العربي الجديد:24/6/2020
في مبادرة جادّة وشجاعة، تبنّت شخصيات سورية، من خلفيات فكرية وسياسية واجتماعية متعددة، ومتباينة، ما سمته “إعلان الوطنية السورية”، منطلقةً من اعتبار “الوطنية” محدّداً معيارياً للعلاقات الداخلية والإقليمية والدولية. الوطنيّة السوريّة، الرابطة الجوهرية للسوريين، وركائزها: سورية الوطن، بكل تاريخه وحضارته وتنوعه القومي والديني والمذهبي، والمواطنة أساس العقد الاجتماعي، والديمقراطية قاعدة النظام السياسي.وقد بسط أصحاب الإعلان، في ضوء هذه المنطلقات، مبادئهم العامة وتصوراتهم الخاصة للحمة الاجتماع السوري المنشود وسداه، تحت عناوين دالة: الإنسان والمواطن، الدولة الجديدة، النظام الديمقراطي، الحريّات والسِّلم الأهليّ، الثقافة الوطنيّة والوعي الوطنيّ، حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة، حرية المرأة وحقوقها، الجيش السوريّ والأجهزة الأمنية، النظام الاقتصادي الجديد، السياسة الخارجيّة السوريّة، ومحدِّدات وطنيّة أولية: قوى الواقع الراهن وقوى المستقبل؛ عرضوا تحت هذا العنوان الفرعي تقويمهم للراهن السوري وبدائلهم المتوخاة. وتقديراً لهذه المبادرة وتلبية لدعوتهم لتطويره بقولهم: “إنه صيغةٌ متجدِّدةٌ، ومنفتحةٌ على التطور”، هنا قراءة نقدية وملاحظات على شكل ومضمون الإعلان وتوجهاته النظرية والعملية.يلمس قارئ الإعلان أنه صِيغ بلغة تقريرية وتبشيرية؛ مع ميلٍ واضح إلى الاسترسال في الإنشاء السياسي وعمومياته. قال “الوطنيّة السوريّة هي رابطتُنا الجوهرية، وجسرُ التواصلِ بين السوريين، والمدخلُ إلى علاقاتهم ببعضهم بعضاً، وإلى ملاقاتهم الآمال والطموحات المشتركة، وهي مدخلُنا إلى المشاركة في النشاط الإنساني، وميدانُ التفاعل الحيّ مع غيرنا، والمؤثِّر في الخارج، وسبيلُنا إلى مواجهة الاستحقاقات والتحدّيات والأخطار التي تهدِّد مصيرنا، وإلى اغتنام الفرص التي تزيد من أهليَّتنا وتأثيرنا الإيجابي في الإقليم والعالم”، “وتنبع جوهريتُها (الوطنية) من كونها الرابطة التي تبني الدولة، وتحقِّق المشترك بين المواطنين، وتوفِّر المظلة التي تضمن حماية التنوّع الديني والمذهبي والإثني”، و”الإنسان هو المبدأُ الرئيسُ المؤسِّسُ للدولةِ الجديدةِ، وعليه ينبني مبدأُ المواطنة الذي يعني تساوي المواطنين في الكرامة الإنسانيّة، وأمام القانون في الحقوق والواجبات”، و”الدولة السوريّة؛ التزام المبادئ الفكريّة والسياسيّة والأخلاقيّة التي تتأسَّس عليها الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الحديثة؛ فالدولةُ المستقبليّةُ ليست دولةَ فردٍ أو طغمةٍ أو طائفةٍ أو عشيرة أو حزب، بل دولةُ المواطنين السوريين جميعهم؛ فأيّ نظامٍ سياسيٍّ يستمدُّ شرعيتَه من هيمنةِ أغلبيّةٍ دينيّةٍ، أو طائفيّةٍ، أو إثنية، إنّما يقوّض الديمقراطيّة، ومن ثمّ ينتهكُ شروط المواطنة المتساوية كلّها”، و”نظام سورية المستقبل نظامٌ ديمقراطيٌّ، وله مجموعةٌ متكاملةٌ من الأركان؛ مبدأ الحياة الدستورية، التعدّدية والنظام البرلماني، مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، حقُّ المشاركة في الشؤون العامة، الشَّعب مصدرُ الشرعيّة والسلطات جميعها، احترامُ حقوق الإنسان في ضوء الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، حريّة التفكير والتعبير، حقّ التنظيم، حريّة الصحافة والنشر”، و”بيئة حرّة للتنوّع؛ سوريّة المستقبل وطنٌ تُتاح فيه الحريّةُ لجميع القوميات والأديان والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيّات والأحزاب في التعبير عن نفسها والفعل والتأثير، لكن مع استمرار دولتهم السياسيّة في التعبير عن الكلِّ الاجتماعيِّ”. … إلخ.واقع الحال أن صيغة التقرير والتبشير بتطلعاتٍ عامةٍ لا تصلح لعرض قضية حساسة ودقيقة، مثل قضية “الوطنية”، قضية إشكالية وملتبسة في أذهان عموم السوريين في ضوء ولادة الدولة السورية، قاعدة الوطنية ووعائها السياسي والاجتماعي، في ظروفٍ وشروطٍ سريعةٍ وعاصفة: الخروج على النظام الإمبراطوري، السلطنة العثمانية، وولوج تجربة جديدة في كيان مستقل، في ظل ثقافة إسلامية سائدة تربط القيم والخيارات السياسية بالموروث الإسلامي؛ دولة الخلافة والجامعة الإسلامية، وإرهاصات التوجه القومي، العربي، والدعوة لدولة عربية واحدة في المشرق العربي، رد الفعل على تلاشي الوعود البريطانية بإقامة كيان عربي واحد، وعد بلفور، والانتداب الفرنسي وسياساته التفتيتية والتمييزية. دولة ضعيفة واقعة بين حجري رحى: دعوات فوق وطنية، إسلامية وعربية، وممارسات تحت وطنية، إثنية ومذهبية ومناطقية، ما حوّلها إلى كيان هش مخترق ومحاط بدعوات ومواقف رافضة ومكبلة.يتجاهل المنطق التقريري والتبشيري الذي اعتمده أصحاب الإعلان حاجة كل كلمة، خيار، موقف، لتبرير وتفسير، في بيئة فكرية تقليدية ومفاهيم سياسية واجتماعية مشوشة ومختلطة، فضلاً عن أن طرح “الوطنية” والمبادئ المرتبطة بها، كما جاء في الإعلان، يتعارض مع ثقافةٍ سياسيةٍ فرضت بمنطق السلطة وقوة الأمر الواقع؛ تحوّلت إلى مسلمات وقناعات عامة، صوّر غسان سلامة، في كتابة “الدولة والمجتمع في المشرق العربي”، الحالة بقوله: تسأل العراقي هل أنت بعثي؟ فيجيبك بلا، ولكنه خلال الحديث يجيب عن أسئلة سياسية واقتصادية واجتماعية إجابات بعثية… فالدعوة إلى “الوطنية”، وسط البيئة الفكرية والسياسية السائدة، بما تعرفه من اختلاط في القيم والمفاهيم وتشابك وتداخل في الانتماءات والولاءات، لن تكون سهلة، أو تُستقبل بقبول تلقائي وسلس؛ فالحالة العامة رافضة، أقله مرتبكة ومتشكّكة، ما يستدعي جهداً كبيراً وعملاً دؤوباً لتبرير (وتفسير) الخيار وجدواه في مواجهة المأزق الوطني الراهن، فالحاجة ماسّة لقراءة مقارنة بين الدعوة الوطنية والدعوات الأخرى، القومية والإسلامية والأممية، بحيث تؤسس لقناعات وتوافق راسخ حولها.لذا كان المنطقي والمنهجي صياغة الدعوة بصيغة مختلفة، صيغة حوارية، صيغة مقارنة، أساسها عرض وتبرير وتفسير الفكرة/الموقف ومترتباتهما القريبة والبعيدة ونتائجهما المفترضة وانعكاساتها على الوطن والمواطن، ومقابلتها مع الدعوات الأخرى، كي تكون الدعوة مادةً لحوار فكري وسياسي، على طريق تبنيها وجعلها معياراً للسياسات الداخلية والإقليمية والدولية بالنسبة للشعب السوري، كما يرغب أصحابها. ضرورة حيوية لا تنفيها أو تحدّ من ضرورتها أننا أمام إعلان سياسي، هو بمثابة إعلان مبادئ.في فقرات الإعلان أحكام وتقديرات بحاجة إلى تدقيق وتصويب، مثل قوله “الوطنيّة السوريّة ليست نقيضاً أو بديلاً للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي”. كيف ذلك والإعلان يقول إنها “منظومة أفكار ومبادئ وأسس وقوانين، تحرِّرنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي”، وعليه تكون الوطنية نقيضاً وبديلاً للانتماء القومي والديني والطائفي، في مجال الحقوق والواجبات وعلاقة الفرد بالدولة ومؤسساتها، وإلا فما معنى الدعوة لها في هذا السديم الغامر. وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم توفق الإعلان في قوله: “تحرِّرنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي”، فهي لا تحرّرنا، لأن هذه الانتماءات طبيعية ومشروعة، بل تنظمنا في إطار رؤية محدّدة لها أولوياتها وتوازناتها مع بقاء الانتماء القومي والديني والطائفي كشأن شخصي؛ يمارسه المواطنون بشكل خاص؛ في حياتهم اليومية وعلاقاتهم مع محيطهم الاجتماعي، مع ملاحظة أن العبارة صادمة لما تنطوي عليه من نزوع عدمي.جاء فحوى فقرة “حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة” في تعارضٍ حادٍّ مع تبنّي الإعلان المواطنة قاعدةً للعقد الاجتماعي، والديمقراطية نظاماً سياسياً، لأن الحق في دولة المواطنة فردي، والديمقراطية تعتمد أغلبية سياسية، لا قومية ولا دينية، ما يستدعي إعادة نظر في الصيغة والبحث عن مخرج منطقي وعملي يتسق مع المنطلقات الرئيسة، مع ملاحظة أن التحفظ هنا ليس على حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة، بل على عدم الاتساق المنطقي والسياسي في نص الإعلان.في فقرة “الجيش السوريّ والأجهزة الأمنية” تعارضان فجّان مع روحية الإعلان، تمثّلا بالمهام التي أعطيت للجيش وأجهزة الأمن، للجيش “حراسة ثرواته، والحفاظ على تراثه وحضارته ونظامه الديمقراطيّ”، ولأجهزة الأمن “حارساً أميناً لمصالح المواطنين، تصونُ دماءهم وأعراضهم وأموالهم وتحمي حرياتِهم”، إذ للجيش في الدولة الحديثة مهمة واحدة: حماية أرض الوطن؛ فكيف اتفق أن الإعلان يرفض انخراط الجيش في العمل السياسي، ويكلفه بمهمة سياسية؟ وأجهزة الأمن لها هي الأخرى مهمة واحدة: مقاومة الاختراقات الخارجية. أما مصالح المواطنين فيحميها القانون والقضاء والأمن الداخلي: الشرطة والأمن الجنائي. فتكليف الجيش بحراسة الديمقراطية باب واسع لدخوله معترك السياسة وفرض توجهاته ورغبات قادته على الحياة السياسية، وتكليف أجهزة الأمن بحراسة مصالح المواطنين يشرعن تدخلها في حياتهم وابتزازهم والتعدي على حقوقهم وحرياتهم.في فقرة “النظام الاقتصادي الجديد” تبنٍّ غير معلن للنظام الرأسمالي، قال “بين الحريّة الاقتصادية، والحفاظ على دور رقابي وإشرافي للدولة في الحياة الاقتصاديّة عموماً”، فهل يصلح النظام الرأسمالي لإخراج مجتمعات مفقرة وممزّقة، وتعيش في ظل ثقافة تقليدية من وهدة الفقر؛ ودولة مدمّرة من مشكلات التضخم والانكماش والبطالة والقدرات الخدمية الضعيفة والمديونية العالية وانهيار سعر صرف العملة الوطنية؟ وفي فقرة “علاقة القوى بالخارج” موقفٌ بعيدٌ عن روحية الإعلان الرافضة للعسكرة ولغة السلاح، حيث جاء “لكن لا يحقُّ لأيِّ قوةٍ سياسية أو عسكرية أن تعقدَ أيَّ اتفاقاتٍ، سرية أو علنية”، ما يسمح باستنتاج خطير بإمكانية القبول بوجود تشكيلات عسكرية خارج المؤسسات الشرعية.في الختام، نجدّد الإشادة بالمبادرة، وندعو إلى التفاعل معها والمساهمة في إنضاجها وتطويرها بروح إيجابية، وعلى أسس موضوعية، ركائزها المعقولية والعملية تحقيقاً لتطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والتقدّم نحو دولة الحق والقانون والعدالة والمساواة والحريات العامة والخاصة في وطن معافى ومزدهر.