احتاج البيت الأبيض إلى بيان رسمي، كي يضع النقاط على الحروف، في تغريدة ترامب التي حذّر فيها من عملية عسكرية في إدلب. وعلى غير ما فُسرت سياسيًا وإعلاميًا، بدا واضحًا أن دونالد ترامب لم يذهب إلى تحذير روسيا وحلفائها، من شن عملية عسكرية يُحضّر لها منذ زمن طويل وقد حان وقتها الآن، كما يرون. بل إنه كان واضحًا بالقول إنه يجب تجنب حدوث كارثة إنسانية، ناجمة عن الهجوم على إدلب، وأضاف بيان البيت الأبيض تحذيرًا واضحًا للأسد بعدم استخدام الكيمياوي في العمليات العسكرية، تماشيًا مع تحذيرات سابقة مماثلة، إضافة إلى موقف بريطانيا وفرنسا من اللجوء إلى ذلك، لإنهاء الوضع المعقد عسكريًا وأمنيًا، في آخر المعاقل المسلحة المناوئة للنظام الأسدي.
بانتظار نتائج قمة طهران، وجلسة مجلس الأمن اليوم الجمعة، فإن جملة التطورات المتلاحقة، ومنها إلغاء ترامب حضور القمة اللاتينية لمتابعة الملف السوري، كما يُقال، فإن موسكو وطهران ماضيتان في الذهاب إلى شن هجوم شامل على إدلب، من مؤشراته الميدانية تكامل التحشيد العسكري، بوصول قوات من الحرس الثوري الإيراني للمشاركة في العمليات. وإن اتهام الفصائل ومنظمة (الخوذ البيضاء) بالتحضير لاستخدام أسلحة كيمياوية ضدها، هو في الواقع حيلة جديدة لاستخدام الكيمياوي ضد المدنيين في إدلب، وقد دأب النظام السوري والقوات الروسية والإيرانية على استخدامه بوسائل متعددة، في جميع العمليات العسكرية السابقة، في ريف دمشق والمنطقة الجنوبية، ومنطقة الغاب. وقد تمّ استخدام حق النقض ضد مشروع القرار الأميركي، بشأن لجنة التحقيق الدولية في سورية، مرة أخرى قبل يومين.
ليس هناك في الحقيقة أي اعتراض دولي على القيام بعمل عسكري في إدلب، حيث أكبر التجمعات البشرية في سورية كثافة اليوم، بسبب وجودها خارج سيطرة النظام، ونزوح مئات آلاف السوريين إليها، هربًا من الموت، أو نتيجة لعمليات المصالحة (المسلحة) التي نفذها النظام طوال أربع سنوات ماضية، وكانت الوجهة إدلب للمسلحين وعائلاتهم. إنما جوهر الاعتراض هو في استخدام أسلحة كيمياوية. ويأتي الاعتراض بصيغة التحذير من كارثة إنسانية، كما عبّر عنها ترامب. إن استخدام القوة بالغة الإفراط هو سمة السلوك الإجرامي الذي دأبت موسكو وطهران ودمشق على اللجوء إليها، بصورة غير مسبوقة، في تاريخ العمليات العسكرية.
مع العاشر من سبتمبر، تكون مهلة النظام للاستسلام قد انتهت. وفي اعتقادنا أنه سوف يتم استخدام جميع الأسلحة المحرمة دوليًا، دون اللجوء الى استخدام الكيمياوي، بصورة مباشرة وواضحة، تجنبًا لردات الفعل الدولية وخاصة الأميركية والبريطانية والفرنسية التي حددت خطط الرد على ذلك. لكن وقائع السنوات الثماني الماضية علّمتنا أن ردّات الفعل العسكرية لن تكون فعّالة ورادعة بشكل حقيقي؛ فاستهداف ترامب لمطار الشعيرات لم يؤثر في القدرات الجوية السورية والإيرانية بشيء، وتكرر بعد ذلك استخدام الكيمياوي بصورة محدودة.
لن تكون معركة إدلب سهلة ويسيرة، وموسكو تدرك ذلك جيدًا، واستسلام الفصائل ما يزال حتى اليوم غير ممكن، غير أن لا شيء في عالم الحرب والسياسة مستحيل، وقد تتوصل الجهود التركية المدعومة أميركيًا ومن أطراف أستانا، إلى إنجاز مهم، هو تفكيك (هيئة تحرير الشام) والفصائل الأخرى، وهو ما سوف يقود الى عقد “مصالحة”، لكنها في كل الأحوال غير مأمونة؛ لأن وجود كميات كبيرة من السلاح لدى (هيئة تحرير الشام)، وقيادات متشددة بالغة الغلو في التمسك بخيار المواجهة، يجعل الأمرَ معقدًا وعصيًا على الحل.
لا يفكر أي من الأطراف في مصير المدنيين، والأخطار التي تحيق بهم، في ظل اندلاع أي مواجهة مسلحة، أو عبر الاستهداف الصاروخي الذي تقول موسكو إنه سيكون محددًا، ويأخذ في الاعتبار عدم استهداف المدنيين. لكن ذلك أيضًا، وفقًا لمنطق الحرب، غير صحيح. كانت واشنطن تكرر القول إن عمليات التحالف الدولي ضد (داعش) في الرقة نوعية وذكية، وتحول دون تضرر المدنيين، لكن النتيجة هي دمار هائل وتقويض البيوت فوق السكان العزّل، ومقتل واختفاء عدة آلاف من المدنيين.
لم تكن سياسة المصالحات والهدن، واتفاقات خفض التوتر، التي نهجها النظام بدعم روسي مباشر كطرف ضامن، سوى عمليات احتواء للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، واستعادتها بالحرب أو بالمصالحة، وهذا ما قاله المعلّم قبل أيام: “استعادة إدلب أولوية، بالحرب أو بالمصالحة”. وكان واضحًا جدًا، منذ اتفاق هدنة حمص، أن الأمور جارية على قضم المناطق واحدة بعد أخرى، في عملية منهجية لتجميع المقاتلين في منطقة واحدة، هي إدلب، وقد أكل السوريين الطعمَ إلى آخره، لتصبح إدلب اليوم في فوهة البركان، بما تجمعت فيها من قوى مسلحة، ومن استعداد لشن هجوم المرحلة الأخيرة، في سياسة المصالحات القاتلة والمريرة. وصول إدلب الى هذه الحال، كانت مؤشراته واضحة في حلب وفي درعا، غير أننا لم نفكر ولم نعمل لهذا اليوم، إن كانت لنا القدرة على ذلك.
لا شك أن القرار ليس بيد النظام السوري، إنما بيد القوات الروسية الممنوحة سلطة واسعة للعمل العسكري، ليس كقوة احتلال فحسب، بل بموجب اتفاق استراتيجي بين سورية وروسيا.
قد لا تجدي التحذيرات من حصول كارثة إنسانية نفعًا، حين تبدأ حمم الموت بالتهاطل فوق أحياء إدلب. حتى اليوم، ليس ثمة من يصغي إلى ذلك في الكرملين. وجود ثلاثة ملايين مدني بينهم مليون طفل في إدلب، لن يوقف شهوة التدمير المستعرة في أكباد مجرمي الحرب: بوتين والأسد وروحاني.
إن كانت الغاية هي حماية المدنيين وحفظ إدلب من مصير مماثل للرقة، وشرق حلب، فإن على جميع القوى المسلحة مغادرة المدينة بالكامل، ومصير (هيئة تحرير الشام) قد يكون أسوأ من مصير (داعش) التي حظيت باتفاقات جنبتها المعارك المباشرة، ومنحتها الوقت والممرات الآمنة للعبور إلى مناطق أخرى. لكن الأمر مختلف في إدلب، حيث لن تُمنح الفصائل المسلحة ممرات آمنة للمغادرة، ولن تكون هناك مناطق مجاورة خارج سيطرة النظام او روسيا. والدور الذي تقوم به أنقرة اليوم هو ممارسة أكبر قدر من الضغط على حلفائها، لمنع وقوع الكارثة. لم تكترث الفصائل المسلحة يومًا ما بمسألة حماية المدنيين، على قدر شبيه بالنظام وروسيا وإيران. ولذلك فإن تفكيكها يبدو حتى الآن صعبًا، وقد تنهار قدراتها مع أولى موجات القذف الصاروخي الروسي، والهجوم البري الأسدي – الإيراني.
إن حدوث العمليات العسكرية بصورة فجائعية “ضد الإرهابيين الذين لم يعد ممكنًا احتمال وجودهم في إدلب”، كما يكرر سيرغي لافروف، أمرٌ قاب قوسين أو أدنى، وليس هناك اعتراض دولي عليه، وما لم تحدث مفاجآت واختراقات من داخل (هيئة تحرير الشام)، والفصائل الأخرى؛ فإن الكارثة لا يمكن لأحد إيقافها، بما في ذلك تغريدات ترامب.
ليس لدى السوريين ما يقومون به للحيلولة دون ذلك، أو للتخفيف منه، بكل أسف وألم.
المصدر: