• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

حدود المثقف وحدود السياسي

بكر صدقي*- 10 كانون الأول 2020 ( القدس ) –

لا يقصد العنوان وضع سور نهائي لا يمكن تجاوزه بين المثقف والسياسي، ففي التجربة العملية نرى مثقفين اشتغلوا في السياسة إلى درجة الاحتراف، وسياسيين قدموا إسهامات ثقافية مهمة، فلا شيء يمنع هذا النوع من التداخل. لكن المشكلة تبدأ حين تختلط الأدوار فيمسك المثقف بسوط النقد ينهال به على السياسيين في الوقت الذي يمارس فيه العمل السياسي، أو يتجاوز السياسي حدوده فيجلد الناس بالتنظير المنفصل عن مسارات السياسة ودهاليزها.من حق المثقف النقدي أن ينتقد، بلا هوادة، أعمال السياسيين وأقوالهم وأن يقدم لهم حلولاً، من وجهة نظره، لمشكلات عجزوا عن حلها، بل هذا واجبه.

لكن الأمور تختلط حين يفعل الشخص ذلك من موقعه كمثقف في الوقت الذي يسعى فيه إلى احتلال المواقع السياسية، فيصبح جهده النقدي ملتبساً بدوافع انتهازية، ويفقد مصداقيته كمثقف وكسياسي معاً. وعموماً نتحدث عن صفة مذمومة لدى بعض السياسيين الإيديولوجيين هي زعمهم امتلاك الحقيقة، الحقيقة الوحيدة النهائية غير القابلة للنقاش.كشفت الثورة السورية عيوب مثقفيها وسياسييها معاً، فلا شيء يمكن أن يظل مخفياً طوال عشر سنوات من الدم والدموع والآلام والخراب.

وأول ما كشفته تهافت الأفراد على المواقع والمناصب السياسية كالذباب على طبق حلوى. وبدلاً من التنافس على خدمة الثورة، كان التنافس، للأسف الشديد، على امتطائها للوصول. أما من فاتهم القطار وبقوا واقفين على الرصيف فقد احتلوا موقع الناقد الشتام الذي همشه ركاب القطار ولوحوا له بأيديهم شامتين، غير منتبهين إلى أن القطار لم يتحرك أصلاً بسبب الصراع على قيادته وامتيازاته.لكن هناك نوعاً من المثقفين/ السياسيين لم يكل ولم يمل، طوال السنوات العشر الماضية، عن جلد المعارضة السياسية، على رغم أنه لم يفوّت أي فرصة للمشاركة في العمل السياسي المعارض، بل إنه يبادر إلى صنع الفرص لنفسه إذا لم يجد فرصاً متاحة. وفي كل مرة يجلد المعارضة وكأنه خارج هذا التصنيف، ولا يبخل عليها بأفكاره البناءة ووصفاته الشافية للمشكلات التي تواجهها. ولكن هيهات، فكلامه ونقده وأفكاره تذهب سدى كصرخة في واد موحش، فلا أحد يصغي إليه أو يأخذ بنصائحه، وهو ما أدى إلى هزيمة الثورة! نعم، يعتقد هذا النوع من المثقفين/ السياسيين، من كل عقلهم، أنه لو سمع الناس كلامهم من البداية، وفي كل محطة من المحطات المهمة، لانتصرت الثورة ووفرت سوريا على نفسها كل هذا الدم والخراب.

الغريب أنهم لا يتساءلون عن سبب عدم إصغاء الناس إليهم، وإذا حدث وفعلوا فهم يلقون باللائمة على الناس طبعاً. والنتيجة المنطقية لهذا النوع من التفكير هو أن كل الآخرين أغبياء أو عميان أو انتهازيون، أو باختصار سيئون.هذه نتيجة مُرْضية لهذا النوع من المثقف/ السياسي، على رغم الشكوى الظاهرة فيما يقول، فهي تثبت وحدانيته المطلقة في امتلاك الحقيقة، إضافة إلى الصفات الملازمة لها كالذكاء وعمق التفكير والمعرفة الواسعة. بكلمات أخرى تثبت تلك النتيجة ما يعرفه هو مسبقاً: ألوهته. ولكن ما قيمة الألوهة ما لم يكن هناك مؤمنون بها؟

هذه هي مأساة النوع المذكور من المثقف/ السياسي، وهو ما يدفعه المرة بعد الأخرى للمحاولة، محاولة إزالة الغشاوات عن العيون، ووصف العلاج للأمراض المستفحلة لدى الآخرين، ورسم خطة محكمة للخروج من المأزق الذي صنعوه. لكنه لا يشعر باليأس، فهذا الأخير من صفات الفانين، فإذا رفض هؤلاء رؤية نور الحقيقة الذي يقدمه لهم مجاناً، ووصفاته الشافية، لم يبق أمامه غير التوجه إلى نخبة صغيرة قد لا يتجاوز عدد أفرادها عدد أصابع اليد الواحدة، على أمل النجاح في قيادة السفينة إلى شاطئ الأمان، بشرط امتثال تلك الحفنة من الأنبياء لتعليمات وتعاليم الواحد الأحد، أي هو بالذات.

إن مجرد تصور هذا النوع من الناس في مواقع السلطة يثير الخوف. فدكتاتور متواضع سيكون أقل قسوة على محكوميه من مثقف/ سياسي يمتلك الحقيقة والصواب والعبقرية. مؤكد أن القادة الدكتاتوريين ينتهي بهم المطاف إلى الاعتقاد بألوهتهم، إذا طال بهم الجلوس على كرسي السلطة، بصرف النظر عن تواضع مؤهلاتهم وشح ملكاتهم، وسبب ذلك أن جيشاً من المصفقين المتزلفين يحيط بهم ويؤكد لهم، كل يوم وكل ساعة، عبقريتهم الفذة الفريدة، ويزداد الأمر استفحالاً حين تتحول جماهير الأمة جميعاً إلى مصفقين مقدسين بفعل «صناعة الزعيم» التي يقوم عليها مختصون تعلموا من تجارب دكتاتوريات سابقة وأضافوا إليها عناصر تعكس «خصوصية» البيئة المحلية والحالة. عبارة معمر القذافي الشهيرة «من أنتم؟» كانت معبرة فعلاً عن الحالة النفسية للدكتاتور المؤله الذي يكتشف، فجأة، أن هناك أناس، من محكوميه، يناصبونه العداء ويعملون على الإطاحة به.

«من أنتم؟» قالها مصدوماً وكأنه استيقظ من حلم طويل على واقع لا يعرف عنه شيئاً.أما المثقف/ السياسي الذي يظن نفسه إلهاً بصورة مسبقة، أي قبل وصوله إلى السلطة، فهذا مخيف بحق، لكنه مثير للشفقة بالقدر نفسه، لأنه لن يصل أبداً، بعدما كشف نواياه قبل الأوان. أما إذا حدثت معجزة ووصل، بطريقة ما، إلى السلطة برغم كل شيء، فمن شأن ذلك أن يدفعنا إلى الترحم على القذافي وأمثاله من الإمعات ممن حكمونا عقوداً ودمروا البلاد قبل رحيلهم.*كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

USA