• الثلاثاء , 26 نوفمبر 2024

حسام الدين درويش :الوطنية والسياسة بين فردية المواطن وانتماءاته الجماعاتية

ثمة تشديد كبير على أهمية “المواطنة” في أي نظام سياسيّ وطنيّ/ ديمقراطي. وعلى الرغم من أن المعنى الأولي والعام لهذا المفهوم واضح ومتفق عليه عمومًا، إلا أنه يوجد اختلافات مهمة، في خصوص مدى فردية هذا المواطن، وطبيعة علاقاته بالدولة والعملية السياسية وبالجماعة أو الجماعات العضوية التي ينتمي إليها نسبًا، ومدى مشروعية و/ أو ضرورة حضور هذه الانتماءات والجماعات، في المجال السياسي. ويمكننا التمييز بين رأيين أساسيين في هذا الخصوص: أحدهما يشدد على فردية المواطن، بوصفها أساسًا لحضوره السياسي، بما يقصي كل انتماءاته الجماعاتية، من المجال السياسي؛ والآخر يرى أن فردية المواطن لا تتنافى، بالضرورة، مع انتماءاته الجماعية، وأنه يمكن لحضور المواطن، في المجال السياسي، أن يتأسس، أيضًا، على تلك الانتماءات.أ – المواطن هو الفرد، ولا مكان للجماعات والانتماءات الجماعاتية في المجال السياسييشدّد هذا الاتجاه على أن المواطنة/ الوطنية (الديمقراطية) تقتضي إبعاد كل الانتماءات الجماعاتية عن المجال السياسي. وعلى هذا الأساس، تتنافى تلك الوطنية مع أي أحزاب أو تنظيمات سياسية تتأسس على أساس إثني أو دينيّ. فالانتماءات الجماعاتية هي انتماءات قبل أو تحت وطنية، و/ أو فوق وطنية، وهي، في كل أحوالها، مضادة للانتماءات الوطنية، ومضادة لديمقراطية النظام السياسي التي تقتضي حضور المواطن بوصفه فردًا، وليس بوصفه منتميًا إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك. والتنظيمات الوحيدة التي يمكن وينبغي للمواطن أن يحضر من خلالها، في المجال السياسي، هي التنظيمات المدنية والأحزاب السياسية، التي تتأسس على الانتساب (السياسي)، بعيدًا عن أي تسييسٍ لأي نسب أو انتماء جماعاتيّ. فهذه الانتماءات ينبغي أن تبقى في إطار المجال الثقافي، ولا ينبغي تسييسها أو إدخالها في المجال السياسي. ويرى هذا الاتجاه انتفاء أي بعد ثقافيّ خاصّ للدولة. فهذه البعد الثقافي خاص بجماعة ما، دون أخرى، بغض النظر عن عدد أفراد هذه الجماعة أو تلك. فالحيادية الكاملة للدولة تعني تعبيرها عما يجمع كل مواطنيها. ونظرًا إلى أن القواسم المشتركة قليلة عمومًا بين أفراد أي دولة، يبدو تصور أفراد هذا الاتجاه للدولة تصورًا شكلانيًّا، من حيث افتقار الدولة، بمؤسساتها ووظائفها، لأي مضامين ثقافية أو معيارية خاصة.ولتسويغ ضرورة تبني هذه الرؤية، في الحالة السورية، يرى متبنو هذا الاتجاه أن قيام الدولة الحديثة يقتضي، بالضرورة، تحييد الانتماءات الجماعاتية، في المجال السياسي السوري، فسوريا عانت، وما زالت تعاني، من تسييس هذه الانتماءات، وأفضى ذلك إلى هيمنة الاتجاهات الطائفية أو الإثنية أو المناطقية، ذات المنظور الضيّق، وغير الوطني، من حيث إنه مضادّ أو معاد، صراحةً أو ضمنًا، للوطنية السورية، ولأن تكون سورية وطنًا، ولأن يكون السوريون شعبًا واحدًا، بالمعنى السياسي للكلمة.ب – الجماعات هي المكونات الأساسية للمجتمع والدولة وأساس العمل السياسييرى أنصار هذا الاتجاه أن الجماعات العضوية تمثل مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات كثير من المجتمعات والدول؛ ويذهب بعضهم إلى اعتبارها المكوّن الأكثر أهميةً. وانطلاقًا من ذلك، ينبغي الاعتراف بهذا الواقع، والانطلاق منه، في بناء الدولة أو بنيانها، وشرعنة العمل السياسي، على أساس الانتماء إلى هذه الجماعات العضوية. فمن الضروري أن تعبّر الدولة عن الواقع الاجتماعي والثقافي الجماعاتي، وينبغي للسياسة أن تتأسس على الانتماء إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك، وعلى طبيعة العلاقة القائمة، و/ أو المنشودة، بين هذه الجماعات.وإذا كان الاختلاف بين الاتجاه الجماعاتي والاتجاه الفرداني واضح، ويتمثل في الأهمية المعطاة للجماعة أو الفرد، أو لدورهما، في إطار الدولة والعمل السياسي؛ فإن ذلك الاختلاف ينبغي ألا يحجب الاختلافات الموجودة ضمن كل تيار. فعلى الرغم من الاتفاق المبدئي أو الأولي بين متبني الاتجاه الجماعاتي على أهمية الجماعة العضوية، في إطار الدولة والعمل السياسي، فإن اختلافات كبيرةً قد تبرز بينهم في كثير من المسائل الأساسية، في هذا الخصوص، وفقًا لنوع الجماعة التي ينتمون إليها، وحجمها، وموقعها، في الدولة والمجتمع.فبعض أنصار هذا الاتجاه من المنتمين إلى أغلبية إثنية أو دينية أو طائفية ما، قد يرون مشروعية، بل وجوب، أن تعكس بنية الدولة ومؤسساتها وقوانينها وتوجهاتها هذه الأغلبية. فالدولة ينبغي أن تكون، لدرجة أو لأخرى، عربيةً أو عروبيةً، و/ أو إسلاميةً، إذا كانت الأغلبية المجتمعية عربيةً أو مسلمةً، نسبًا. وعلى الرغم من إمكانية تأثير ذلك، سلبًا في المساواة المواطنية، في الدولة، وفي ديمقراطيتها أو ديمقراطية نظامها السياسي، فليس من النادر أن يستند أنصار هذا التيار إلى فكرة الديمقراطية، ذاتها، ليبرزوا أنهم يمثلون الأغلبية، ويحقّ لهم المطالبة بذلك، وتنفيذه، وفقًا للديمقراطية ذاتها. وبغض النظر عن المطابقة غير الموضوعية التي يقيمها الجماعاتيون، عمومًا، بين الأغلبية السياسية والأغلبية الإثنية أو الدينية أو الطائفية، فإن بعضهم، على الأقل، يقع في مفارقة طريفة تتمثل في أنه يطالب بخضوع الدولة للأغلبية، وتفضيلها لثقافة هذه الأغلبية، وتوجهاتها الأيديولوجية الدينية أو السياسية، عمومًا، مع رفضه القاطع لنشوء فيدراليات على أساس دينيّ أو إثني، في بعض مناطق الدولة التي توجد فيها أغلبيات إثنية أو دينية أو طائفية مختلفة عن الأغلبية التي ينتمي إليها هذا “البعض”.وغالبًا ما يقع بعض الجماعاتيين من المنتمين نسبًا، إلى الأقليات المذكورة، في مفارقة مختلفة ومماثلة، في الوقت نفسه. فهم يرفضون اتسام الدولة، ومؤسساتها، ونظامها السياسي، بأي سمة تعبّر عن ثقافة أو توجهات الأغلبية العددية، الإثنية أو الدينية، لكنهم يطالبون، في الوقت نفسه، بحقوق سياسية خاصة، بوصفهم أقليات. فعلى سبيل المثال، وفي السياق السوري، ليس نادرًا مطالبة بعض الجماعاتيين الأكراد بإقليم فيدراليّ كرديّ، أو على أساس إثني، مع رفضهم القاطع للسمة العربية ليس للدولة فحسب، بل حتى لاسمها.أحد أهم الشعارات التي يرفعها الجماعاتيون، عمومًا، وفي السياق السوري، خصوصًا، هو شعار “الواقعية”. وبمقتضى تلك “الواقعية المزعومة”، يشدد هؤلاء على أن الواقع السياسي السوري هو واقع جماعاتيّ، بامتياز. فالصراع “السياسي” العنيف أصبح صراعًا جماعاتيًّا عمومًا، وطائفيًّا (بين السنة والعلوية، خصوصًا) وإثنيا (بين العرب والكرد، على سبيل المثال او التخصيص)، خصوصًا. ويجب الانطلاق من هذا الواقع والبناء عليه، وأخذ حساسيات هذه الإثنية أو الطائفة و/ أو تلك في الحسبان. ويرى هؤلاء الجماعاتيون أن الدعوات إلى نظام سياسي وطني/ ديمقراطي، قائم على مواطنة الأفراد والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتماءاتهم ونسبهم، هي مجرد دعوات حالمة وغير واقعية، من جهة، وليست مناسبةً سياسيًّا، ولا خيّرةً أخلاقيًّا، ولا مفيدةً عمليًّا، من جهة أخرى. ولا يرى بعض هؤلاء الجماعاتيين، في الدعوة إلى العلمانية، إلا قناعًا طائفيًّا للأقليات الدينية، وفي الدعوة إلى الفيدرالية إلا قناعًا انفصاليًّا للأقليات الإثنية، وفي الدعوة إلى الديمقراطية إلا قناعًا طائفيًّا وعنصريًّا للأغلبية الدينية الإثنية. وهكذا يُختزل الواقع السياسي في جماعات هوياتية متناحرة، ولا يؤخذ، في الحسبان، لا تاريخية هذه الظاهرة ولا محدوديتها، من حيث وجود أطراف أخرى كثيرة، تجاوز انتسابها الإرادي نسبها الإثني أو الديني او الطائفي، واختلف عنه، ولم يتأسس عليه سياسيًّا………………..جزء من مقال نشر مؤخرًا في موقع حرمون، وقامت “أمارجي” بالإشارة إليه في تغريدة تويترية.

مقالات ذات صلة

USA