يعتقد عدد كبير من السوريين أن حل المشكلة السورية يكمن في إسقاط رأس النظام الديكتاتوري في دمشق، وأن باقي المنظومة الاستبدادية سينهار تباعا كأحجار الدومينو، بدءا بالمؤسسات الأمنية وصولا إلى كل من وما له علاقة مع النظام الأسدي، ومن ثم ستسير الامور على ما يرام.
إن هذه النظرة إلى الأمور هي بكل بساطة خطأ لأن الواقع الذي أنتجته حكومة الاستبداد، خدمة للمستبد المجرم يقول لنا إنه تم إنشاء مجموعات مصالح خاصة تساعد المستبد في إحكام سيطرته على البلاد، منها زواج رأس المال والسلطة وكثرة من رجال الدين والأكاديميين والقضاة وغيرهم الكثير، في مختلف المجالات. هذه المجموعات ارتبطت بالمستبد، لذلك من غير الجائز أن يقع التعامي عن هذه الظاهرة، التي حولت الوطن إلى محميات خاصة بالأسد وحاشيته، وعن الذين ارتبط ثراؤهم الاقتصادي وموقعهم الاجتماعي ونفوذهم بولائهم لسلطة الطاغية، ويأتي على رأس هؤلاء ضباط الجيش، والمخابرات، والأمن، والشرطة، ومن ثم السياسيون الموالون، وكثير من التجار هذه الفئات، ترتبط مصالحها ببقاء النظام الحالي، وإن صار ضعيفا ومتهالكا.
ولا يمكن ان تضحي بامتيازاتها من خلال الوقوف ضده، أو الانحياز إلى الشعب، ما لم تعتقد أن البديل لن يمس بمصالحها، وسيزيد من امتيازاتها. هذه الفئات لا يمكن تغيير دورها إلا عن طريق نظام ديمقراطي تعددي، وإلا أعاد أي نظام آخر النظام السابق بوجه آخر، وتغيير طفيف في توزيع المصالح وتلاعب في حريات وحقوق الشعب.
هذه المجموعات تتصل معظم مصالحها بوجود الأسد ورحيله، لذلك لا بد من وجود بدائل وحلول متعددة لنظامه وله منها إعداد بديل لهما تتفق عليه، يحقق أهدافها ولا يكون نسخة مكررة عن النظام، علما بأن موقفها مهم بسبب وزنها وتشرذم المعارضات وعدم ثقة جماهير الثورة بها.
وبما أنه سيأتي على الأرجح يوم تدور فيه انتخابات بعد رحيل الأسد، فإن من الأهمية بمكان فحص أوراق الثورة، في ظل الفوضى التي تعيشها.
هذه المقدمة تريد مناقشة التغيير الذي نريده من جوانب عديدة، منها ما هو مرتبط بالمعارضة ومنها ما هو مرتبط بالنظام.
أولا: المعارضة: لم تستطع منذ فجر الثورة وحتى الآن إرساء دعائم ديمقراطية في إدارة أي منظمة، مع أن الفرصة كانت سانحة ومازالت لو صدقت النوايا وابتعدنا عن الأنانية وتضخيم الذات، ورسخنا مبدأ تداول السلطة بطريقة سلسة وشفافة في أي تجمع أو تحالف ينشأ بين أطراف المعارضة.
ولكن للأسف، مازلنا مخلصين لنمط من الوصاية والاختيارات المسبقة، فيما يتعلق بأعضاء القيادة الذين يحكموننا دون حسيب أو رقيب، ويتم اختيارهم في انتخابات شكلية تتبع ديكور في جميع المؤتمرات، التي سُمّيت “ديمقراطية” هذه المعضلة هي التي أنتجت الديكتاتورية القائمة لدينا على رجل خارق من المحال تغييره، لذلك لا نجد هنا كبير اختلاف بين المعارضة والنظام، بما في ذلك بالنسبة إلى التنظيمات التي تدعي رغبتها في إزالة المظلومية عن منسوبيها، لكنها تفرض عليهم وعلى المجتمع وصاية أبوية ظالمة، وتعتبر نفسها ممثلهما الشرعي الوحيد بينما تكبت الأصوات المعارضة وتلجمها، وتعاقب من يخرج على رأيها وتعرضه للإقصاء والتخوين، بل إن بعض هؤلاء القادة مارس للأسف ما هو أسوأ من ذلك والأمثلة معروفة ومثبتة ولا تحتاج إلى بحث.
أما ما أفشل محاولات التفاهم حول الخروج من هذا المرض، التي بدأتها تنظيمات وطنية وإسلامية، مرورا بتأسيس المجلس الوطني والائتلاف، فهو الصراعات البينية بين أطراف المعارضة، المنصبة على هوية من يتولى القيادة وإلى أي منطقة جغرافية وطائفة ينتمي ومن الجهة الداعمة له.
هذا النهج أفقد الثورة على تبني برنامج وطني جامع، يلتف الجميع حوله، وينحون الخلافات والصراعات على القيادة جانباً، ليكون دورها في النهاية الإشراف على ما تم الاتفاق عليه، باعتباره لب المشكلات المنتجة للفشل والتي تنصب صراعات المعارضة عليها، في حين إن الأمر الأهم يكمن في توافق مقنع وراسخ حول الأهداف والبرامج المطلوب تنفيذها، واعتبار أي خارج عليها خارجا عن الإجماع الوطني، يجب أن يحاسب أصولا بدل حمايته أو التحالف معه، الأمر الذي يتطلب قدرا كبير من الترفع عن الروابط العصبية أو الشعوبية.
لكن ما نشاهده يختلف، للأسف عما ننشده وهو أن لكل شخص حصانة مطلقة تمنحه القدرة على تجاوز أي نظام يتم إقراره، دون أن يرف له جفن أو يهتم أحد للأمر، رغم أنه يخرب ما نكون قد اتفقنا، من أجل سلطة وهمية تخالف ممارساتها كل ما يجب الاتفاق عليه والالتزام به. لذلك لا توجد بارقة أمل في أي تجمع للمعارضة، لأننا لا نعترف كمعارضين بأن رئاسة هذا الكيان أو ذاك هي تكليف خدمي وليس تشريفا تميزيا، وأن اختيار الشخص لا يجب أن ينظر إليه على أنه تمثيل رمزي لمنطقة أو قبيلة أو تيار أو حزب، بل يجب أن يكون معياره القدرة على تنقيذ برامج تم التوافق عليها، وإدارة المهام التي تطرحها الثورة عليه.
هذه القيادات لا تتوفر لنا الاَن، ولن تتوفر في الفترة القريبة القادمة، ولو تم استثمار السنوات الماضية لإرساء دعائم الديمقراطية بدل الصراعات والاختلافات التي أنهكت الشعب والمعارضة، لحدث التغيير بسلاسة وهدوء، ولو حدث أي انهيار مفاجئ، لتم احتواؤه والإقلال من اَثاره ولتبدد الخوف من المجهول في أي عمل متوقع، لكن واقع الحال لا يبشر بما نرغب، فمفهوم التغيير عندنا يتمثل في إسقاط النظام بأي ثمن على أن يلي ذلك البحث عن الحلول، بما يكرس معادلة البقاء للأقوى في متوالية ليس لها نهاية.
ثانيا: كانت قد تكونت قناعات في الفترة الماضية حول قيام ثورة شعبية، بلغ التفاؤل بنتائجها كل مبلغ، عند ما أسفر الحراك الثوري عن إسقاط أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن، باستثناء سوريا، التي جرى تحويلها عن عمد من ثورة إلى حرب أهلية بتواطؤ دولي وإقليمي وعربي، لتتراجع بعد ذلك موجة الربيع، لتطرح الفوضى التي تلته مسألة جدوى الثورة إذا لم نوفر لها شروط نجاحها: بدءا بالبديل الذي يستطيع استيعاب التناقضات التي تعج بها ساحتنا، وخاصة في المعارضة، حيث يحبذ تنوعها قدرة الثورة على تجاوزها، ويستخدم بطريقة خطيرة تجعل تجاوزها شبه مستحيل، رغم أن كثيرا من السوريين ما زالوا يترقبون التغيير عن طريق ثورتهم، التي اعتبرها كثيرون ثورة بطريقة ونكهة خاصة وإن لم يكتب لها النجاح حتى الآن.
وسط الهروب الكبير للشباب وعدم تبلور رؤية واضحة في إدارة دولة المعارضة، تتضاءل فرص الثورة الشعبية بالنسبة لاقتلاع النظام، لكن الثورات تخالف غالبا التوقعات والاحتمالات، ما دامت قائمة الأسباب والدوافع التي دفعت الشعب إلى الثورة، خاصة إن توفر لها من الآن فصاعدا قادة يوطدون فرص نجاحها بإزالة المعوقات المرتبطة بمن يقف وراءها من قوى سياسية وعسكرية، فإن لم يبرزوا ظلت تحركات الشعب عفوية، ودون بوصلة تحدد المسار الضروري لتحقيق أهدافها، وكيف تكون هناك بوصلة كهذه في ظل تبعثر المعارضة وفقدانها ثقتها بنفسها، وتلاشي دورها الداخلي، وافتقارها إلى وفاق وطني تستطيع من خلاله إظهار تماسكها، والتغلب على خلافاتها الفكرية والمناطقية والقبلية وولاءاتها العربية والإقليمية والدولية المتعارضة؟. أما المؤسسات العسكرية والأمنية، فهي جزء مهم من التركيبة التي سيعتمد عليها الشعب، في حال طورت إطارا تنظيميا يقوده الضباط المنشقون في إطار هيكلية عسكرية مهنية تضع أسس تراتبية عسكرية لها كافة الاختصاصات من الضباط والجنود. هنا أيضا، يوجد عائق هو الولاءات المحبطة لأي حراك تنظيمي، بينما يكاد يكون مؤكدا أن الفصائل العسكرية لن تقف، بسبب وضعها الحالي، مع مطالب الشعب أو تحققها، بل ستحافظ على امتيازاتها التي لا تريد لها أن تتأثر برياح التغيير وإن ارتضت بتغييرات شكلية لا تبدل الواقع المزري القائم، مما يجعلها تتحمل مسؤولية خاصة عن استمرار الحكم الشمولي، وقبضته الأمنية العنيفة، وحجره علي الحرية، ورفضه الحقوق الأساسية للمواطن، بعد ثورة استمرت نيفا وثمانية أعوام، يبدو المصير الذي آلت اليه مقبولا من دول الإقليم والمجتمع الدولي.
هذا الواقع يمكن تغييره على المدى البعيد، لو قويت شوكة المعارضة وبدلت معظم ممثليها، وقصرت جل عملها على الداخل، وغدت معارضة جادة وليس ديكورا في مسرحية تمنح الاستبداد الشرعية وترفض الديمقراطية، خشية أن تخل بمعادلاته، خاصة إن كانت نظرتها إلى التغيير واقعية وشاملة وغير مرتبطة بحسابات شخصية ومتدرجة وقادرة على توعية وتثقيف المجتمع بحقوقه وواجباته والأهم أخلاقياته.
إن عدم وجود رأي عام قوي وناضج ويقظ، يقدم أفضل مناخ للطغيان ولاستمرار تسلطه واستفحال شروره. ولذلك نعتبر وجود رأي عام متبصر ويقظ ويمتلك وعيا إنسانيا وحديثا من أقوى “ضمانات حقوق الإنسان والمواطن” إن لم يكن أقواها على الإطلاق.