العقيد عبد الجبار العكيدي /المدن
أجرت روسيا الخميس مناورات عسكرية في المتوسط غرب سوريا، وذلك بحضور واشراف مباشر من وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الذي وصل إلى سوريا الأربعاء والتقى رئيس النظام بشار الأسد في مطار حميميم، في خرق لكل البروتوكولات الدبلوماسية، وتحقير لم يكن الأول من نوعه لمقام الرئاسة، وإظهار للعالم مدى سيطرتهم على القرار السوري، واعتبار الأسد ليس أكثر من بيدق بيد الروس.
تجري هذه المناورات بمشاركة مقاتلات “ميغ 31-K” المحملة بصواريخ كينجال فرط صوتية، وقاذفات “TU 22M3″، المحملة بصواريخ مضادة للسفن من نوع “KH22″، الفرط صوتية، بالإضافة الى ما يقارب المئة وخمسين قطعة بحرية وستين طائرة حربية ومروحيات حديثة وخمس عشرة سفينة حربية وعشرة آلاف جندي.تأتي هذه المناورات التي تُعدّ الاضخم للقوات الروسية في البحر الأبيض المتوسط رداً على مناورات واسعة النطاق “نبتون سترايك 2022” أجراها قبل أيام حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بمشاركة حاملة الطائرات “USS Harry Truman”، والتي كانت ترمي إلى إظهار قدرة حلف شمال الأطلسي على إدماج قوة الضربة البحرية المتطورة لمجموعة جوية لمؤازرة جهود الحلف في الردع والدفاع، وذلك بحسب المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، وهناك أنباء غير مؤكدة تفيد بأنه جرت ضمنها محاكاة لضرب قاعدة حميميم، والإبقاء على حاملة الطائرات مع المجموعة الجوية التابعة لها في المتوسط لطمأنة الأوربيين وتقديم ضمانات أمنية لهم في خضم التوترات القائمة مع روسيا بسبب الازمة الأوكرانية.لعل قيام وزير الدفاع الروسي بزيارة مفاجئة إلى سوريا، بينما تتجه أنظار العالم نحو البقعة الملتهبة في أوكرانيا، حيث طبول الحرب تُقرع على الحدود مع روسيا، واحتمالات اندلاع المواجهة هناك بين الناتو وروسيا في أي لحظة، ما هي إلّا تسخين روسي واستنهاض كل طرف لما لديه من أوراق، فضلاً عن أن الأسباب المباشرة للزيارة هي تداعيات المسألة الأوكرانية ولا علاقة لها بأي شيء يخص الشأن السوري، إذ إن العمليات العسكرية في ركود، وقد رُسمت خطوط التماس منذ آذار/مارس 2020، ولا شيء في الوقت الراهن يوجب هذه الزيارة ولقاء الأسد، ولكن يمكن الوقوف عند عدّة رسائل أراد بوتين توجيهها لخصومه من وراء تلك الزيارة، وفي مقدمتها:
1- أن سوريا جزء من جبهة أوكرانيا ونحن من نتحكم في تسخينها وأن حميميم وطرطوس، وبالتالي منطقة المتوسط التي نجري فيها مناورات بالأسلحة الاستراتيجية، قد تتحول إلى أحد اهم ساحات الصراع التي تهدد المصالح الغربية، في حال أقدم الناتو على أي مواجهة عسكرية في أوكرانيا او تقديم دعم وأسلحة نوعية لها.
2- أن المناورات الروسية في المتوسط ما هي إلّا تمرين عسكري لما سيكون عليه الصراع في حال فشل التوافق الروسي الغربي حول الازمة الأوكرانية.
3- إرسال بوتين لوزيره الى قاعدة حميميم وسوريا التي أصبح يعدّها جزءًا مهماً من أمنه القومي في هذا التوقيت الحرج مع الغرب، ما هو إلا جزء من المعركة وتكتيك يريد به إرسال رسالة الى الغرب تؤكّد أن الجغرافية السورية ما هي إلّا قاعدة متقدمة لروسيا، وأن استمرار المواجهة في المستقبل لن يكون محصوراً ضمن محيط أوكرانيا، بل سيمتد إلى مساحات عديدة ومتنوعة من حيث الجغرافيا.ما يمكن تأكيده أن زيارة الوزير الروسي وحضوره للمناورات العسكرية على الأرض السورية إنما تأتي في سياق استثمار الأوراق السياسية من خلال التسخين الكامل للجبهات، وخاصة الورقة السورية التي تمسك بها موسكو لتؤكد لواشنطن بأنها قادرة على إدارة المعركة من أكثر من مكان في العالم، ولعل الاحتكاك الذي حصل شرق الفرات، بين الطائرات الأميركية والروسية، وهذا التزاحم في الأجواء السورية، بالإضافة لإعلان البنتاغون الأربعاء، أن ثلاث طائرات تابعة للبحرية الأميركية من طراز P-BA تعرضت لاعتراضات غير مهنية من قبل الطائرات الروسية نهاية الأسبوع الماضي في المجال الجوي الدولي فوق البحر المتوسط، ورغم أنه لم يصل إلى حد الصدام، لهو دليل واضح على أن سخونة المواجهة السياسية أصبحت تمتد إلى الجوانب العسكرية.
لا شك أن روسيا الممتعضة من تمدد الغرب إلى حدودها، تشعر بأن مسالة أوكرانيا هي مفتاح لصراع استراتيجي مع الغرب لا تنحصر حدوده في أوكرانيا فحسب بل ربما يكون الشرق الأوسط هو المجال الرحب لتجليات هذا الصراع، وبالتالي فإنها تريد أن تؤكد لخصومها من خلال هذه المناورات أن لديها القدرة على أن تحاصرهم في أماكن أخرى، وأن دور قاعدة حميميم التي وسعتها خلال السنوات الماضية لتصبح قاعدة كبيرة يمكنها استقبال طائرات استراتيجية وصواريخ فرط صوتية، قد تتجاوز حدود الجغرافية السورية لتكون رأس حربة في حوض المتوسط والاشتباك الدولي الغربي الروسي.
بوتين الذي يشعر بفائض قوة كبير ويحلم بأن يكون قيصر روسيا الجديد عن طريق توسيع النفوذ الروسي والعودة إلى الساحة الدولية كقوة عظمى من البوابة السورية، يبني أحلامه على ضعف الإدارة الأميركية وفكرة انهيار سياسة القطب الواحد، متوهماً أنه قادر على توجيه ضربات في عمق الناتو بصواريخه الاستراتيجية التي جلبها الى قاعدة حميميم، متجاهلاً ان القوة العسكرية الروسية لم تخضع لأي اختبار أو مواجهة عسكرية حقيقية سوى معارك محدودة في جورجيا والقرم وسوريا ودونباس.
وهذه لا تعتبر حرباً بمعنى الحرب، فالأسلحة الروسية ضُربت بكوارث كثيرة، من وقوع طائرات واحتراق بوارج وسقوط صواريخ بعيدة المدى في أراضي الحلفاء، يمكن لنا أن نتذكر سقوط صواريخ كروز الروسية في الأراضي الإيرانية بدل السورية، في شهر تشرين الأول/اكتوبر 2015.
لعل مساعي بوتين لاستثمار توغّله في الجغرافيا السورية ومحاولته تحويل نفوذه العسكري إلى جبهات ذات وظيفة أخرى، أي تتجاوز الشأن السوري، قد تدفع الكثيرين، ولعل في طليعتهم الإدارة الأميركية، إلى مراجعة سياساتها السابقة حيال سوريا، إذ هل كان متاحاً لبوتين منذ أيلول/سبتمبر 2015 أن يتفرّد بالهيمنة على سوريا لولا موافقة واشنطن وحلفائها الغربيين؟ ثم هل سيكتفي بوتين بمؤازرة نظام الأسد فحسب، أم سيجاري الأميركيين في إيجاد قواعد عسكرية ثابتة يمكن الانطلاق منها في أية مواجهة مع خصومه؟ وبالتالي هل يمكن النظر إلى النأي الأميركي عن المشكلة السورية باعتبارها ليست ذات أولوية، خطوة صائبة ضمن الاستراتيجيات التي رسمتها واشنطن.
ربما كانت هذه التساؤلات وأشباهها حافزاً حقيقياً يدفع القوى الغربية إلى النظر في تداعيات وفداحة أخطائها السابقة حين أتاحت الفرصة لبوتين بأن يتفرد بالجغرافية السورية، ظناً منها أن سوريا ستكون مستنقعا يستنزف روسيا اقتصادياً وعسكرياً، بعد أن استطاع أن يستثمر أوهامها ويحولها إلى ورقة قد حان وقت الاستفادة منها، وأصبحت له أهداف كبيرة في شرق المتوسط، وبات حجم قاعدة حميميم أكبر بكثير من الدور المناط بها في سوريا، وتعدى ذلك لتصبح نقطة متقدمة لروسيا في صراعها مع الغرب نحو التوسع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأماكن أخرى.