العقيد عبد الجبار العكيدي
في ظل تزايد التهديدات التركية وإصرار أنقرة على القيام بعملية عسكرية في شمال سوريا تستهدف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، على غرار عملية غصن الزيتون أو استكمالاً لعملية نبع السلام التي توقفت بناء على اتفاقيات مع روسيا والولايات المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وفي ظل المناخ الذي يشي بانسحاب أميركي من المنطقة على غرار ما حصل في أفغانستان، وجدت قسد نفسها بين مطرقة التهديدات التركية وسندان إملاءات روسيا وشريكها نظام الاسد.استشعرت قسد هذا الخطر وعاشت هاجس الانسحاب الأميركي منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتعززت هذه المخاوف بل ربما تفاقمت بمجيء إدارة حو بايدن التي ادارت ظهرها للملف السوري.
وجدت قيادات قسد، التي راهنت على جميع الأحصنة لتحقيق مشروعها في إقامة كيانها الانفصالي وحلمها المزعوم في إقامة دولة كردية، نفسها وحيدة في محيط من الأعداء، فأصبحت تحاول البحث عن مخارج وتحالفات لحمايتها من عملية اجتياح تستهدف وجودها وتجتثها من المناطق التي تحتلها شرق الفرات أو غربه، والتفكير بإيجاد مظلات حماية بديلة، في ظل تقلص خياراتها التي انحصرت بمجموعة قليلة أبرزها:
الأول: التعويل على بقاء الغطاء والدعم الأميركي لفترة أخرى من الزمن وعدم إعطاء واشنطن الضوء الأخضر لأنقرة للقيام بأي عمل عسكري يستهدفها، ممنين النفس بالتصريحات الأميركية الأخيرة بعد لقاء وبايدن بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش قمة العشرين في روما، وتصريحات المبعوث الأميركي السابق الى سوريا جيمس جيفري بأن بايدن لم يمنح اردوغان ضوءاً اخضر لشن هجوم جديد على شمال وشرق سوريا.جيفري أوضح أن واشنطن لن تتخلى عن الشراكة مع قسد، وقال في تصريح لقناة الحرة، إن “هناك تعاوناً مستمراً على الأرض بين القوات الأميركية وقسد”.
وذهب في تصريحاته أبعد من ذلك عندما أكد أن “أي حركة في شمال شرق سوريا سواء شرق أو غرب المنطقة الموجودة فيها تركيا الآن، سيدفع القوات التركية إلى الاشتباك مع القوات الأميركية، وليس هذا فقط، بل مع القوات الروسية الموجودة شرق وغرب القوات التركية الموجودة هناك وهذا يمثل تعقيداً اخر”.ولكن قيادات قسد تعلم أن التعويل على هذا الخيار أني في ظل التردد الأميركي وعدم وضوح موقفها بشأن الانسحاب من المنطقة.
الخيار الثاني: المقاومة والتصدي لأي هجوم تقوم به القوات التركية وحليفها المحلي (الجيش الوطني السوري)، وهذا ما تردده قيادات التنظيم التي تتحدث عن مقدرتها على خوض المعركة بمفردها في حال تخلي الحلفاء عنها، مؤكدين من خلال ارتباطهم الوثيق مع حزب العمال الكردستاني وذراعه العسكري “بي كا كا”، أنهم سيقاتلون حتى آخر لحظة.
هذا الخيار من الناحية العسكرية والفرق الكبير في موازين القوى بينهم وبين القوة الثانية في حلف الناتو، سيكون بمثابة الانتحار العسكري والسياسي، وسيكون الجيش التركي قادراً على سحقهم خلال ساعات، ومن خلال معرفتنا بتركيبة هذه القوات التي أغلب عناصرها في المناطق التي تحتلها من أبناء العشائر العربية والسريان والأشور، ففي حال اتخاذ قرار المواجهة مع تركيا سينشقون عن التنظيم ويتركون قوات وحدات حماية الشعب تواجه مصيرها المحتوم، بل حتى قياداتها القنديلين سيفرون هاربين إلى مقراتهم في تلك الجبال.
الخيار الثالث: العودة إلى حضن نظام الأسد حيث كان المنشأ والمنبت، والذي سلّحهم ودعمهم وسلّمهم أغلب المناطق الكردية برسم الأمانة، والذي سبق ووفّر الملاذ الآمن ومعسكرات التدريب لقيادات حزب العمال الكردستاني وزعيمهم عبد الله اوجلان.العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي ودمشق تجددت منذ العام 2012، وللحزب مكتب تمثيل في دمشق وآخر في قاعدة حميميم الروسية، ولكن رغم التعاون الكبير إلا أن العلاقة بينهما لم تخلُ من بؤر التنافس أو الصدام المؤجل، ونظام دمشق خلال العامين الفائتين 2019- 2020، لم يقدم لقسد أي شيء لإغرائها بالتفاوض، فهو يريد ابتلاعها بشكل كامل دون أي مقابل.
وعلى الرغم من مغازلة القيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي ألدار خليل لنظام الأسد قبل أيام، وتأكيده على وجوب التفاوض مع نظام دمشق باعتباره “الحكومة الشرعية” وأن الطريق الوحيد للحل هو الحوار مع هذه الحكومة، داعياً الى نقل الحوار المتعلق بقرار مجلس الامن 2254 من جنيف الى العاصمة دمشق، إلا أن قيادات التنظيم تعلم يقيناً أن النظام لو فرغ من احتواء الثورة والمعارضة سيكون مصيرهم الفناء. فلطالما وجّه النظام تهديدات مبطنة الى القيادات الكردية، فالنظام لا يفهم ولا يتعامل بمنطق الحلفاء أو منطق تقاسم النفوذ، فالقوة هي الشرعية الوحيدة، والتهديد باستخدامها هي وسيلة التفاهم والإقناع لدى الأسد.
الخيار الرابع: ارتباط حزب الاتحاد الديمقراطي بعلاقات قديمة مع روسيا تمتد جذورها الى زمن الاتحاد السوفياتي، من خلال قيادات حزب العمال الكردستاني ذي التوجه اللينيني الماركسي، يجعل من احتمالية ارتمائه اليوم بالحضن الروسي أقرب للواقع، والخيار الأقل ضرراً عليهم، مدركين أن روسيا اليوم دولة عظمى وصاحبة نفوذ كبير في سوريا، بل صاحبة القرار الأول فيها بعد أن أصبح دور النظام هامشياً، وبالتالي يمكن أن تشكل بالنسبة لقسد عامل توازن في المنطقة، قادرة على حمايتها من تركيا التي تتحين الفرصة للانقضاض عليها.
روسيا تستثمر الإهمال الأميركي والتهديدات التركية، وتقوم ببعض المناورات العسكرية في الشمال السوري في محاولة لإيهام قسد بهجوم تركي وشيك، والمبالغة بالخطر التركي من خلال ترويج اعلامها لعملية عسكرية تركية مرتقبة، للضغط عليها لكي تلجأ إليها، وربما يكون الهدف الأول للروس هو إزاحة قسد عن البساط الأميركي وتقريبها من المظلة الروسية، وقد يكون هذا السلوك الروسي جاء نتيجة تفاهمات أميركية-روسية، كمخرج أميركي للتنصل من عبء قسد ودفعهم بشكل غير مباشر باتجاه روسيا في حال انسحابها من المنطقة.ولا ننسى أن روسيا التي تمكنت من وضع قدم لها في مناطق شمال شرق سوريا في تشرين الأول 2019، هي من تدخلت لإيقاف عملية نبع السلام حيث اتفقت مع تركيا على إخراج قسد من المنطقة وتسيير دوريات مشتركة في أرياف الرقة والحسكة وحلب.
تسعى موسكو من خلال التحالف مع قسد لتحقيق حلمها بالسيطرة على شرق الفرات بكل الأساليب، وإبرام تفاهمات سياسية وعسكرية معها في منطقة الجزيرة السورية، لتمكين النظام من استعادة تلك المناطق الغنية بالبترول والمياه والزراعة، وتطبيق الحل السياسي وفق الرؤية الروسية.ثمة مؤشرات على أن خيار قسد الأخير على الأرجح سيكون اللجوء الى التنين الروسي، وأبرز هذه المؤشرات كانت تصريحات رئيس حزب العمال الكردستاني جميل باييك في مقابلة مع جريدة “النهار” اللبنانية، أن ” لا شيء يمكن أن يكون أكثر طبيعية من وجود علاقة مع روسيا”، بالإضافة الى إنشاء مركز تنسيق عسكري بين القوات الروسية وقوات النظام وقسد في مدينة القامشلي.وجات الخطوة العملية على الأرض قبل أيام من خلال حماية قسد للرتل العسكري الروسي وتمكينه من الدخول عبر معبر الصالحية البري الفاصل بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة قسد في محافظة دير الزور باتجاه محافظة الرقة، لتؤكد هذا التوجه.ويبقى الخيار الأسلم والأفضل لقسد والتي ما زالت تماطل في تطبيقه هو تنفيذ الاتفاق الأميركي-التركي-الروسي في شهر تشرين الأول عام 2019، الذي أفضى الى تعليق عملية نبع السلام، والذي نص على احتفاظ تركيا بالسيطرة على منطقة بعمق 32 كيلومتراً في سوريا، استولت عليها خلال عملية “نبع السلام”.وينص الاتفاق على أن “الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري سيعملان على تسهيل إزالة المقاتلين الأكراد مع أسلحتهم، من منطقة بعمق 30 كيلومترا على طول الحدود التركية السورية”.
فهل ستأخذ قسد التهديدات التركية على محمل الجد وتتخلى عن عنادها وتبتعد عن الحدود التركية تاركةً مواقعها لقوات النظام من حرس الحدود والشرطة العسكرية الروسية، ومجنبةً نفسها هزيمة جديدة تضاف إلى خسارتها عفرين، ورأس العين، وتل أبيض، أم أنها ستعتمد إحدى الخيارات الأخرى وكلها مرة؟