من البديهي في أي ثورة أن يكون الخطاب الوطني متناسقًا موحدًا لا يخرج عن الثوابت الأساسية للقاسم المشترك وللرؤى التي يتفق عليها أبناء المجتمع على أنها تشكل أساس قيام دولتهم وكيانهم السياسي، الذي ينبغي أن يحافظوا على ثوابته من أن يتعرض للاهتزاز أو التنافر، لأن من شأن وصول الخطاب الوطني إلى مرحلتي التعارض والاصطدام التحول إلى أزمة خطيرة ينبغي أن يدرك القائمون عليها أنهم أمام مسؤولية استعادة قواسمهم المشتركة وإعادتها إلى ما كانت عليه، لأن الخروج عنها والتجاوز عليها، يشكل انتحارًا سياسيًا، وتوجهًا نحو السير بالبلد إلى المجهول.
هناك ظاهرة فريدة وغريبة نعيشها في الثورة السورية وهي ترك القضية الأساسية والمحورية، وهي سوريا وثورتها والتركيز على الاختلافات الجانبية والنابعة من الانتماءات الفكرية المختلفة، فهذا خائن وهذا عميل… بالإضافة إلى نشر وثائق على صفحات الفيس وغرف الواتس لا تمت للواقع والحقيقة بصلة، ومن أسماء مجهولة وأحداث غريبة وعجيبة لا يوجد لمنطق العقل والتبصر أي علاقة بها.
وأنا على يقين أن الاختلاف الصحيح الهادف صحي، والأولوية أن نزيح الطاغية وتستعيد سوريا عافيتها ويتوقف نزيف الدماء السورية، التي استباحها الطاغية وحلفاؤه، وأود أن أؤكد بأن كل الأطياف بمختلف تنوعاتها يجب أن تتواجد على أرضنا السورية، وهؤلاء الذين يجهزون أنفسهم الآن لتكميم الأفواه وقطع الألسن ويهددون ويتوعدون الشرفاء هم من أخطر العناصر على وطننا الجديد، فهؤلاء أفكارهم ديناصورية وينتمون للفكر الظلامي.
أصعب مشكلة تواجهنا في مرحلة الطاغية هي الاختلاف، بالأخص في الأمور العقائدية والفكرية والسياسية. والاختلاف ظاهرة طبيعة إلا انه يكون حالة غير طبيعية إذا تحول الاختلاف إلى فرقة وقطعية، والشخص الواعي هو من يستطيع أن يحول الاختلاف إلى عناصر قوة بدل أن تكون عناصر ضعف، أما غير الواعي فهو الذي يحول عناصر القوة إلى عناصر ضعف من خلال التركيز على مواطن الاختلاف أكثر مما تستحق.
إن الذات المتضخمة تحاول أن تستغل أي قضية للوصول إلى مصالحها الذاتية حتى لو كان على حساب القيم والمبادئ، فنحن في وضع يستدعي الاطلاع على كل الأفكار والعقائد والاتجاهات السياسية لكن بشرط عدم الاعتماد على الأفكار أو الأحكام المسبقة، إذ تجعل الحكم على الآخرين دون إنصاف الآخرين، فإن كثيرًا من الأحكام التي تصدر من هنا وهناك، والتي سببها إما أفكار أو أحكام مسبقة أو نتيجة التعصب، تجعل البعض لا يرى إلا ذاته أو فكره، مما يجعله يتصور أنه يمثل الحقيقة المطلقة فقط، وأن الآخرين لا يمثلون شيئًا. هذا بالإضافة إلى سوء الفهم لدى البعض للمبادئ الحقيقية للسياسة والأفكار، ما يجعل ضعف الضوابط لتقييم تلك الأفكار سببًا في الانحياز إليها دون الاعتماد على الرؤية الواقعية.
إنَّ ظاهرة الاختلاف تحصل على مستوى الأفكار والأديان أو القضايا السياسية، والشخص الواعي هو من يستطيع أن يستوعب تلك الاختلافات ويحولها إلى عناصر إيجابية، ومن هنا نعي مفهوم السياسي الناجح، والذي تكون له القدرة على التعامل مع الأحداث بواقعية وعقلانية كي يخدم القضية التي يؤمن بها، أما الفاشل فهو الذي يحولها إلى عناصر ضعف ووهن وهزيمة ويتعامل بسوء تصرف مع الأحداث، مما يسبب المشاكل والأزمات لبلده. وهكذا بالنسبة للأفكار فالمفكر الواعي يستطيع أن ينتقد الأفكار بموضوعية حيث يظهر الأفكار على حقيقتها ولا ينساق الى ما يناقضها فيسبب إضعافًا لمستوى الوعي ببلده ويجعل أمته تعيش في متاهات فكرية وفلسفية وأخلاقية، وكذلك بالنسبة لرجل الدين فالواعي يحول الخلاف الى عنصر تكامل بينما غير الواعي يحوله الى مشكلة وأزمة فبدلًا من أنْ يكون حلًا أضحى مشكلة.
إننا نعتقد أن وحدتنا وتماسكنا الداخلي مرهون إلى حد بعيد بقدرتنا على احترام بعضنا البعض وعلى ضرورة قبولنا لكل المكونات، كأطراف وأعضاء في الوطن الواحد، وسعينا جميعًا من أجل البحث عن العوامل والخصائص المشتركة التي تجمعنا، والموجودة في فضائنا ونسيجنا الاجتماعي والثقافي… وعلينا أن ندرك ونعي أن المصالحة الواقعية والحقيقية هي التي تبدأ بالتوقف عن اتهام بعضنا البعض بشتى أنواع التهم وإطلاق التصنيفات السلبية، ثم الاعتراف بالآخر وجودًا وفكرًا والانطلاق نحو فعل تواصلي- حواري، ينمي المشتركات ويحدد نقاط المغايرة والاختلاف ويسعى نحو تراكم مستوى الفهم والاعتراف بيننا، وعلينا أن ندرك جميعًا ونعي بذات الوقت أن الاختلاف السياسي ليس انقطاعًا عن بناء الدولة الواحدة وأنه لا ينبغي لهذا الاختلاف أن يفضي إلى العنف والصراع السياسي والخروج عن مبادئ وقواعد العدل.
نحن في حاجة إلى حوار جاد بين جميع مكونات المجتمع السوري بنوايا حقيقية، من أجل المحافظة على كيان الدولة التي نريد إعادة بناءها ولا يجوز أن نجعل من عملية الحوار مجرد وسيلة أو أداء فقط لإعادة إنتاج الأزمة وأسبابها، أو الحديث عن قضايا هامشية في الوقت الذي توجد فيه عدة قضايا على درجة من الأهمية لا تتعلق فقط بالمسائل الدستورية والسياسية، وإنما تتعلق بقضايا مثل كيفية العمل على بقاء الوطن موحدًا وبعيدًا عن التدخلات والأطماع الخارجية، والأمن والاستقرار، وعدم العودة لاستخدام العنف، وقضايا أخرى حساسة وخطيرة تهدّد حاضر ومستقبل البلاد وتضرب هويته الوطنية في مقتل.
ما عاد هناك عودة لزمن الأسد والاستبداد. انتهى هذا الزمن، سنعيش بممارسة الحرية وسلطة القانون نستنشق نسائم الديمقراطية نمتلك السلطة والثروة، لا حكم لفرد ولا طائفة. نحن شعب من نسيج واحد وضحى لنيل حريته ولن يرهبه حصار أو دمار. نعرف وندرك ما يلوح له أعداء الثورة الذين يحلمون بعودة حكم الأسد. أولئك الذين يكتبون على صفحات المواقع يحاولون خلق البلبلة أهدافهم واضحة لا تحتاج إلى تفاسير. أنصحكم أن لا تصدقوا ما يقولون لا تصدقوا السموم المهلكة التي تبث ولا تخدم إلا النظام وأعوانه.
الخطاب الوطني في الثورة اليوم يمر في أسوأ محنة في تاريخه، لم يصل بها إلى هذا الحد من التناحر والاقتتال وضياع مستقبل البلد، لا لشيء إلا لتحقيق نزوات هذا المجرم المتربع في دمشق. وللأسف استتر تحت جوقته مجموعة من المحسوبين على الثقافة الثورية السورية، ويا ليتهم قد ساروا بالبلد إلى طريق الخير والتقدم والنهوض، لكن شحنهم السلبي المملوء حقدًا على الآخر، يتجه نحو هاوية تريد للشعب أن يتقاتل وأن يذبح احدهم الآخر ليبقى هو يتربع على كرسي السلطة لا ينازعه احد على ملكه. ولن يدوم حاكم أو متسلط، إذ لا بد أن يأتيه اليوم الذي ينتصر الشعب عليه لينتقم من ظلمه وجوره وفساده، وما خلقه للعباد من أزمات وقتل وترهيب وضياع مستقبل البلد، فلنكن جميعًا على مستوى الوعي والإدراك لما يتهدد مصير بلدنا.