ناصر السهلي //العربي الجديد
من حسن حظ السوري مسعود أنّ مطاف هجرته وصل به إلى إحدى المدن الشمالية في ألمانيا، وليس السويد التي سبقه إليها “بعض رفاق التظاهرات الأولى في داريا، ورفاق الضرب والاعتقال في بداية 2011”. ففي الوقت الراهن، يراقب بدء محاكمة جلّادين اثنين من جلادي سجون نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بعد تعرف الحقوقي السوري أنور البني، في ألمانيا، صدفة على أحدهما وهو جلّاده السابق أنور رسلان، العقيد المتهم بالتعذيب في سجون الأسد.في السويد، يذكر أحد رفاق مسعود لـ”العربي الجديد”، وقد اختار أن نذكر اسمه الأول فحسب، عمر، أنّه شبه متأكد من أنّ ضابطاً وقع في قفص الاتهام الألماني، هو نفسه من كان مسؤولاً عن تعذيبه في فرع الخطيب (مركز أمني نظامي).
وعلى الرغم من حرص المتهمين، أنور رسلان وإياد الغريب، على الطلب عبر محاميهما في محكمة كوبلنز الألمانية (جنوب غرب) الإبقاء على القضية سرية وعدم نشر اسميهما فإنّ ذلك لم يتمّ.في أوراق القضية التي بدأت في إبريل/ نيسان الماضي، وأخّر كورونا استمرارها في الأشهر الأخيرة من 2020، تستمر هذا العام بعقد 32 جلسة بين 6 يناير/ كانون الثاني الجاري و20 مايو/ أيار المقبل، ولن يكتفي الادعاء العام في محكمة كوبلنز الإقليمية بالاستماع لشهادات ضحايا محليين، بل سيستدعي شهوداً من دول أوروبية أخرى. ويسعى محامو المتهمين في القضية الجنائية الدولية الأولى ضد أعضاء من نظام الأسد بخصوص “جرائم ضد الإنسانية”، بحسب وصف صحيفة “سوددويتشه زايتونغ” في سبتمبر/ أيلول الماضي، لاستدعاء “شهود من سورية للتدليل على أنّ مسؤوليات الموكلين لم تكن سوى مسؤولية عن السجن وليس التعذيب”.خطوة أولىبالنسبة لمسعود ورفيقه عمر، فإنّ “العقيد أنور رسلان (57 عاماً) على الأقل وجه لا يمكن أن يُنسى في اقتياده المباشر لنا ولعشرات المتظاهرين تحت الضرب المبرح لتستمر في الخطيب عمليات التعذيب والانتهاكات التي لا يمكن وصفها”.
وعلى الرغم من نجاة بعض الضحايا من موت محقق تحت التعذيب الذي مورس بحق عشرات آلاف الضحايا، والذين كشف عن مصير بعضهم تباعاً من عُرف لاحقاً باسمه المستعار “قيصر” وهو منشق من الشرطة العسكرية السورية، ما زال آلاف آخرون يعانون كمسعود وعمر من آثار التعذيب، في شكل “أعراض ما بعد الصدمة” وأمراض نفسية بتشخيص مختصين في السويد وألمانيا والدنمارك، لضحايا التعذيب السوريين، الذين يجد كثيرون منهم صعوبة في التأقلم مع الحياة حتى بعد نحو 6 سنوات من اللجوء.
وإذا كان الادعاء الألماني يوجه للعقيد رسلان اتهامات تتعلق بـ58 جريمة قتل تحت التعذيب واغتصاب واعتداءات جنسية خطيرة، فإنّ زميله في استخبارات الأسد المتهم الثاني والمعتقل اليوم إياد الغريب (45 عاماً) ليست لائحة الاتهامات ضده أقل خطورة، بل تتعلق بـ30 جريمة ضد متظاهرين سلميين. ومما تذكره بعض شهادات الضحايا لـ”العربي الجديد” فإنّ العقيد رسلان “لا يمكنه مطلقاً أن يرمي عن نفسه المسؤولية، فقد كان شخصياً يساهم في الاعتداءات والتحرش الجنسي وإلقاء أفظع الشتائم”، بحسب ما تذكر ناشطة سابقة في الحراك السلمي الأول في سورية في مارس/ آذار 2011. وتضيف نجوى أنّ “من جرى سحلهم وسحبهم إلى الفرع 251 (فرع الخطيب بشارع بغداد في دمشق) قضى بعضهم تحت التعذيب وبمعرفة حافظ مخلوف (ابن خال الأسد، شقيق رامي مخلوف)، وهذه المحاكمات بالنسبة لي ولكثيرين من الضحايا مجرد خطوة أولى لتحقيق بعض العدالة، مع الأمل بأن يكشف النقاب عن التسلسل الحقيقي لمنهجية التعذيب، من القصر (بشار الأسد) إلى توفيق يونس ومحمد زيتون وحافظ مخلوف وبقية الجلادين في مختلف الأفرع الأمنية على امتداد القُطر (سورية)”. ورود أسماء جلادين من أمثال يونس وزيتون وحافظ مخلوف جاء على لسان المتهم أمام المحاكم الألمانية أنور رسلان، في محاولته الادعاء أنّه لم يكن سوى “موظف مكتب وليس ميدانياً”، كاشفاً عن أدوار هؤلاء في القمع والتعذيب.على الرغم من ذلك، استطاع الادعاء الألماني، بمساعدة أمنية ومن نشطاء وثقوا سنوات الاضطهاد في سورية، إثبات أنّ أنور رسلان كان عملياً “مسؤول التحقيق في الفرع 251 سيئ الصيت”.
وتذكر ناشطة فلسطينية – سورية لـ”العربي الجديد” أنّ “رسلان كان لا يتردد، ومعه ضباط آخرون في الفرع، عن ممارسة أقذر أنواع التعذيب في الفترة السلمية للتظاهرات الممتدة بين 2011 و2012، وإذا كنت أنا نجوت من موت تحت ظروف غير آدمية فقد قضى أصدقاء لي سوريون وفلسطينيون تحت التعذيب، وكان يلقى بمتعلقاتهم، كالهوية وأشياء أخرى، للأسرة بشكل علني كإشارة على أن الابن/ة ماتوا”، وهي سياسة ممنهجة لترهيب الآخرين وصدهم عن الاستمرار في الحراك ضد النظام. هذه الشهادة تؤكدها أيضاً الشاهدة في قضية المحاكمة الأوروبية الأولى عن جرائم ضد الإنسانية في سورية في ألمانيا، عبير فهود: “كان يجرى اصطياد المتظاهرين السلميين، الذين لم يخرجوا إلى الشوارع ليموتوا أو يُعتقلوا، بل لطلب التغيير والحرية، فيعذبون بشكل ممنهج وبعلم أعلى هرم في السلطة، كسياسة ترهيب مقصودة، فالتخويف كان دوماً وقود النظام السوري”.
هؤلاء الناشطون الذين نجوا من الموت تحت التعذيب، ووصل بعضهم إلى دول أوروبا بين 2014 و2015، يذكرون في شهاداتهم لـ”العربي الجديد” كيف أنّ “سجوناً مثل مطار المزة العسكري وفرع فلسطين القديم على المتحلق الجنوبي قرب منطقة الزاهرة وفي منطقة البرامكة، في دمشق، لم تكن سجوناً بل مسالخ حقيقية مورست فيها عمليات تعذيب وحشي بحق أكثر الناس سلمية منذ بداية الثورة السورية”، بحسب ما يذكر معتقل سابق من مخيم اليرموك، اسمه رامي.تعذيب ممنهجلم يكن صعباً أن يتعرف الحقوقي السوري، أنور البني، على جلاده السابق، أنور رسلان، بعد تردد قصير إثر لقاء صدفة في أحد أسواق ألمانيا. وعلى الرغم من مرور بضع سنوات على آخر لقاء في الفرع 251، حيث اعتقل البني بداية الثورة السورية في 2011، فإنّ الضابط رسلان لم يكن قد تغير كثيراً. وحتى قبل التعرف إليه كان بعض سوريي أوروبا، منذ انتشرت قصص لجوء بعض ضباط وجلادي الأفرع الأمنية السورية ضمن موجة لجوء أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2015، عبر العاصمة المجرية بودابست، ينشطون لتنظيم صفوفهم لفضح وكشف من تلطخت أياديهم بدماء المتظاهرين، خصوصاً هؤلاء الذين قضوا تحت التعذيب، وحتى قبيل أن تتسرّب صور “قيصر”. ولعلّ اللقطات الفظيعة لنحو 11 ألف ضحية قضوا تحت التعذيب، والتي سربها “قيصر” مصور الشرطة العسكرية السورية إلى خارج البلاد، بعدما كان الهدف من التقاطها إثبات “إنهاء المهمة” أمام رؤساء أجهزة استخبارات بشار الأسد، ساهمت برأي هؤلاء في الدفع نحو اعتماد محاكم أوروبية قضايا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إذ تنضم مع الوقت دول أوروبية أخرى إلى القضاء الألماني لقبول الدعاوى، ومنها محاكم فرنسية وإسبانية وسويدية ودنماركية، في حال جرى توثيق تلك الجرائم.الناشطون السوريون في مختلف الدول الأوروبية استطاعوا التغلب على محاولات نظام دمشق محو آثار تلك الجرائم، التي كانت تنتشر بعض فظائعها على منصات التواصل، من خلال جهود أرشفة كبيرة للفظائع المرتكبة. وفي القضية التي تشهدها المحاكم الألمانية في الوقت الراهن، وحتى الشهر الخامس من هذا العام، نقلت الصحافة الألمانية عن مكتب المدعي العام الفيدرالي امتلاكه “إثباتات عن تعرض ما لا يقل عن 4 آلاف معتقل في الفرع 251 وحده للتعذيب الممنهج بين إبريل/ نيسان 2011 وسبتمبر/ أيلول 2012”. وأهمية التوثيق الذي يساهم فيه السوريون (حقوقيون، كدور المحامي أنور البني، ونشطاء المجتمع المدني كالمعتقلين السابقين) أوصل المدعي العام في محكمة كوبلنز العليا، في قضية عقيد الاستخبارات السابق المعتقل بجرائم ضد الإنسانية، أنور رسلان، إلى “مسؤوليته عن وفاة ما لا يقل عن 58 شخصاً، رغم أنّ العدد الحقيقي للضحايا أعلى من ذلك بكثير”، وفقاً لما نقلت صحف ومحطات تلفزيونية ألمانية.ما عرفه المعتقلون الناجون من سجون الأسد حول أساليب التعذيب بات اليوم جزءاً من ملف النيابة والادعاء الاتحادي الألماني “ففي الفرع 251 كانت أساليب التعذيب أثناء الاستجواب تشمل اللكمات واستخدام العصي والأسلاك الكهربائية والسياط، وإلى جانب ذلك كان التعذيب بالصدمات الكهربائية وتعليق المعتقلين من السقف وفيه بالكاد تلامس أصابع القدمين الأرض، كما استخدم التهديد بتعذيب الأهل والحرمان من النوم، وكلّ ذلك كان المتهم أنور رسلان مسؤولاً عنه”، بحسب المدعي العام في المحاكمة التي انطلقت يوم الأربعاء 6 يناير/ كانون الثاني الجاري.
منهجية التعذيب وارتكاب جرائم في سجون الأسد تعيد هذه الأيام ذكريات معتقلي الحراك السلمي في 2011، خصوصاً هؤلاء الشبان الذين قمعوا بشدة في مدينة داريا (إحدى ضواحي دمشق، قرب منطقة سجن مطار المزة العسكري). ومن بين القصص التي تحضر قصة الشاب غياث مطر الذي عرف بتحركه السلمي ومحاولة إظهار سلمية الحراك عبر “توزيع الورود والماء على الجنود، لاعتقادنا أنّ شيئاً من هذا القبيل يمكن أن يحدث تغييراً”، بحسب ما يذكر أحد رفاق مطر، الناشط الحقوقي أحمد حلمي. قضى غياث مطر كآلاف غيره تحت التعذيب، ونجا زميله، حلمي، من الموت تحت التعذيب بعد 3 سنوات أمضاها في سجون الأسد. أصيب أحمد حلمي برصاص جنود الأسد أثناء قمع تحركهم السلمي، وأجريت له عمليات جراحية عدة، ورغم ذلك بقي التعذيب بحقه مستمراً بعدما اعتقل عند مدخل جامعة “دمشق”.طبيب التعذيبفي 21 ديسمبر/ كانون الأول الماضي مدّد الادعاء الألماني الحبس الاحتياطي لطبيب سوري يدعى “علاء م.” (جرى توقيفه في صيف العام الماضي). ويواجه 18 اتهاماً بجرائم ضد الإنسانية أثناء خدمته في الاستخبارات العسكرية السورية في حمص (وسط سورية). وشارك المتهم بتعذيب المتظاهرين السلميين في 2011 بطرق فظيعة، بحسب الشهادات. ومن بين ما قام به، بدل معالجة الناس، المشاركة في جلسات التعذيب والضرب حتى الموت، كما في قصة أحد المعتقلين الذين ضربهم “علاء م.”.
وكان المعتقل يعاني من مرض الصرع، فبدلاً من إسعافه ضربه وركله في رأسه، واستخدم أنبوباً لتعذيبه حتى فارق الحياة. وتصف النيابة العامة الألمانية أحد أفظع الاتهامات التي وجهت لمن يفترض أنّه طبيب “فقد صبّ المتهم علاء الكحول على أعضاء تناسلية لأحد المعتقلين وأشعل النار فيه، بحسب شهادة طبيبين سابقين في المستشفى العسكري (في حمص)”.
وكان تقرير لصحيفة “دير شبيغل” في 22 مايو/ أيار 2020 قد سلّط الأضواء على قصة الطبيب المُعذِّب، الذي حضر كغيره من الجلادين ضمن جموع اللاجئين في 2015، قبل أن يجرى أيضاً التعرف إليه في مدينة إيسن من قبل سوريين آخرين. قضايا وناستوثيق اعتقال 1882 مدنياً في سورية خلال 2020في كلّ الأحوال، وبعد سنوات من شكاوى سوريين نجوا من معتقلات النظام، واستمرار غياب العدالة الانتقالية ومحاولة تمييع قصص مئات آلاف الضحايا، يبدو أنّ بارقة الأمل بدأت قبل سنوات قليلة تمنح آمالاً لضحايا التعذيب وأهاليهم وأصدقائهم، لرفع قضايا أمام محاكم أوروبية لملاحقة مرتكبي جرائم حرب وضد الإنسانية. وعلى الرغم من أنّ جلادين كثيرين فروا من سورية، ويلجأ بعضهم إلى التمويه ومحو كلّ أثر على مواقع التواصل الاجتماعي يوصل الضحايا إليهم، فإنّ العامين الأخيرين يشهدان على تغير، إذ لم يعد التخفي ونسج قصص للاختباء خلفها مفيدين لهؤلاء الذين ادعوا أنّهم “معارضون للنظام” للحصول على لجوء. ويبدو أنّ اتساع حجم الجرائم، لجهة أعداد الضحايا، وعدد الجلادين الذين قفزوا من سفينة النظام بعدما تلطخوا بدماء الضحايا، بات يسهل على الباحثين عن الجلادين في أوروبا المهمة. ومن الواضح أنّ صلاحية الولاية القضائية للمحاكم المحلية الأوروبية تقدم فرصة أمام الباحثين عن عدالة وإن جزئية “فإلى حين تحقق العدالة الانتقالية وتقديم كبار مسؤولي النظام عن الجرائم تظلّ مثل هذه المحاكمات خطوة تفضح أشكال القمع الممنهج الذي يعيش عليه النظام، وتفضح هؤلاء الذين يعيشون في برلين أو مدن أوروبية أخرى من مؤيدي الديكتاتورية، وبعضهم يمارس الترهيب والتجسس، بل سافر وقاتل، وهو ما ستثبته الملاحقات المقبلة، وتبقى جميعها خطوات تسترجع أصوات وصرخات من قضوا أو ما زالوا يختفون قسرياً في زنازين نظام الأسد”، بحسب ما يتفق مسعود ونجوى، وغيرهم ممن تحمل أجسادهم وأرواحهم آثار التعذيب، وصدماته، بعد سنوات من النجاة.