• الثلاثاء , 3 ديسمبر 2024

حازم صاغية : العلمانية والاستبداد

تقوم العلمانية على اتجاهين أو مدرستين. المدرسة الأولى، لا تنفصل فيها العلمنة عن طلب الحرية وارتكزت على مفهوم جون لوك لـ”العقد الاجتماعي”، إذ اعتبر أنه لا يجوز أن يكون للحكومة سلطة أو نفوذ على الضمير الفردي، لأن الضمير الفردي لا يمكن للعاقل أن يتنازل عنه لأي مصدر آخر. وهذا يخلق حقاً طبيعياً في التمتع بحرية الضمير، الذي يجب أن يُحمى من نفوذ الحكومة.

وهذه المدرسة هي ليست ضد الدين لكنها تعترف بتعدد المستويات في المجتمع كما ترفض فكرة وجود حقيقة مطلقة يعبر عنها الدين أو الدولة.

لم يكن صدفة اقتران العلمنة والحرية في التجربة الفرنسية على نحو ساطع، فمن ضمن عملية واحدة صدر قانون فصل الكنيسة عن الدولة عام 1905، ثم في العام 1906 تمت تبرئة الضابط اليهودي درايفوس من تهمة التجسس الملفقة له.

وفي هذا السياق، ولد مفهوم المثقف العامل بالفكر والمنحاز إلى الحقيقة حتى ولو تعارضت مع القومية والأمة والدين والجيش. وهذا يعني إضافة مستوى جديد من الانتماء يتم بلوغه، بعبارة «الإرادة الحرة».أما المدرسة الأخرى، فلا تريد فصل الدين عن الدولة من أجل الحرية وفي سياقها، بل لإحلال دين سياسي كالفاشية أو الشيوعية محل الدين. وبهذا تعمل هذه المدرسة على توسيع نطاق سطوة الدولة وحدها إلى قطاع جديد هو الدين نفسه والمؤسسة الدينية.

وقد تكون الفكرة المفتاحية المؤسِسة لهذا الاتجاه هي فكرة جان جاك روسو القائلة أن كل المجتمعات تحتاج إلى الدين الذي يصهر البشر.

ولأن المسيحية تبعد الناس عن الشؤون الأرضية، فلا بد من «دين مدني» يخلق الروابط الضرورية التي تحتاجها الوحدة السياسية من حول الدولة.

هذه المدرسة بدأ تفعيلها مع روبسبيير ثم لاحقاً وعلى نطاق أوسع مع الشيوعية والنازية، حيث بتنا أمام «دين» يحل محل الدين، ويدمج المستويات تعزيزاً لقبضة الدولة.

هذا الدين السياسي أو المدني الذي يطرد الدين، يستعير منه طرق اشتغاله وتقنياته، على ما يجري في الأحزاب التوتاليتارية من قصاص وعقاب وطرد وفصل وترفيع ووجود الزعيم الأوحد الذي هو «النبي» أو «القديس»، ومن «تغيير للبشر» إلى «خلق إنسان جديد». والشبه الأهم هو في وجود قضية ما أن تنتصر حتى يكون الخلاص.

في العالم العربي كانت الأحزاب العلمانية التي عرفناها من قومية ويسارية هي تلميذة للمدرسة الثانية لا الأولى.

إنها تعادي الدين ليس لأنها تريد توسيع الحرية للبشر، بل لأنها تريد تمكين الدولة السلطوية ومد نطاقها إلى حيزات أخرى.وهذا ما رأيناه في سلطات تعين المشايخ وتقيم «وزارة أوقاف» وتكتب خطبة الجمعة، فضلاً عن محاولة استيعابها للدين في روايتها السياسية والأيديولوجية.

هكذا حبّر الشيوعيون آلاف الصفحات عن اليسار في الإسلام وعن أبي ذر الغفاري، وتحدث أنطون سعادة قائلاً «كلنا مسلمون لرب العالمين».

وهذا لأنهم يشتغلون في المستوى نفسه الذي يشتغل عليه الدين. لكن حينما وصل البعثيون إلى السلطة كان أكثر ما فعلوه هو بناء المساجد المسيطر عليها حكومياً.

ازدهار هذه المدرسة الثانية عندنا كان مشروطاً باستبعاد السياسات الوطنية، فالسوري لا يفكر بكيفية حصول السوريين على الحرية وتوسيع مجالاتها، بل يفكر بالتحديث بوصفه شرطاً للقوة في مواجهة العدو القومي. ومن هنا كان الصراع مع الصهيونية والإمبريالية والنفخ فيه المهرب المناسب من الإنشغال بالسياسات الوطنية ومسألة الحرية.

ولو أننا كنا نعيش في ظل أنظمة سياسية غير تدخلية لجاز لنا الدعوة إلى تجاهل السلطة السياسية والاشتغال على تحرير العقل وتحرير المرأة وباقي البرنامج التحديثي، لكن أنظمتنا تعريفاً تدخلية جداً بحيث أن حل مسألة السلطة السياسية هو المقدمة التي لا بد منها لحل أي مشكلة أخرى تتعلق بالوعي أو بالعلاقات الاجتماعية.

على العموم، رضخت الحياة الثقافية لتجنب مسألة السلطة السياسية والحرية، لتركّز من جهة على مسائل العقل والوعي والتقدم، ومن جهة أخرى على مكافحة الإمبريالية والصهيونية.

وبهذا، ومن حيث لا تدري، كانت شريكة في لغة السلطة فيما كانت تخسر طاقتها على التغيير الفعلي، ذلك أن طرح التغيير من دون طرح مسألة الحرية ومن دون الحديث عن مجتمع بعينه هو كمثل لعب كرة القدم من دون رسم الملعب.

صادق جلال العظم، كان إبن هذه الحقبة وتولى لسنوات رئاسة تحرير مجلة «دراسات عربية» التي كانت أهم الأصوات في التعبير عن الإنشغال الفكري القومي واليساري.

وفي هذه الحدود، ربما كان صادق ألمع الأصوات في تناوله لظاهرات مجتمعية وثقافية وفي نقده للخرافة واللاعقلانية منذ كتابيه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و»نقد الفكر الديني» وصولاً إلى دفاعه عن سلمان رشدي.

المشكلة ليست في ما قاله صادق في أعماله الكثيرة. المشكلة هي في ما لم يستطع قوله جرياً على التقليد الثقافي المتجاهل لمسائل البلدان وحرياتها والذي استمر حتى انفجار الثورات العربية.

لكن صادق كان من قلة قليلة من ذاك الجيل وتلك الحقبة اندفعوا في تأييد الثورة كما لو أنهم يفجرون المكبوت السياسي الذي طال كبته وكانت ربما الإشارة المبكرة إلى ذلك والسابقة على الثورة انضمامه إلى «ربيع دمشق» وعضويته في مجلس إدارة «المنظمة السورية لحقوق الإنسان».

وأفضل ما يعبر عن ذلك هو ما قاله في مقابلة أجراها موقع «الجمهوريّة» معه: أنا أدرك أيضاً أن الثورة السورية هي تصفية حسابات لسورية مع نفسها ودفع فواتير متأخرة عن ما سبق لنا من تقاعس وتخاذل وصمت وجبن سوري في لحظات مثل لحظة حصار مدينة حماه سنة 1982 ،وتدميرها والفتك بأهلها، ولم تحرك سوريا ساكناً يومها على الرغم من أننا جميعاً كنا نعرف تماماً ما الذي كان يحدث في حماه في ذلك الوقت.

كما تقبّلت سوريا لفترة طويلة جرائم حكامها في القتل والتعذيب وارتكاب المذابح والحبس التعسفي والاختفاء القسري وعشرات آلاف المفقودين بهدوء، وكأنّ ذلك كله ممارسة عادية ومسألة طبيعية.

ثم جاءت لحظة توريث السلطة والحكم الجمهوري في سوريا سنة 2000 ،وبلعت سوريا الإهانة بهدوء ورصانة لا تحسد نفسها عليها في هذه الأيام، وتبذل الدماء الآن لمحو آثارها.

وفي اللحظة التي حاول فيها «ربيع دمشق» إشعال شمعة عند نهاية النفق المظلم، تم القضاء عليه وعلى شمعته بشراسة مشهودة، ومرة ثانية سكتت سوريا وتقبلت قمع ربيع دمشقها بروتينية عجيبة. أعود لأقول، بثورتها اليوم تبذل سوريا هذا الكم الهائل من الدماء تكفيراً عن خطاياها هذه كلها ومحواً لعارها، ولذا أنا معها.

مقالات ذات صلة

USA