ينتمي مفهوما الأكثرية والأقلية إلى حقل العلوم الإنسانية: علم السياسة والسوسيولوجيا والثقافة والأتنولوجيا (علم الأعراق). إنهما يدلان على كم ٍ كيفي.
فالأكثرية والأقلية ليستا مجرد عدد كمي من الأفراد، بل هما مفهومان كميان كيفيان يشيران إلى نمط من الوعي والهوية. ففي الوطن العربي مثلاً ليست العرب مجرد أكثرية عددية، بل إن لها لغة وعادات وقيما وشعورا بالانتماء وغايات مشتركة.
فيما الأكراد أقلية ـ هي الأخرى ـ ذات لغة وعادات وقيم وأهداف، إنها قد تشترك مع العرب بصفات ما، لكن الأهم هو الوعي الذاتي، إذ يخلق الانتماء إلى الأكثرية أو إلى الأقلية وعياً ذاتياً خاصاً بكل منهما.
فما من دولة في العالم المعاصر إلا وتعيش حالة الأكثرية القومية والأقلية أو الأقليات القومية. أما في حال الوطن العربي فمفهوما الأكثرية والأقلية أشد تعقيداً. فهناك أكثرية سنية وأقليات دينية وطائفية.
لكن الأقليات الدينية أو الطائفية تنتمي في أغلبها إلى الأكثرية العربية. إذاً هي أقليات من جهة وأكثرية من جهة أخرى. فالمسيحي ينتمي إلى الأكثرية العربية مثلاً وإلى أقلية دينية. وهناك أقليات قومية لكنها تنتمي إلى الأكثرية الدينية. فالأكراد والامازيغ مثلاً أقليات قومية لكنها منتمية إلى الأكثرية الإسلامية.
فيما الأرمن عندنا أقلية قومية منتمية إلى أقلية مسيحية. غير أن هناك بنىً أكثر تعقيداً وهي بنية القبيلة التي ما زالت حاضرة فالعشيرة بوعيها الذاتي أقلية تنتمي إلى الأكثرية. فمرة تسلك بوصفها أقلية ومرة تسلك بوصفها منتمية إلى الأكثرية. وقد تنقسم العشيرة الواحدة على مذهبين بل وعلى دينين مختلفين.
ففي العراق مثلاً هناك عشيرة منقسمة سنية وشيعية معاً. وفي سورية ـ وبخاصة في حوران ـ هناك عشيرة منقسمة بين المسيحيين والمسلمين. المهم في الأمر أن الدولة المعاصرة قد أعطت مفهومي الأكثرية والأقلية سمة سياسية جوهرية مرتبطة بالحكم. فلا يكون في المجتمع المعاصر الأوروبي مثلاً أو الياباني أو الأميركي تمايز بين الناس بسبب انتماءاتهم الإثنية والدينية، فالأكثرية الحاكمة هي أكثرية سياسية وتغدو في مرحلة ما من خسارتها أقلية.
لكن السلطة بعد أن يفرز فيها حزب ما تصبح سلطة المجتمع ككل. ويعيش الوطن العربي ظاهرة خاصة جداً مرتبطة بالأكثرية والأقلية. بذلت السلطة الحاكمة جهداً كبيراً جداً للقضاء على واقعة الأكثرية، فلقد استبدلت الأكثرية الوهمية بالأكثرية الواقعية، فيما ظلت تحارب الأكثرية ليغدو المجتمع مجموعة أقليات.
تنتمي السلطة من حيث الظاهر إلى الأكثرية القومية والدينية عموماً (لبنان، حالة خاصة وهو نموذج سيئ للعلاقة بين الانتماءات). لكنها في آلية عملها أقلية جداً ووعيها بذاتها محكوم بأنها أقلية ويجب الحفاظ على أقليتها. إذاً هي في انتمائها أكثرية وفي سلوكها أقلية. أنها تشكل أقلية من أسوء المنتمين إلى الأقليات والأكثريات. وهكذا نحصل على حكم أقلية تنتمي في الظاهر إلى الأكثرية.
والأكثرية وهي تفقد حضورها ويستولي على عالمها المادي ويدمر عالمها الروحي تتحول ـ بفقدانها قوة حضورها ـ إلى أقلية، فيصير وعيها بذاتها أقلوياً.
فالأكثرية وقد اعتراها الخوف من الأقلية الحاكمة المنتمية في الظاهر إلى الأكثرية فإنها تصاب بمرض التقية الذي هو وعي أقلوي بل وتنـزع إلى النفاق. وهكذا نحصل في ظل غياب مفهومي الأقلية والأكثرية السياسيين على حالة كاريكاتورية جداً من حالات تذرر المجتمع تقوم على ما هو آت من سمات.
أولاً: الأقلية الحاكمة ـ وهي ليست أقلية دينية ولا قومية بل أقلية حاكمة ذات انتماءات متعددة وعصبية سلطوية ـ الأقلية و لأنها أقلية تخاف أكثر ما تخاف ظهور أكثرية مناهضة لها بوصفها سلطة أقلوية. فهي عبر تحطيم السياسة بوصفها ممارسة مجتمعية، ومنع أي شكل من أشكال حرية التنظيم السياسي المستقل أو النقابي، فإنها تقضي ـ عملياً ـ على الأكثرية السياسية والمدنية.
ذلك أن المجتمع بلا تنظيم سياسي ومدني يتحول إلى تجمعات مناطقية عبر تحطيم السياسة تخلق حزباً لا سياسي، بل غطاءً رعاعياً إيديولوجياً. وتترك المجتمع باحثاً عن الأمان في هويات ضيقة. إن عصبيته الحاكمة الأقلوية الفردوية للحكم تحتاج إلى خطاب يؤكد انتماءها للأكثرية، فنحصل على ممارسة عملية أقلوية وخطاب ذي سمة أكثرية.
حسبنا أن نتأمل خطابات الملوك والأمراء والرؤساء وأشباههم من المسؤولين.
ثانياً: ينمو وعي الأقلية الحاكمة بذاتها ـ والمنتمية إلى الأكثرية المحكومة من حيث العرق والدين ـ استناداً إلى مبدأ امتلاك القوة، والقوة الغاشمة وإحساسها بضعف الولاء لها، فتكتفي بعصبية ضيقة من الموالين الخلص وشبه الخلص بسبب حصول هذه العصبة ـ أو العصابة ـ على امتيازات ولائها.
ومع وعي ازدياد الهوة بين الأقلية الحاكمة والأكثرية ـ الهلامية ـ المحكومة، تتصرف هذا السلطة ـ بوصفها أقلية ـ كما يتصرف الاحتلال الخارجي. فوعيها لا يختلف عن وعي المحتل. فلكل القوانين السياسية التي تسنها هي قوانين محتل. وسلوكها سلوك قوى احتلال.
قوة عسكرية وقوة أمنية وعسس خفي ونهب خيرات وخرق عالم القيم المحلي، بل والسكن في أماكن خاصة مشتركة. والقوانين التي تخضع الناس عبرها لا تسري عليها أبداً. قوانين السير والمسؤولية والقضاء السفر الاقتصاد.. الخ.
ثالثاً: وعبر خوفها الدائم على فقدانها سلطتها ـ لأنها رغم قوتها المادية ـ فإن شعور الأقلية الخائفة يسري مع الأيام في عروقها ـ فإن شغلها الشاغل ينحصر في كيفية الحفاظ على ذاتها. فيتحول مفهوم السيادة الوطنية بالنسبة إليها إلى سيادة السلطة، ويتحول الحفاظ على امن الوطن وأراضيه وثرواته إلى الحفاظ على السلطة، ويتحول مصلحة الإنسان وحريته وكرامته إلى ممارس أعلى درجة القمع والقوة الغاشمة. وهكذا تموت فكرة السيادة الوطنية وفكرة المواطنة.
رابعاً: إن الخوف الدائم على سلطتها تجعلها في حالة التهيب الدائم من العامل الخارجي الفاعل عالمياً، من حيث قدرته على الإحاطة بها إن شاء، ولأن الخارج الفاعل (أوروبا ـ أميركا) ذا مصلحة دائمة بنمط كهذا من السلط، لأنه يسلب حرية وإرادة الشعب التي هي بالأصل ضد العدو الخارجي ومع السيادة الوطنية ـ فإن السلطة الأقلوية تجد نفسها في حال التبعية المطلقة للخارج الذي إن اقتنع بقرب انهيارها عمل في ذلك ليجد مكاناً له في الجديد.
خامساً: إن الأقلية الحاكمة وعبر تذرير الأكثرية بواسطة القمع الدائم والذي لا يتوقف أبداً، وعبر اقتناعها بأنها أفقدت الأكثرية تماسكها الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، وحسها في الانتماء إلى الوطن الكلي، وعودة الأكثرية إلى حال القبيلة والطائفة والمنطقة وإلى الانكفاء الذاتي واللامبالاة بما يعصف بالوطن من أخطار، إن السلطة الأقلوية هذه، وقد اطمأنت إلى هذا كله تعتقد بأنها قد أمنت خطر الأكثرية وشرها. وصارت أقلية تحكم أقليات. لا أقلية تحكم أكثرية. لكن عماء السلطة ينسيها أنها عبر القمع والإفقار والفساد تعيد إنتاج الأكثرية بوصفها الآن أكثرية وطنية سياسية عدوها الأساس هو السلطة. فتخلق بهذا المجتمع الشرارة التي تراكم حقده، وقرفه، والانتصار إلى كرامته المهدورة وحسه الوطني المكبوت ليشتعل في صورة تعجز السلطة على مواجهتها، وهذا ما كان من حال الثورات العربية وما سيكون.