• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

عبد الله تركماني : نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (8)

5- أسئلة برسم المستقبل تطرح الثورة السورية في متغيراتها الكثيرة سؤال الدولة بشكل رئيسي، فما من شك أنّ الدولة كما عرفناها بعد الاستقلال، ودولة البعث، لم تعد قادرة على توليد شرعية الحكم، أو تلبية مطالب الشعب، والأهم من ذلك، أنّ الثورة نفسها، كشفت طبيعة الخلل في العقد الاجتماعي والسياسي السوري، واختراقه من قبل بنى تعود إلى ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، فقد طفت على السطح نزعات قبلية، ودينية، ومناطقية، وقومية، ولا يمكن بأي حال الاكتفاء بإدانة هذه النزعات، فما هو مهم دوماً، معرفة مدى قدرة المجتمع على رأب الصدوع؟ وما هي الأشكال المؤسساتية والإدارية القادرة على توليد عقد اجتماعي وسياسي جديد، وبناء المفهوم الوطني على أسس جديدة؟ وأن تكون الأشكال الجديدة كفيلة بإنتاج مستوى مختلف من العلاقات بين مكونات الشعب السوري، على تنوعها واختلافها، وأن يكون هذا المستوى الجديد، مؤهلاً لإنتاج الدولة ككل.إنّ طرح اللامركزية الإدارية الموسّعة يمكن أن يلبي طموحات التنوع السوري في لوحته الفسيفسائية، ويمكن أن يشكل رافعة للجمهورية السورية الثالثة (42)، كما أنه يعيد مسألة انبثاق الشرعية وتطورها إلى المستويات المحلية، بعد أن أصبح من الصعوبة بمكان توليد منظومة مركزية للشرعية، مع وجود خلاف فكري حاد في مرجعيات القوى الثورية سياسية كانت أم عسكرية.6- نحو الجمهورية السورية الثالثةبعد أن عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية‏،‏ التي تخبّط في أوحالها وظلماتها أكثر من 50 سنة‏،‏ ويعود حرّاً كما ولدته أمهاته‏.‏ فما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لابدَّ من إدارته؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحوّل؟ وهل يمكن لثقافة بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟والسؤال الرئيسي هو:

كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟ (43).

لا شك أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.

إنّ سورية أحوج ما تكون إلى الدولة الديمقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي.

هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي.ولعلَّ مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إنّ التقدم الشامل لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التغيير السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتّع فعال بالحريات السياسية والفكرية. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها.

ومن غير الممكن تصور سورية لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. إنّ الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من مجتمعها المدني، وليد مفاهيم السياسة المدنية والعقد الاجتماعي، تكون هشة وضعيفة مهما ادّعت القوة.وفي كل الأحوال، وطالما أنّ كرامة وحرية الإنسان هي التي تشكل أساس تطور أي مجتمع، فإنّ الرقابة المُمَأسسة، التي تمكّن من وضع الإنسان السوري المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق الانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية بأقل الخسائر، واستئصال شأفة العنف من العلاقات الاجتماعية والسياسية.

إنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية. وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوّناتها المتنوعة.

والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة. ففي المرحلة الجديدة لن يقبل السوريون بعدم المشاركة في صياغة مستقبلهم، بل سيتصرفون انطلاقاً من حقهم الطبيعي في الكرامة والعدالة والمساواة التامة في وطنهم. وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكاً لجميع مكوّناته وليس لفرد أو حزب أو أقلية.وفي سياق الثورة السورية من أجل التغيير فإنّ القوى الحقيقية، التي نزلت إلى الشارع وقدمت الشهداء من أجل الحرية وإعادة الكرامة للشعب، بلغت بسقف مطالبها ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، مع المطالبة بمحاكمة رأس السلطة ومسؤولي الأجهزة الأمنية وقادة الشبيحة. وهي تتبنى، بشكل واضح، تصوراً مستقبلياً لسورية: ديمقراطية، مدنية، دولة كل مواطنيها، ودولة قانون وحريات عامة وفردية تنبذ العنف والطائفية. خاتمةإنّ أهم ما يواجه عملية التحول الديمقراطي في سورية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية، بما يؤدي إلى رفع الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل – إنسانياً وقانونياً – مع الماضي بطريقة تجنّب المجتمع السوري ردود الفعل بالانتقام أو الثأر أو الكيدية، أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة. ولكي يتم تسهيل مهمات المحاسبة يمكن تشكيل هيئة عليا مستقلة للحقيقة لكشف الانتهاكات في الماضي وخلال الثورة، بحيث تضم ممثلين عن جميع القطاعات والحقول القضائية والقانونية والإعلامية والأكاديمية والأمنية والعسكرية والصحية والنفسية، إضافة إلى ممثلين عن منظمات المجتمع المدني، ويكون لهذه الهيئة شخصية اعتبارية ومعنوية وضمان استقلالها المالي والإداري، ويتم ذلك قانوناً بحيث تحال إليها جميع الملفات، ذات العلاقة بالمجازر واجتياح المدن وقصفها بالصواريخ والبراميل المتفجرة والاغتيالات أو التعذيب أو السجن أو جرائم الفساد أو غيرها.

إنّ المصالحة الوطنية لا تعني النسيان وإنما إلغاء الثأر والانتقام عبر اللجوء إلى القضاء، وذلك يعني أنه لا بدَّ من أن يقبل كل السوريين، من يشعر أنه كان ضحية للنظام ومن يخاف أن يكون أحد ضحايا التغيير، بأنّ سورية المستقبل قادرة على حمايتهم جميعاً وأن تؤمّن لهم مستقبلاً أفضل. وهنا لا بدَّ من التشديد على مبدأ ربح الجميع، بمعنى أنّ المسؤولين الحاليين الذين سيصبحون سابقين، ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب السوري وبالفساد العام، يتوجب عليهم إدراك أنّ تفاوضهم بشأن التحول الديمقراطي هو ضمانة لعدم تعرضهم للمساءلة في المستقبل. كما أنّ على الضحايا السوريين أن يدركوا أنّ مستقبل سورية يتعلق بمدى قدرتهم على تجاوز الماضي من أجل الشراكة في سورية المستقبل، وهذا لن يتم بالطبع إلا عبر المفاوضات المشتركة من أجل وضع خريطة طريق للانتقال الديمقراطي.الهوامش

مقالات ذات صلة

USA