جروحنا من العمل والصديد ونضمدها بالشكل الصحيح بحيث تلتئم لاحقاً بشكل صحي. وبدلاً من ذلك، نحاول دائماً أن نخيط الجروح وهي مليئة بالبكتيريا والدمامل والأورام، ظناً منا أن عملية تخييط الجرح وحدها كفيلة بشفائه لاحقاً. كل البلدان التي انهارت ثم بنت كيانها الجديد فوق الخراب والركام والقيح لن تتعافى وستنهار مرات ومرات، لأن ما بُني على باطل فهو باطل.
وكي لا نسرد كل التجارب العربية المتقيحة حتى الآن، سنكتفي بالمثال الجزائري قبل أن ندلج إلى المأساة السورية، ففي تسعينيات القرن الماضي شهدت الجزائر عشرية سوداء بكل ما في الكلمة من معنى بعد انقلاب الجيش على أول تجربة ديمقراطية في البلاد بدعم من مشغليه الغربيين طبعاً، خاصة وأن الفائز في الانتخابات المغدورة وقتها كانت جبهة إسلامية، فرصّ الجنرالات صفوفهم بالتعاون مع كفلائهم في الخارج، ليحرقوا الأخضر واليابس في البلاد كي يبقوا في السلطة بدعم من أسيادهم، فكانت النتيجة أن الجزائر خسرت أكثر من ربع مليون من أبنائها حسب التقديرات الرسمية، مما يعني أن العدد يمكن أن يكون مضاعفاً مرات ومرات، ناهيك عن المفقودين وإعادة البلاد عقوداً إلى الوراء على الأصعدة كافة. ماذا حصل بعد أن وضعت الحرب أوزارها؟هل استفاد النظام من التجربة ليبني دولة جديدة قائمة على العدل والديمقراطية، أم إنه نجح بتواطؤ عربي ودولي أن يعود أسوأ مما كان، فعاد الفقر والقهر والظلم والاستبداد والفساد ليضرب البلاد والعباد من جديد، فانتفض الشعب منذ سنوات، ومازال منتفضاً، وحتى لو هدأ قليلاً، فإنه بالتأكيد سيعود ثانية إلى الشوارع لأن هناك ألف سبب وسبب كي يعود.وضع السوريين داخل البلاد أسوأ بعشرات المرات من حتى وضع اللاجئين خارج سوريا، فقر مدقع وظلم واضطهاد وتجويع وتركيع وقهر وتسلط وفوضى وغلاء يطاول عنان السماء وانعدام لكل أساسيات الحياة بأبسط مظاهرها
واليوم وبتواطؤ عربي ودولي تُعاد الكرّة في سوريا استنساخاً للتجربة الجزائرية، مع الاعتراف طبعاً أن الكارثة السورية تفوق الكارثة الجزائرية بعشرات المرات، فعدد الشهداء السوريين يتجاوز المليون، وهناك مئات الألوف من المفقودين والمعتقلين، ناهيك عن نصف الشعب بين نازح داخلياً ولاجئ خارجياً، أضف إلى ذلك، بلدا مدمرا يحتاج إلى مئات المليارات كي يعود سيئاً كما كان قبل الثورة. هرش النظام وشركاؤه العرب والإقليميون والدوليون رؤوسهم، وصاحوا: وجدتها، وجدتها، تعالوا نضمد الجرح السوري على الطريقة الجزائرية، بكل ما فيه من صديد وقيح وعمل وإنتان وتفسخ وتحلل وبكتيريا، ونحافظ على النظام الحاكم بكل موبقاته وفساده وانحطاطه وهمجيته.
هذا هو الذي يحصل اليوم في سوريا بالضبط. ليس هناك أي نية لا داخل النظام ولا على الصعيد العربي أو الدولي في انتشال سوريا من كارثتها التاريخية ووضعها على الطريق الصحيح للتعافي والنهوض، لا أبداً بل هناك محاولة مفضوحة من العرب والعالم لإطالة أمد الكارثة والإمعان بالتنكيل بالسوريين في الداخل والخارج، فوضع السوريين داخل البلاد أسوأ بعشرات المرات من حتى وضع اللاجئين خارج سوريا، فقر مدقع وظلم واضطهاد وتجويع وتركيع وقهر وتسلط وفوضى وغلاء يطاول عنان السماء وانعدام لكل أساسيات الحياة بأبسط مظاهرها. هل الحل برأيكم تعويم نظام فشل في إدارة سوريا عندما كانت في أحسن أحوالها، فكيف تتوقعون منه أنه يدير سوريا وهي في أسوأ أحوالها؟ هل تأتمنون من دمر البلاد بكل أنواع السلاح وشرد العباد بالملايين أن يعيد إعمارها ووضعها على الطريق الصحيح؟
ألم تسمعوا بالمثل الشعبي البسيط: «الذي يجرّب المجرّب عقله مخرّب»؟ نحن متأكدون أن عقل من يحاول إعادة تدوير النظام الحاكم في دمشق عقله ليس مخرباً أبداً، بل إن عقله همجي ووحشي على أقل تقدير، لأنه يضرب بمأساة شعب ووطن كامل عرض الحائط كي يعيد تأهيل نظام لا يمكن إعادة تأهيله، فليس كل القمامة صالحة لإعادة التدوير أصلاً في علم «الريسايكلينغ» ومنه طبعاً النظام الحاكم في سوريا.
فهل من يتقاطر على دمشق اليوم بحجة إعادة سوريا إلى الحضن العربي يريد الخير فعلاً للسوريين، أم إنه يتربص بهم شراً، ويريد تكريس محنتهم وإطالة أمدها وتعميق جروحهم والإمعان في إبادتهم وتهجيرهم، فبقاء هذا النظام ودعمه فوق حطام سوريا وآلام شعبها، سيهجر المزيد من السوريين من بلدهم، ولن يعود أحد من ملايين اللاجئين الهاربين أصلاً من جحيم النظام وجلاوزته وعصاباته الإجرامية.
من يحاولون إعادة تدوير النظام في سوريا هدفهم الرئيسي إبقاء الوضع الكارثي في سوريا على حاله. هم يريدون فقط الاستمرار في ذبح السوريين والتنكيل بهم.
والرسالة الموجهة للسوريين اليوم: ها نحن أعدنا تأهيل نظامكم، والباقي عليكم. أي غسلنا أيدينا من أزمتكم، فاقلعوا شوككم بأيديكم. لا تصدقوا أي نظام يتقرب من بشار بحجة دعم سوريا. العبوا غيرها. أنتم ألد أعداء سوريا والسوريين.
والتاريخ لا ينسى. والمضحك في الذين يحاولون إعادة الحياة إلى النظام أن معظمهم يقود دولاً فاشلة وشعوباً جائعة منتفضة وبلداناً انهارت أو على وشك الانهيار. والغريق لا يمكن أن ينقذ الغريق. إنه تحالف المنهارين، على مبدأ» التم المتعوس على خايب الرجا».
رسالة للذين يتوافدون على دمشق لدعم طاغية الشام كما جاءت في أحد المنشورات على فيسبوك:«التنفس الصناعي للميت سريرياً نتيجته إطالة عذابات أهل الميت ومن يفعل ذلك مجرم لا يستحق سوى اللعنات». أيها المتهافتون على أبواب بشار: نحن نعرف أهدافكم جيداً، تريدون تعويم العصابة وإغراق سوريا.