• الأحد , 24 نوفمبر 2024

دول شرق الفرات وإعادة إنتاج الخراب

رشيد الحاج صالح /الحرمون

منذ بدايات الثورة السورية عام 2011 حتى يومنا هذا، لم يهدأ الصراع على منطقة شرق الفرات. حتى خيّل لكبار المقامرين في المنطقة أنه يمكن إنشاء سلطات ذاتية، أو حتى دول مستقلة مكتملة الأركان من الناحية الشكلية.

المقامرون الجدد استغلوا الوضع المعقد للمنطقة الناتج أولًا عن إهمال متعمّد من قبل السلطة الأسدية لعقود طويلة؛ وثانيًا عن عدم استقرار المنطقة منذ غزوات المغول؛ وثالثًا عن التقسيم التعسّفي الناتج عن المعاهدات التي نظّمت وضع ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ ورابعًا عن التنوع العِرقي الذي يلقى اهتمام دول المنطقة التي لا ينقصها بدورها الرغبة في إعادة تكوين المنطقة بما يتناسب ومصالحها الاستراتيجية.

مرّت على منطقة شرق الفرات أربع سلطات أمر واقع، خلال السنوات العشر العجاف الماضية، حتى إن بعضها أطلق على نفسه اسم “دولة”.

ولكن هل تحمل هذه المحاولات بذور مشاريع جدية لدول مستقبلية أو كيانات وطنية؟ أم أن الأمر يتعلق بمقامرات وتجار حروب يجدون من يأخذ بيدهم؟بعد عام واحد من اندلاع الثورة السورية؛ أدرك النظام الأسدي أنه غير قادر على البقاء في منطقة شاسعة كمنطقة شرق الفرات (مناطق واسعة من المحافظات الثلاث: دير الزور والحسكة والرقة، بالإضافة إلى مناطق في شرق حلب) ولذلك بدأ البحثَ عن شركاء استراتيجيين يساعدونه، ويمكن التعاون معهم، مع مراعاة مصالحهم وطموحاتهم، ولو مرحليًا، ريثما تتحسن الأوضاع.

هكذا سلّم النظام الأسدي عددًا من المناطق ذات الأغلبية الكردية، في القامشلي والحسكة وحلب، إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (حزب كردي تأسس عام 2003 في سورية، وهو مرتبط بحزب العمال الكردستاني ومتعاون مع النظام الأسدي في مرحلة ما بعد الثورة)، مثلما اضطر النظام إلى سحب قواته من الفرقة 17 واللواء 93 من الرقة.

كانت الرقة أول محافظة يفقد النظام سيطرته عليها بشكل كامل، مثلما وقعت مناطق واسعة من شرق الفرات تحت سيطرة كتائب الجيش الحر، قبل أن يضطر الأخير إلى التلاشي تحت ضربات (داعش) وجبهة النصرة (آنذاك)، بالإضافة إلى القصف الجوي المركز من قبل طيران النظام. انتهت خريطة المنطقة بأن تمركزت قوات النظام السوري غرب وجنوب نهر الفرات، وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتحالفه (قسد) في شرقه، بعد أن تمكنت (قسد) من طرد تنظيم الدولة، بدعم أميركي قلَبَ موازين القوة بشكل كامل.

(قسد) بدورها أبقت على بعض الفروع الأمنية للنظام الأسدي في القامشلي والحسكة، على الرغم من سيطرتها التامة على كامل منطقة شرق الفرات.في البداية، شرعت كلّ من كتائب الجيش الحرّ وحزب الاتحاد الديمقراطي وجبهة النصرة بالتأسيس لمجالس محلية وكيانات إدارية، لتنظيم الحياة العامة في المناطق التي سيطرت عليها، على الرغم من الوجود المكثف للسلاح بين أيدي الناس وانتشار المعارك في كلّ مكان.

أما تنظيم الدولة، فشرع في عام 2014 في إنشاء ما أسماه “الخلافة الإسلامية” التي أعلنها، وقد حشد لذلك مئات الشرعيين الذين أخذوا يتدخلون في كل شيء، ويقررون عن الناس أمور حياتهم. في عام 2016، أعلنت (قسد)، بعد أن عادت السيطرة لقواتها، تأسيس مجالس عدة وإدارات لحكم المنطقة وتنظيم وضعها الإداري والقانوني والأمني كان أهمّها “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية” التي تدير اليوم شؤون المنطقة بشكل كامل.

وفي عام 2019، دخلت كتائب تابعة للائتلاف الوطني (الجيش الوطني) مدعومة من قبل تركيا إلى مناطق تل أبيض ورأس العين، وسيطرت، بعد قتال مع قوات (قسد)، على منطقة بطول 130 كم وعرض نحو 30 كم، وأصبح طريق M4، الذي يربط بين حلب وشمال الرقة والحسكة والعراق، خطّ تماس شبيه بخطوط التماس الخطرة بين الكوريتين.

الجيش الوطني بدوره أخذ زمام الأمور في المنطقة التي سيطر عليها، وشرع بالتأسيس لمجالس محلية تدير شؤون الناس وتنظم حياتهم.والسؤال الآن: هل يمكن أن تشكل مثل تلك التجارب في الحكم والإدارة لبنة حقيقية، يمكن أن يبنى عليها مستقبل المنطقة، التي عانت مختلف أنواع التهميش والاستقواء قبل الثورة وبعدها؟ وهل تؤسس تلك التجارب لوضع وطني وديمقراطي يُعطي حياة أهل المنطقة ومصالحهم، من عرب وأكراد، مسلمين ومسيحيين، الأولوية، وهو الهدف الذي دخلت منطقة شرق الفرات الثورة من أجله؟يمكن للمتابع أن يرسم خطوطًا عريضة تُحدد الإطار العام لتلك الإدارات المختلفة في الحكم، والآفاق السياسية لمستقبلها وتأثيرها على منطقة شرق الفرات وأهلها.

الخط الأول الذي ينظم تلك التجارب أنها إدارات للسيطرة، وليست مؤسسات للحكم يمكن أن تؤسس لحكم مدني أهلي. وهذا هو الفرق الأساسي بين الدولة والسلطة، مثلما هو الفرق الأساسي بين سلطة نظام الأسد ومفهوم الدولة. إدارات تقوم بتنظيم كل شيء، بقصد السيطرة وإخضاع الناس والموارد لسيطرة كاملة من قبل أدوات تلك السلطات، وهي على الأغلب تكون أدوات أمنية تحتكر القوة، ليس من أجل إدارة شؤون الناس، كما يقول ماكس فيبر، إنّما من أجل إدارة السيطرة وتثبيتها بكل الوسائل المتاحة لتلك الأدوات الأمنية، حتى القتل والسجن والإعدامات والتهجير والتعذيب واستعراض القوة في الشوارع.

وسجلّ تلك الكيانات التي توالت وما زالت تحكم شرق الفرات حافلٌ بتلك الممارسات.ولذلك فإنّ هواجسها في النهاية أمنيّة وليست مدنية، لأن هدفها النهائي من كلّ العملية إخضاع الناس لإرادتها بالقوة. وهذا هو الفرق بين الدكتاتورية والطغيان.

الدكتاتور في النهاية له هدف مدني/ سياسي يريد الوصول إليه، ولكنه يحتكر لنفسه اتخاذ كل القرارات، بحيث يضع كل السلطات الأساسية بين يديه، ويتحول إلى حاكم مطلق يتحمل شعبه تبعات مغامراته ونزوعه إلى الدموية، أو “التدميرية”، هذه التدميرية التي، بحسب إيريك فرام، أودت بحياة عشرات الملايين من البشر. بهذا المعنى، فإن ستالين -مثلًا- دكتاتور، وليس طاغية، على الرغم من أنه مسؤول عن قتل وتهجير ملايين البشر.

اما الطاغية فهو دكتاتور، ولكنه بِلا مشروع سياسي أو هدف مدني. يريد أن يحكم لأنه يمتلك القوة فقط، بدون أن يسأل نفسه عن مغزى وجوده السياسي في النهاية. وما شعارات (قسد) وتنظيم “الدولة الإسلامية” حول مشاريعها السياسية سوى ذر للرماد في العيون. (داعش) كانت مجرد مغامرة، كان الهمّ الأول لرجالاتها المال والنساء وممارسة نوع من المازوشية (التلذذ في عذاب الآخرين) تجاه أهل المنطقة، في حالة لا ينقصها التوحش القروسطي. وهكذا هي أيضًا (قسد) التي قتلت قبل أيام الناشط الكردي أمين عيسى العلي، تعذيبًا حتى الموت، وسلّمت جثته إلى أهله وآثار الصعق الكهربائي على الخصيتين، والزيوت الحارقة على جسده، واضحة. الخط الثاني هو المال؛ فهذه الكيانات هي مجرد أدارات لجمع الأموال، تعمل وفق المعادلة المعروفة: المال يجلب مزيدًا من السلطة، والسلطة تجلب مزيدًا من المال. تنظيمها للوضع الاقتصادي تنظيم (مافيوي)، يقوم على منح الجهات المشرفة على جمع الضرائب وأموال النفط سلطات مطلقة، وعلى إحاطة عملها بسرية تامة، بحيث لا يعرف أحد كم هي تلك الأموال، وكيف تُصرف! الإدارة المالية للأموال والضرائب من قبل (قسد) تشبه طريقة عمل مسؤولي (داعش)، أي إعطاء الأولوية المطلقة لجمع المال، لأن كل من التنظيمين، في النهاية، يريد أن يعيش على حساب أهل المنطقة، بكل بساطة.

لم يولِ تنظيم الدولة أي اهتمام لإعادة بناء البنية التحتية للمناطق التي سيطر عليها، ولم تكن قضايا تحسين الخدمات والتعليم والمشافي من أولوياته، حتى العملة التي صكّها تبيّن أنها مجرد أداة لتخزين أموال الضرائب وتجنب التعامل بعملات أجنبية.

أما (قسد) فإنها تخفي أموال النفط بشكل شبه كامل، وتعمل بوصفها شريكًا في المساعدات الدولية، بغية أخذ أكبر حصة ممكنة، وصلّى الله وبارك. طبعًا تبقى المؤسسة الوحيدة التي تعمل بشكل دقيق، على مدار الساعة، هي مخابرات (الأسايش)، والشرعيون الأمنيون لدى (داعش) الذين يشكلون العمود الفقري لتلك الكيانات، أو ما بات يعرف بـ “الدولة العميقة”.

أما تجربة الفصائل التابعة للائتلاف، في منطقتي تل أبيض ورأس العين، فلم تخرج عن الإطار العام للإدارات السابقة، من حيث إنها سلطات أمر واقع تُعطي الأولوية للسيطرة والنفوذ وتخويف الناس بقصد إخضاعهم. وهي تشترك مع سابقاتها في بنيتها “المِلحية” (من الملح) التي تعني أن تلك الكيانات يمكن أن تذوب بين ليلة وضحاها.

فـ (داعش) تلاشت بقرار من أميركا، و(قسد) لا يمكن أن تبقى إلا بمساندة القوات الأميركية، ووجود فصائل الائتلاف متوقف على قرار تركي، قبل أي اعتبار آخر. وهذا يعني في النهاية أن تلك الكيانات مجرد تجارب لم، ولن، تلقى قبولًا من قبل سكان المنطقة، لأنها تجارب تأتي على الضدّ من إرادتهم، وعلى الضدّ من حقوقهم، ومن أجل نهب أرزاق منطقتهم، مثلما أنها لا تستمد سلطتها منهم، وتتعامل معهم على أنهم مجرد شريك من موقع التابع، لا من موقع الند. إنها تجارب على الضد من “السياسية”، وما يناط بها من مهام. إنها دول الملح التي ابتُليت بها منطقة شرق الفرات، دول تريد إعادة (المغولية) إلى المنطقة، ولكن بطرق القرن الحادي والعشرين.

مقالات ذات صلة

USA