تسلط هذه الدراسة الأضواء على مفهوم مبدأ سيادة القانون، حسب المعايير الدولية، وحسب واقعه في الحالة السورية، وأهم ضماناته في سورية المستقبل.
ليس سهلًا البحث في سيادة القانون، كأساس وشرط لبناء دولة وطنية حديثة في الحالة السورية، بعدما تقوّض فيها مبدأ “سيادة القانون” لأكثر من نصف قرن؛ لأن البيئة التي أسهمت في هذا التقويض ما تزال تحيط بالحياة الحقوقية فيها، وبالرغم من ذلك، حاولنا في هذه الدراسة تسليط الأضواء على مفهوم مبدأ سيادة القانون، حسب المعايير الدولية، وحسب واقعه في الحالة السورية، وأهم ضماناته في سورية المستقبل.
بعد مقدمة تحدثَت عن أهم الأسباب الكامنة وراء الانفجار السوري في 2011، كغياب الحكم الرشيد وسيادة القانون، وحالة الطوارئ المديدة التي استمرت زهاء نصف قرن من الزمن، وأسهمت في تقويض سيادة القانون الذي يعدّ أساس الحكم في البلاد من الناحية الدستورية، وتطرقت إلى العلاقة بين النظام القانوني والأمني للدولة، كما يراها “معهد الولايات المتحدة للسلام”؛ تفرعت الدراسة إلى ثلاثة فصول؛ تناولتُ في الفصل الأول منها الإطار العام لمبدأ “سيادة القانون” وماهيته في الأدبيات الدولية، وبيّنت أنه لا يوجد اتفاق عام حول تعريف اصطلاحي له، واتكأت على أهم معيارين دوليين في سيادة القانون: أوّلهما استمددته من تعريف الأمين العام للأمم المتحدة بأنه: “مبدأ للحكم، يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة، والدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علنًا، وتطبّق على الجميع بالتساوي، ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل، وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان”.
ومن هذا التعريف، استنبطت الدراسة خمسة مرتكزات رئيسة له هي:
- – مسؤولية الأشخاص والدولة أمام القانون (المساءلة)
- – المساواة أمام القانون (حماية الحقوق)
- – اتفاق القوانين مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان
- – نشر القوانين
- – استقلال القضاء
وثانيهما استمددته من معايير سيادة القانون التي وضعتها “اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون” المعروفة باسم (لجنة البندقية) وهي:
- – الشرعية (أن تكون الإجراءات التي تتخذها الدولة متوافقة مع القانون وبموجبه، وأن تكون التشريعات متوافقة مع الدستور)
- – الضمان القانوني “اليقين القانوني” (قوانين منشورة – صياغة سهلة الفهم – الاستقرار التشريعي)
- – الوقاية من سوء استخدام السلطة
- – المساواة أمام القانون وعدم التمييز
- – الوصول إلى العدالة
في الفصل الثاني من الدراسة، تطرقت بشيء من الاستفاضة إلى واقع “سيادة القانون” في الحالة السورية، حيث تفرع الفصل إلى خمسة مباحث، تناول المبحث الأول منها تغوّل السلطة الأمنية، من حيث مظاهر هذا التغوّل على مؤسسات الدولة الأفراد، وهياكل الأجهزة الأمنية الخمسة في البلاد، وهي إدارة المخابرات العامة وفروعها المعروفة، وشعبة المخابرات وفروعها المعروفة، وشعبة الأمن السياسي، وإدارة المخابرات الجوية، ومكتب الأمن الوطني.
ثم تناولت المركز القانوني للأجهزة الأمنية، ومشروعية عملها، ورصد وضعها في التشريعات المعلنة التي أحصتها الدراسة، إذ قلما تطرقت القوانين إلى ذكرها، واستنتجت أن الأجهزة الأمنية تعمل وفق منظومة قانونية سريّة غير معلنة، وأن هذه الأجهزة تصنف في عداد الضابطة الإدارية، وليس العدلية، كما تطرقت إلى علاقة الأجهزة الأمنية بالسلطة القضائية، والحصانة من المساءلة التي يتمتع بها أفراد الأجهزة الأمنية، واختتمت بالوظيفة الأساسية للأجهزة الأمنية في الدولة، حسب المعايير الدولية. وخلص المبحث إلى مواطن انتهاك السلطة الأمنية لمرتكزات الأمم المتحدة ومعايير لجنة البندقية في سيادة القانون.
وفي المبحث الثاني، تحدثت الدراسة عن تغوّل حزب البعث الحاكم، وتناولت التشريعات التي أصدرها للاستحواذ على السلطتين التنفيذية والتشريعية، والتشريعات التي مكنته من إدارة الدولة بذهنية الملكية الخاصة، واستعرضتُ نموذجين من هذه التشريعات، كما تناولت ظاهرة الإفراط في إحداث المحاكم الجزائية الاستثنائية، وظاهرة تشكيل المنظمات الشعبية العسكرية، والهيمنة على السلطة القضائية، وتكريس هيمنة حزب البعث دستوريًا، عبر المادة الثامنة من دستور 1973 التي فرضت حزب البعث قائدًا للدولة والمجتمع، وعرجتُ على اتباع البعث مبدأ الاستفتاء، كأسلوب لإسباغ الشرعية الصورية على الاستحقاقات الدستورية التي يقوم بها، كالاستفتاء على الدساتير التي يضعها، وعلى منصب رئاسة الجمهورية، في ظل سريان دستور 1973، وتطرقت أيضًا إلى قيام البعث بإصدار قوانين مخالفة لشِرعة حقوق الإنسان، كقانون أمن حزب البعث العربي الاشتراكي، والقانون القاضي بإنزال عقوبة الإعدام بكل منتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثمَّ تحدثت عن هيمنة البعث على العمل النقابي في قطاعات الفلاحين والعمال والمهن العلمية، واختتمت بواقع حزب البعث بعد إصدار دستور 2012، وإلغاء المادة الثامنة من دستور 1973؛ واستنتجت أنه لم يتغير شيء من ممارساته بعد إصدار الدستور المذكور. وخلص المبحث أيضًا إلى مواطن انتهاك حزب البعث لمرتكزات الأمم المتحدة ومعايير لجنة البندقية في سيادة القانون.
وتحدَّث المبحث الثالث عن تغوّل السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وإفراط رئيس الجمهورية في إصدار المراسيم التشريعية، حتى في الأوقات التي لا يحق له فيها التشريع أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب، واحتكار رئيس الجمهورية لسلطة منح العفو العام. وخلص المبحث إلى مواطن تعارض هذه السياسة مع مرتكزات الأمم المتحدة ومعايير لجنة البندقية في سيادة القانون.
وفي المبحث الرابع، جرى الحديث عن التغوّل على “السلطة القضائية” وإفقادها الاستقلال. وكيف كان التغوّل تجاه السلطة القضائية، بفروعها الثلاثة: العادي والإداري والدستوري، مباشرًا بتحكم السلطة التنفيذية بشخص رئيس الجمهورية في مفاصلها، وكذلك التغول بإحداث لجان ذات ولاية قضائية، كلجان حل الخلافات في قوانين تنظيم المدن والاستملاك، ذات الأغلبية من أعضاء السلطة التنفيذية. وتحدثت عن التغوّل غير المباشر على السلطة القضائية، حيث تحفل التشريعات المختلفة بإناطة ولاية الفصل بالخصومات المتنوعة، بأحد أعضاء السلطة التنفيذية، سالبةً القضاء هذه السلطة، مثل قانون الإدارة المحلية. كما تطرقت إلى الهيمنة على القضاء العسكري، وإحداث المحاكم الجزائية الاستثنائية التي بقي منها محكمة الميدان ومحكمة الإرهاب. وخلص المبحث إلى بيان مكامن تعارض هذه السياسة مع مرتكزات الأمم المتحدة ومعايير لجنة البندقية في سيادة القانون.
وفي المبحث الخامس، تطرقت الدراسة إلى أحد أهم أسباب تقويض سيادة القانون، وهو كتمان القوانين وعدم نشرها في الجريدة الرسميّة للدولة، وكيف أنها ظاهرة شائعة لدى السلطات السورية، تُخالف واحدًا من أهم معايير سيادة القانون وهو “اليقين القانوني”، وفي إحصائية أجريت على التشريعات (قوانين، مراسيم تشريعية) الصادرة سنة 2011، من خلال تدقيق كل أعداد الجريدة الرسمية لتلك السنة، حسب الرقم المتسلسل للتشريعات؛ تَبيَّن أنه في عام 2011 صدر 35 قانونًا، لم يُنشر منها 3 قوانين؛ و128 مرسومًا تشريعيًا لم يُنشر منها 16 مرسومًا. ولا شك في أن هذا الأمر يقوّض سيادة القانون بشكل خطير، إذ لا يُعقل إلزام المواطنين بقوانين لم تُنشر ولم يطلعوا عليها. وخلص المبحث إلى أن هذه الظاهرة تنتهك واحدًا من أهم مرتكزات الأمم المتحدة ومعايير لجنة البندقية في سيادة القانون.
وفي المبحث السادس، استعرضت واقع “سيادة القانون”، بعد رفع حالة الطوارئ في العام 2011، وتمَّ الحديث عن ركائز حالة الطوارئ الثلاث في قانون الطوارئ، وفنّدتها قانونيًا، وتحدثت عن أن إعلان التعبئة يغني عن فرض حالة الطوارئ، وهو ما رجحت الدراسة حدوثه، وقد شرحت بإيجاز مفهوم “إعلان التعبئة” كإحدى الحالات الموسعة لسلطات الضابطة.
في الفصل الثالث، اختتمت الدراسة باستعراض ضمانات سيادة القانون في سورية المستقبل التي تبدأ بضمانات دستورية، من حيث وجوب التفصيل في الدستور في الصياغة الفنية، لجهة تنظيم السلطة القضائية والقضاء الدستوري الفعَّال، وضبط إصدار التشريعات بالحد من إمكانية إصدار المراسيم التشريعية، ووضع آلية خاصة لإصدار القوانين الأساسية المكملة للدستور، ووجوب النص صراحة على نشر التشريعات في الجريدة الرسمية للدولة، لضمان واحد من أهم معايير سيادة القانون وهو “اليقين القانون”، ويجب أن يحدِث الدستور “هيئات دستورية مستقلة”، وأن يُعيد إنتاج المادة العاشرة من دستور 1950 التي تكفل حريات الأفراد في دولة القانون.
وفي سياق الضمانات التشريعية لسيادة القانون، تحدثت عن وجوب تكامل الضمانات الدستورية لسيادة القانون مع تشريعات تراعي الوصول إلى سيادة القانون، خاصة في مجال تنظيم السلطة القضائية والعملية التشريعية التي تقضي بضرورة إلغاء التشريعات الشاذة المخالفة لمواثيق حقوق الإنسان، وتلك التي تعاملت مع الدولة كملكية خاصة، ومنحت حزب البعث ميزات تفضيلية على غيره من الأحزاب.
أما بالنسبة إلى التشريعات غير المنشورة، فقد نبّهت إلى وجوب مراجعتها من قبل هيئة وطنية متخصصة تعمل على اقتراح نشرها وإلغاء أو تعديل ما يلزم منها، وحول السياسة التشريعية وصناعة القانون، تحدثت عن عيوب الصياغة الرديئة للتشريعات، وكثافة إصدار التشريعات وتعديلها والعطالة التشريعية وآلية تلافيها.
وحثَّت الدراسة على ضرورة إعادة بناء الجيش الوطني، وحوكمة الأجهزة المتغوّلة في الدولة بضبط سلطات الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها، وضبط تغوّل حزب البعث وإعادته إلى منظومة الأحزاب الطبيعية، وفق أسس وقواعد ارتأتها. ثم عرّجت الدراسة على دور المجتمع المدني، ابتداءً من أهميته في الحالة السورية، مرورًا بوظيفته عمومًا، وانتهاء بواقع المجتمع السوري. وختمتُ الدراسة بتوصية الأمين العام للأمم المتحدة التي حثَّت على وجوب الاستعانة بالخبرات الوطنية لأي إصلاح في مجال سيادة القانون، بسبب إخفاق المشاريع المصممة سلفًا أو المستوردة، لكون الخبرات الوطنية تعرف البيئة والذهنية الحقوقية في سورية.