لجين مراد عنب بلدي:30/3/2023
كشف تحقيق نشره “المركز السوري للعدالة والمساءلة” (SJAC) الحقوقي، استخدام النظام السوري كاسحات الألغام من طراز “UR-77” و”UR-83P”، بهدف تدمير مناطق مدنية والقضاء على البنية التحتية لتلك المناطق بشكل متعمد.
وبحسب التحقيق المنشور اليوم، الخميس 30 من آذار، بعنوان “دمار لم يُعهد من قبل.. كيف استخدمت الحكومة السورية كاسحات الألغام ضد المدنيين”، تمكّن المركز من توثيق أكثر من 30 واقعة استخدم فيها النظام السوري كاسحات الألغام ضد المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة.
المدير التنفيذي للمركز، محمد العبد الله، قال لعنب بلدي، إن تحقيقات المركز أثبتت توجه النظام السوري لاستخدام الأسلحة من طراز “UR-77” على نحو منتظم، ليتمكن من استعادة السيطرة على المناطق المستهدفة، لافتًا إلى أن ذلك النهج مقتبس من استراتيجية الجيش الروسي في حرب الشيشان الثانية سابقًا، وفي حربه على أوكرانيا بالوقت الراهن.
لمَ كاسحات الألغام؟
كاسحات الألغام هي أسلحة معدة لإزالة الألغام، لكنها استُخدمت في سوريا كأداة من أدوات قتل المدنيين، وتدمير الأبنية المدنية والبنى التحتية، وهو ما يشكّل انتهاكًا صارخًا لقانون الحرب.
وتعرّف كاسحة الألغام من طراز “UR-77” على أنها مركبة ذاتية الدفع، تقذف محركات صاروخية تحمل شحنتين خطّيتين متفجرتين لإزالة الألغام، بينما يعتبر الطراز البديل “UR-83P” قابلًا للنقل، ويمكن تركيبه على عربة.
وصُمم الطرازان لإزالة الألغام الأرضية، أو الفخاخ المتفجرة، والعبوات الناسفة المصنعة يدويًا، وذلك من خلال إطلاق محرك صاروخي باتجاه حقل الألغام من مسافة تصل إلى 500 متر كحد أقصى.
ويتم ربط المحرك الصاروخي بشحنة خطية متفجرة، تتكون من خرطوم بداخله مواد متفجرة (الخراطيم المتفجرة) يصل وزنها إلى طن واحد تقريبًا.
وتسفر الشحنة عن انفجار يولد موجة صدمة قوية تكفي لتدمير أو تعطيل صواعق التفجير في الألغام الأرضية، ما يؤدي إلى فتح مسار خالٍ من المتفجرات بعرض ستة أمتار وبطول يتراوح ما بين 80 و90 مترًا تقريبًا.وخلّفت الأسلحة من طراز “UR-77″ و”UR-83P” دمارًا واسعًا بالمناطق المستهدفة في سوريا، وتسببت بإزالة أحياء كاملة، وتدمير بنيتها التحتية.
أبرز الوقائع
استُخدمت كاسحات الألغام في سوريا بين عامي 2014 و2019، وركّز التحقيق على إبراز أهم أربع وقائع مثبتة بالأدلة خلال تلك الفترة، من خلال استخدام أدوات تحديد المواقع الجغرافية وصور الأقمار الصناعية وإفادات الشهود، بالإضافة إلى مقاطع مصوّرة ترويجية نشرتها قوات النظام السوري.
كما تحقق المركز من وجود مدنيين في المناطق المستهدفة، مستندًا إلى مواقع التواصل الاجتماعي والتغطيات الإخبارية، بالإضافة إلى تقارير الأمم المتحدة ذات الصلة.
القابون.. دمار واسع
أثبت التحقيق استخدام عناصر “الحرس الجمهوري” كاسحات الألغام في حي القابون ضد المدنيين عام 2017، من خلال مقطع مصوّر نشره عنصر يدعى وسام إسماعيل (المعروف باسم وسام الطير الذي خدم في “الحرس الجمهوري” بالفترة بين عامي 2010 و2018) عبر “فيس بوك”، إذ وصف “UR-77″ بـ”قاهرة المسلحين”.
يوثق المقطع المصوّر ثلاث عمليات هجوم استُخدمت فيها كاسحات الألغام لضرب أهداف منفصلة، وأسفر سقوط الخراطيم المتفجرة على المباني في أحد الأحياء السكنية عن انفجارات “هائلة”.
ويظهر بعد مرور دقيقة و13 ثانية من المقطع شعار القوات المسلحة السورية على المركبة، بالإضافة إلى أول ثلاثة أرقام من رقم المركبة المكوّن عادة من ست خانات، وساعد وجود مئذنة مسجد في موقع الاستهداف الأول على تحديد الموقع الجغرافي للهجوم الأول، وفق التحقيق.
كما استطاع التحقيق تحديد موقع الهجوم الثاني الذي ظهر بالمقطع المصوّر، باستخدام لقطات من المقطع وصور الأقمار الصناعية.
وعزز التحقيق نتائجه بالاستناد إلى مقطع آخر نشره وسيم عيسى، وهو مراسل “الحرس الجمهوري” حينها، ظهرت فيه مركبة من طراز “UR-77″، تمكّن المحققون من تحديد موقعها باستخدام صور الأقمار الصناعية، وبالاستعانة بموقع “ويكي مابيا”، ليثبتوا الهجوم الثالث الذي ظهر في مقطع وسام إسماعيل.
من جانب آخر، أكّد تقرير نشرته وكالة أنباء “Ruptly” التابعة للحكومة الروسية، في 13 من أيار 2017، أن “اللواء 105” في “الحرس الجمهوري” استخدم “UR-77” في منطقة القابون.
وتحقق “المركز السوري” من وجود مدنيين حينها، بالاستناد إلى مقاطع مصوّرة نشرها وسام إسماعيل، تظهر نساء وأطفالًا فرّوا من حي القابون، إذ أكد عديد منهم خلال المقابلات أنهم كانوا موجودين بالقابون في أثناء العمليات العسكرية، بالإضافة إلى شهادات مدنيين قابلهم المركز، وتقرير لمبادرة “REACH” الإنسانية ذكر أن معظم المدنيين نزحوا من القابون في أيار 2017.سيطر النظام على حي القابون بدمشق في أيار من عام 2017، بعد “تسوية” أفضت إلى تهجير قسم كبير من أهالي الحي إلى الشمال السوري ومناطق أخرى في دمشق، واعتقال آخرين، وذلك في أعقاب قصف استهدف الحي لسنوات، وأدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا وخلّف دمارًا واسعًا.
هجومين في جوبر
توصل التحقيق إلى أن قوات النظام السوري استخدمت كاسحات الألغام في جوبر لأول مرة عام 2014، تلاه استخدام آخر في 2017، واستهدف الهجومان المناطق السكنية.اعتمد التحقيق على تحليل مقطع مصوّر لانفجارات في حي جوبر، إذ يتطابق الانفجار مع ذلك الناتج عن ضربات كاسحات الألغام، وهو ذو طابع فريد من نوعه.
وعمل المحققون في “المركز السوري” على التحقق من موقع الضربات عام 2017، من خلال ملاحظة عدة معالم في المقطع المصوّر، بينها برج الإرسال على قمة جبل قاسيون، و”مجمع 8 آذار”، وخزانات مياه، بالإضافة إلى ملعب “العباسيين الدولي”، ومطابقتها مع صورة الأقمار الصناعية.
وبحسب التحقيق، من غير المرجح أن يكون هناك ناجون في المكان المحيط بنقطة الهجوم، ورغم أن المقطع المصور لا يُظهر وجود مدنيين، تحقق “المركز السوري” من أن حي جوبر شهد احتجاجات بعد أقل من شهر من وقوع الانفجارات، ما يشير إلى احتمال وجود مدنيين في الأماكن القريبة من موقع الانفجار وقت وقوع الهجوم.
وتمكنت قوات النظام من بسط سيطرتها على حي جوبر، في نيسان 2018، بعد أن وقّعت روسيا اتفاقية “تسوية” مع “فيلق الرحمن”، خرج بموجبها مقاتلو المنطقة إلى الشمال السوري.
هجوم في حرستا
نشر مصدر إعلامي موالٍ للنظام السوري مقطع فيديو بعنوان “الجيش السوري يستخدم سلاح (UR-77) في حرستا”، ونظرًا إلى شكل الانفجار، تمكًن “المركز السوري” من الجزم بأن الانفجار ناجم عن استخدام كاسحة الألغام.
ومن خلال المقطع، توصل التحقيق إلى أن الاستهداف وقع قرب مستشفى “حرستا العسكري”، وباستخدام صور الأقمار الصناعية، توصل التحقيق إلى موقع الاستهداف بشكل تقريبي.
تظهر عديد من التقارير الإخبارية الصادرة في آذار 2018، بقاء المدنيين في المنطقة حتى منتصف الشهر نفسه، بينها تقريران للوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا)، يؤكدان أن المدنيين كانوا داخل المنطقة المستهدفة، ويظهران مزاعم النظام بأن “المسلحين” استخدموا المدنيين حينها دروعًا بشرية.
وتُظهر صور الأقمار الصناعية الملتقطة في كانون الأول 2017 وآذار 2018، حجم الدمار الذي طال منطقة حرستا وسرعة حدوثه.وسيطرت قوات النظام على حرستا بعد حملة عسكرية شنتها مدعومة من روسيا، وأدت إلى اتفاق وقعته مع “حركة أحرار الشام” في آذار 2018.
“اليرموك”.. ثلاث هجمات
تحقق “المركز السوري” من وقوع ثلاث هجمات بكاسحات الألغام من طراز “UR-77″ و”UR-83P” خلال العملية العسكرية على مخيم “اليرموك” في أيار 2018.
أظهرت مقاطع مصوّرة نشرتها مصادر روسية لحظة إطلاق خرطوم متفجر من سلاح “UR-83P”، وحجم الدمار الذي خلّفه في المنطقة، ما مكّن “المركز السوري” من تحديد الموقع المستهدف والتحقق من أن الهجوم وقع في جوبر.وفي الهجوم الثاني، بثت قناة “روسيا 24” لقطات مصوّرة لهجوم آخر على مخيم “اليرموك” في نفس الفترة تقريبًا، ويظهر المقطع لحظة إطلاق خرطوم متفجر من سلاح “UR-83P” مثبت على شاحنة متوقفة في مكان محاط بمبانٍ تبدو فارغة.
كما يظهر المقطع المصوّر عددًا من الأبنية البارزة في “اليرموك” قرب موقع الانفجارات، وخلص التحقيق إلى أن الخرطوم المتفجر أُطلق من بلدة يلدا، وهي المنطقة الوحيدة المحاذية لليرموك التي كان يتمركز فيها الجيش السوري.
وبحسب شهادات الأشخاص الذين قابلهم “المركز السوري”، كانت المنطقة واحدة من أكثر المناطق استهدافًا، رغم أنها كانت تضم عديدًا من ملاجئ المدنيين.
ووثق المراسل وسيم عيسى ضربات أخرى على مخيم “اليرموك” باستخدام كاسحات الألغام من طراز “UR-83P” مثبتة على شاحنة عسكرية من نوع “أورال-4320″، وأسهمت جودة التصوير في مساعدة سكان المخيم بالتعرف على موقع إطلاق الخراطيم، بحسب التحقيق.واستعان “المركز السوري” بصور الأقمار الصناعية للتحقق من المعلومات التي حصل عليها، وتأكد أفراد الفريق من صحة موقع الإطلاق الذي تم تقديره.وسيطرت قوات النظام مجددًا بشكل كامل على منطقة الحجر الأسود ومخيم “اليرموك” في أيار 2018، بعد عملية عسكرية استمرت شهرًا.
الدمار والمخططات التنظيمية
في عام 2012، أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، المرسوم التشريعي رقم “66”، الذي يعد أول قانون استحدث نمطًا جديدًا لتنظيم المناطق، وشكّل خطرًا على حقوق الملكية والسكن، ومهّد لظهور القانون رقم “10” لعام 2018.
نصّ المرسوم على إحداث منطقتين تنظيميتين واقعتين ضمن المصوّر العام لمدينة دمشق، لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي وفق الدراسات التنظيمية التفصيلية المعدة لهما.وبموجب المرسوم، بدأت محافظة دمشق، وشركة “شام القابضة” عام 2017، العمل على مشروع “ماروتا سيتي” العمراني، خلف الرازي وبساتين المزة العشوائية.
كما بدأ العمل على مشروع “باسيليا سيتي” عام 2018، ويمتد المخطط من جنوب المتحلق الجنوبي إلى القدم وعسالي وشارع الثلاثين، وتصل مساحته إلى 900 هكتار، بما يعادل تسعة ملايين متر مربع، ويشمل حوالي 4000 عقار، وهي المناطق ذاتها التي استخدم النظام السوري فيها كاسحات الألغام وعمل على تدميرها بشكل شبه كامل، وفق التحقيق.
مدير “المركز السوري”، محمد العبد الله، قال لعنب بلدي، إن المركز خلص بعد بحث مطول إلى أنه غير قادر على الجزم بأن النظام السوري استخدم كاسحات الألغام بهدف إعادة الإعمار وفق المخططات التنظيمية.
وأرجع ذلك إلى أن المرسوم “66” لعام 2012 صدر قبل سنوات من استخدام تلك الأسلحة، بالإضافة إلى أن دوافع النظام لاستخدام كاسحات الألغام، يمكن أن تكون مرتبطة بسيطرة المعارضة على مناطق واسعة في ريف دمشق، وظهور فصائل مثل “جبهة النصرة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، خصوصًا في مخيم “اليرموك”.
كما أن مقارنة الخرائط التنظيمية بمناطق الكاسحات، يظهر أن المشاريع التي يرغب النظام بتنفيذها أكبر بكثير من المناطق المدمرة بكاسحات الألغام، وفق العبد الله.
وأضاف العبد الله أن المركز توصل إلى وجود 30 واقعة استخدم فيها النظام كاسحات الألغام في مناطق خارج المخططات التنظيمية في حلب ودير الزور، لكنه سلّط الضوء على أبرز أربع وقائع بسبب وجود أدلة مرئية واضحة.
دفع ذلك المركز إلى ربط استخدام كاسحات الألغام بفكرة استهداف المدنيين المتعمد، والضرب بأسلحة ذات طابع عشوائي، بالإضافة إلى التدمير وإلحاق الضرر غير الضروري والتهجير القسري، بحسب ما قاله العبد الله.
ما فرص المحاسبة؟
استخدام الحكومة السورية السلاح من طراز “UR-77″ و”UR-83P” بحق المدنيين العزّل، بهدف إجبارهم على النزوح عن مناطق سكناهم قسرًا، يشكّل انتهاكًا لأحكام القانون الدولي الإنساني بما يرقى إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ووفقًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، ليس لأطراف النزاع الحق المطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو.كما أنه لا يجوز لأطراف النزاع استخدام أسلحة لا تتيح التمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية.
وتوفر الوقائع ونتائج التحقيق دليلًا واضحًا على أن قوات النظام السوري استخدمت كاسحات الألغام بشكل هجومي، بهدف تفريغ أحياء بكاملها من المدنيين والأعيان المدنية.
ورغم توفر تلك الأدلة، لا تزال فرص الناجين في اللجوء إلى العدالة محدودة، إذ إن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بالولاية والاختصاص بالجرائم المرتكبة في سوريا، ولا تلوح في الأفق حاليًا إمكانية إنشاء آلية دولية لتحقيق المساءلة ومحاسبة الجناة.
وتظل القضايا التي يجوز تحريكها بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية السبيل الوحيد حاليًا للسوريين، على غرار المحاكمات التي تجري في المحاكم الأوروبية، لكن تلك الولاية تشترط وجود صلة محلية (أي وجود المتهم داخل أوروبا)، وهو شرط قد يصعب تحقيقه عندما يكون كبار ضباط القوات المسلحة السورية بعيدين عن يد العدالة.