في المعتقل قبل سنوات من الثورة، كان يأتيني أحياناً حلمٌ أثناء نومي .. حلم/منام بأنني حر في بيتي أو أمشي في الطريق أو شيئاً من هذا الفعل اليومي العادي جداً الذي لا ننتبه له عادةً، وخوفا من أن يكون حلماً كنت أتجنب الحركة حتى لا أصحو إن كان حلما وليس واقعا، كنت أقول في نفسي وأنا نائم، حتى لو كان حلما فلأتركه مستمرا لأتمتع بلحظات حرية ولو كاذبة، لكنني في النهاية كنت أصحو لأرى القضبان أمامي.في كل يوم عندما تصحون من نومكم تذكروا .. تذكروا أنه وعلى مدى تسع سنوت مضت وفي كل ربع ساعة ستأتي سقط أو سيسقط لنا معتقلٌ شهيداً تحت التعذيب في معسكرات الاعتقال النازية الأسدية الطائفية .. نعم في كل ربع ساعة وربما أقل سقط وسيسقط لنا شهيدٌ تحت نير السياط والقضبان والكماشات والسكاكين، أو بسبب المرض والجوع والإهمال، أو ربما على حبل المشنقة أو بضربة على رأسه من قبل سجان متوحش “يرفه عن نفسه المريضة بالحقد والخسة والوضاعة، والحسد من النبل والأصالة والشرف التي ما عرفها هذا السجان يوما، لا هو ولا من استخدمه ومن أيده.وتذكروا أيضاً أن هذا المعتقل الشهيد وقبل سقوطه كان يحلم حلماً صغيراً؛ بأن يأتي ثائٌر يفتح له باب السجن ليخرج رغما عن سجانه حرا ليحتفل بالنصر، وكان يرسم ألف سيناريو لتلك اللحظة .. لكن هذا المعتقل وقبل سقوطه شهيداً وفي كل ليلة؛ كان أيضاً يحلم أحلاما كبيرة جداً، وما أدراك ما الأحلام الكبيرة للمعتقل النبيل.قبل سقوط شهيداً جائعا منهكاً، كان في كل ليلة يشطح في حلم يقظته طوال اليوم، ويعاود الكرة في منامه، ولحظة سقوطه كان يتذكر كل أحلامه الكبيرة جداً تلك .. كان يحلم بوجبة طعام نظيفة يشبع فيها، كان يحلم بسندويشة فلافل، كان يشطح في حلمه ليصل بضمة واحدة لزوجته أو أبنائه، كان يحلم وهو يسقط شهيداً بتقبيل يد أمه وأبيه منتظرا الكلمة الجميلة البسيطة “الله يرضى عليك يا حق” .. ومأ أكبرها من أحلام وما أصعبها لتتحقق، وما اقربها منا دون ان نشعر بقيمتها.وتنفلت أحلامه الكبيرة جداً من عقالها؛ كان يحلم قبل أن يسقط وهو يسقط بأن تعود الأيام ليقول كلمة واحدة لصبية بادلته حب العيون وهي تمر بقربه كل يوم دون أن يجرؤ على قول كلمة لها، سقط وهو يتذكر حلمه الكبير جداً بأن يلبس بذلة نظيفة بعد حمام نظيف ويمشي في الشارع وما أكبره من حلم، سقط وهو يحلم بأن يستيقظ صباحاً ليرى نفسه في بيته وليس في الزنزانة، سقط وهو يحلم بنافذة دون قضبان، سقط وهو يحلم أن يملك مفتاح غرفته لا أن يكون مباحا للسجان متى شاء اقتحمها، سقط وهو يحلم بمتر مربع ودقائق من الخصوصية، فحتى في الزنزانة الانفرادية كان السجان يحرص على أن لا يدعه يتمتع بالخصوصية.هذه هي الأحلام الكبيرة التي يحرص السجان المتوحش على حرمان معتقل شهيد سوري منها كل ربع ساعة وهو يستل روحه قطرة قطرة مقهقهاً بسادية خسيس وضيع ومرتعشاً بنشوة نصره على الشهيد النبيل الضعيف المقيد .. هكذا كنت أحلم عندما كنت معتقلا في زنزانتي الانفرادية، لكنني محظوظ جداً، فقد خرجت يوماً وحققت كل أحلامي الكبيرة المستحيلة هذه، لكن مئات الآلاف لم يفعلوا، وكل ربع ساعة يغادرنا واحدٌ منهم شهيدا معذبا مقهورا جائعا مؤجلا أحلامه الكبيرة هذه إلى الحياة الأخرى، فتذكروهم واصبروا ولا تتوقفوا قبل أن تحققوا أحلامهم الكبيرة تلك.
فواز تللو / مركز آفاق مشرقية