لعله بوسع المرء أن يتفهّم ردّة الفعل الشديدة على مجمل الإيديولوجيات التقليدية التي سادت في سورية والوطن العربي منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي وحتى انطلاقة ثورات الربيع العربي، نظراً لما أورثته هذه الإيديولوجيات من نتائج كارثية على المستويين الفكري والسياسي، وربما حظيت فكرة ( القومية العربية) بردّات فعل هي الأقوى من بين قريناتها الأخرى، سواء أكانت إسلامية أو شيوعية،
وذلك لأسباب كثيرة، لعل أبرزها:
عدم قدرتها على أن تراكم إرثاً فكرياً متطوراً قادراً على الصمود أمام معطيات الحداثة والحياة المتجددة باستمرار، وهي تحاول على الدوام أن تستر عقمها وعجزها بنوع من (النوستالجيا) التي ربما تلبي حاجة نفسية لأصحابها ولا أكثر من ذلك، ومن جهة أخرى ، فإن معظم أنظمة الحكم العربية المستبدة كانت تتبنى الخطاب القومي، فضلا عن استثمارها للشعارات المنبثقة عن القضايا القومية كقضية فلسطين والوحدة العربية وسواها ، وبالتالي فإن فكرة القومية العربية بات تحمل جنايتين بآن معاً، الأولى جنايتها على نفسها لأنها حملت بذور إخفاقها داخل منظومتها الفكرية ذاتها، والثانية هي أنها حملت أيضاً مسؤولية جناية الأنظمة الحاكمة بحق الشعوب، نظراً لكون معظم الأنظمة العربية تتلطّى بمظلة العروبة.
ولكن قبل التسليم بالمأزق الخانق الذي يعاني منه الفكر العروبي على العموم، يجب التذكير بأن الحديث عن علائم هذا المأزق لم يكن وليدة اللحظة الراهنة، ولئن كانت ردّات الفعل الراهنة لا تخلو من النزق والجنوح نحو التعميم والفوضى الكلامية غير المبررة في غالب الأحيان، فإن هذا كله لا يرتقي من حيث الرصانة والتفكير الجدي إلى مستوى النقد والمراجعات المعمّقة التي قام بها مثقفون ومفكرون من ضمن منظومة الفكر القومي ذاته، إذ يمكن التأكيد على أن المراجعات النقدية التي تلت نكسة حزيران 1967 ، وفي طليعتها الجهود النقدية للمرحوم ياسين الحافظ ( 1930 – 1978 )، وكذلك النتاج الفكري والنقدي للمرحوم الياس مرقص( 1927 – 1991 )، ما تزال تحتفظ بالكثير من القيمة والحيوية، وعلى الرغم من قسوة تلك المراجعات وجذريتها، إلّا أنها لم تتجاوز سياقاتها المعرفية وأهدافها الرامية إلى تصويب الفكر والبحث في الخلل الذي طال آليات التفكير، فتلك الجهود الفكرية والمراجعات النقدية في مجملها كانت وما تزال تصب في نقد الأفكار وتقويمها، وكذلك نقد السياسات التي تمارسها القوى الحاكمة، ولم تتحوّل في شكل من الأشكال إلى ضرب من التعبئة العاطفية والشحن العشوائي، أي أنها ظلت نشاطاً فكرياً وسياسياً يستهدف الأفكار والسياسات ولم تتحوّل إلى نزعة تحريضية وخطاب إنتقامي ضدّ عرق أو أعراق، فما الذي جعل النقد الرصين والمتماسك للفكر القومي بعد 2011 ينحدر إلى خطاب تحريضي ذي مضمرات فيها الكثير من التعصب والانزياح عن الموضوعية، بل فيها غير قليل من الكراهية؟ فهل هذا يعود إلى أن الثورة السورية كانت عاملاً كاشفاً لافتقاد السوريين إلى الكثير من الركائز والروابط المجتمعية التي تكفل تماسك المجتمع من التشظي والتناحر، كغياب رابط الوطنية أو الهويّة السورية أو سوى ذلك؟ أم أن المآلات الموجعة للثورة السورية كان لها ارتدادات أو ارتكاسات تجسّدت في حالة من الانفجار المجتمعي والتناحر القومي أو الطائفي ؟ ربما كان كل ما سبق صحيحاً، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول :
إن الانتماء العرقي حين يتحوّل إلى عقيدة ( إيديولوجيا ) فإنه بلا ريب سيتحوّل إلى حقل صالح لاستنبات الكثير من الأفكار المنزاحة عن بعدها الإنساني، إذ لا داعي لتكرار التأكيد على أن انتماء الفرد إلى أي عرق ليس مزيّة ولا منقصة بآن معاً، طالما أنه لم يكن خياراً يحوزه المرء منذ ولادته.
ولكن يمكن التأكيد – في الوقت ذاته – على أن التجرّد من لازمة التعصب العرقي لا يعني بأي – حال من الأحوال – التجرّد من الانتماء الثقافي والحضاري والوجداني للعرق ذاته، بل ربما يكون هذا الانتماء شرطاً صالحاً لنهوض الأمم وتطورها في السياق السليم، وغني عن القول أن النهضات التي شهدتها معظم دول العالم إنما ارتكزت على مفهوم الدولة القومية.
الثقافة – إذاً – كعامل إنساني مشترك وجامع حضاري – كبديل عن الانتماء العرقي المغلق – هي ما يمكن أن يمنح المفهوم القومي بعده الإنساني، كما يمنحه المشروعية في أن يكون حاملاً نهضوياً مُنفتحاً ومتفاعلاً مع محيطه الإنساني، وليس كياناً عصبوياً مغلقاً.ولئن كان الانتماء العرقي كبديل عن الانتماء الثقافي للأمة أو للعرق، سمةً شديدة السلبية لمفهوم (القومية) بشكل عام، فمن المفترض، بل الواجب ألّا تتحوّل إلى مزيّة واجبة الحيازة لدى بعض القوميات دون سواها، فإذا كان حق الشعوب في تقرير مصيرها – على سبيل المثال – أحد البنود الأساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن حيازة هذا الحق لا تقتضي بالضرورة أن تكون مرهونة بسلبه من الآخرين.ما يحضر في المشهد السوري من سجالات ثقافية وسياسية، سواء على منصات التواصل، أو عبر الندوات التي تقيمها بعض المراكز البحثية، بخصوص المسائل القومية والانتماءات العرقية بهدف الوصول إلى عقد إجتماعي ناظم لعلاقة السوريين بين بعضهم البعض، كمكوّنات وأفراد، لا يشي بكثير من التفاؤل، كما لا يتيح المناخ الملائم لمراكمة أفكار وتصورات يمكن البناء عليها، ولعل مردّ ذلك – فيما أظن – عائدٌ إلى سخونة المشهد الميداني وطغيان الحدث السياسي المباشر، والضغط المنبعث من الحراك الميداني الذي يستحوذ على المشاعر والعواطف، فتسود لغة التجييش والتحريض بدلاً من الخطاب الموضوعي المتزن، وترتفع نبرة سرديات المظلومية لدى الجميع، مما يساهم في ارتفاع منسوب الخطاب الثأري الذي غالباً ما يستمد شحناته من الماضي، ويصبح المستقبل مرهوناً برواكم نفسية في اللاوعي الجمعي لدى معظم الأطراف أو المكونات.
ولعل ما يعزّز استمرارية هذا المناخ هو استمرار التحكّم الخارجي بالقوى المسيطرة على الداخل السوري، وكذلك استمرار التبعية المطلقة للخارج وغياب أي مبادرة محلية جادة لاستعادة القرار الوطني السوري والالتفات للمصلحة الوطنية.حسن النيفي