كان وارداً أن تذهب طي النسيان تغريدات إيدي كوهين بداية هذا الشهر عن ترحيل مزمع لبشار الأسد، لو لم تعقبها حملة عليه في الإعلام الروسي، ليبدو هذا التناغم كأنه سياق قد يتطور في المدى المنظور لإنهاء الحقبة الأسدية. سنجد متحمسين لهذا التصور بين من يرون كوهين ناطقاً غير مباشر باسم الموساد وإسرائيل، ويرون في الأسد محمياً في المقام الأول من تل أبيب، وأيضاً بين من يستبشرون بنهاية الحقبة الإيرانية في المنطقة ولو لحساب موسكو. على العموم، لفكرة تنحية بشار أنصار كثر لكونها تتلاقى مع رغباتهم، بمن فيهم نسبة من السوريين يُحتسبوا عادة على مؤيديه. فهل حان حقاً وقت الشروع في تنحيته؟قبل أسابيع قليلة، كان الكلام عن ترحيل بشار سيبدو من قبيل الهذر أو الأمنيات، فهو “مسنوداً بموسكو وطهران” بات في أفضل أحواله الميدانية، بل بلغ أقصى ما تسمح به التوازنات الإقليمية والدولية من انتصارات عسكرية. وكنا، منذ بدء التدخل العسكري الروسي، قد شهدنا انحساراً للتهديد العسكري بإسقاطه، وكان من أهم مؤشرات طي الخيار العسكري نهائياً تسليمُ واشنطن الجبهةَ الجنوبية التي أشرفت على فصائلها، وهي الجبهة الأقرب إلى دمشق ولها خطوط إمداد مفتوحة على الخارج. التصريحات الأمريكية والغربية دأبت على التسليم بنصر الأسد والحليف الروسي، والتحفظ الوحيد المعلن اقتصر على أسلوب إدارة النصر، حيث لم تُظهر الأطراف المنتصرة المرونة السياسية المطلوبة منها.على صعيده الشخصي، ثمة سياق تضافرت فيه كافة العوامل والفاعلين من أجل إبراز بشار كخيار ضروري، حتى بقي “رغم ضعفه واستضعافه” الوحيدَ في الواجهة من دون منازع. آخر ما شهدناه مثلاً تراجع فرضية تأهيل سهيل الحسن لخلافته، الضابط الذي تعتمد عليه موسكو في عملياتها فقد الوهج العسكري الذي كان يُنسب له، وإطلالاته الإعلامية كشفت عن ركاكة لغوية تفوق ركاكة بشار، مع إفصاحها عن قدرات ذهنية متواضعة. يُصادف قبل شهر من الآن أن رحل علي حبيب، وزير الدفاع السابق الذي طرح البعض اسمه بديلاً محمياً من موسكو بعد إقالته من منصبه. كانت الشكوك قد حامت مبكراً حول طهران في قضية تفجير خلية الأزمة تموز 2012، المؤكد أن التفجير أودى بخلفاء محتملين لبشار، ومنهم صهره آصف شوكت الذي يحظى بعلاقات جيدة مع الغرب. إثر التفجير زاد ارتهان بشار لطهران، أو بالأحرى بات بسبب ضعفه رجلها الذي لا تساوم عليه لأنها لن تضمن بديلاً على نفس الدرجة من الولاء. النجدة الروسية اللاحقة لم تنقذه عسكرياً فقط، وإنما منحته في البداية هامشاً من التحرك بين وصيين يتمنى كل منهما الاستفراد بالوصاية عليه، ويتفقان على الإبقاء عليه كضمانة لنفوذ كل منهما.دولياً، يجدر تذكّر سؤال البديل الذي طالما طُرح على الثورة السورية في المرحلة الأولى، وهو سؤال لم يكن يقبل بترك الإجابة للسوريين كي يقرروها في اقتراع ديموقراطي. المقصود حينها كان السؤال عن البديل القادر على إدارة البنية الأمنية الأسدية وإعادة تأهيلها من خارج عائلة الأسد، فالغرب لا يريد رؤية الفوضى التي أعقبت إسقاط صدام حسين، ومثل هذا البديل يُصنع عادة في أروقة أجهزة المخابرات لا من خلال الثورات. سؤال البديل اقتضى التركيز على قلة كفاءة قادة المعارضة، ولم تقصّر الأخيرة في تسهيل مهمة اللاعبين الخارجيين لصوغ معادلة: إما الأسد أو الفوضى.الأسد أو داعش؛ هذه مفاضلة ستبرز بعد التخاذل الدولي في الرد على استخدام السلاح الكيماوي، ومعها أيضاً ظهر التوجه الأمريكي بترك سوريا كساحة لمتطرفي السنة والشيعة. القناعة بأن داعش أو أمثاله هو البديل المحتم عن الأسد صارت شبه معممة غربياً، فلم تعد مقتصرة على السياسات الرسمية أو النخب الحاكمة. بلا إحراج ستتوالى تصريحات غربية تعترف بإجرام الأسد، مع الاستدراك بأن إجرامه يبقى مقبولاً بالمقارنة مع البديل المحتوم.اليوم، عندما نقول أن الأسد بقي من دون منازع فذلك تتويج لإقصاء البدائل بطريقة أو بأخرى، وتتويج لنجاح المزاعم التي هدفت إلى بقائه. لا شخصيات مرشّحة لخلافته ضمن التركيبة الأسدية، بعد موافقة الحلفاء على إقصائها أو توليهم ذلك. لا فوضى منتظَرة بعد إحكام موسكو وطهران سيطرتهما على البنية العسكرية والمخابراتية، وتولي واشنطن وأنقرة السيطرة على القوات التي لا تخضع للأسد. الحرب على داعش انتهت فعلياً، وجبهة النصرة “المصنفة على لائحة الإرهاب” ليست بالبعبع البديل أو المطلوب تصويره على هذا النحو. ربما ينبغي أن نضيف اكتمال سيطرة بشار على “سوريا المفيدة” وفق تحليلات كانت شائعة، ليكشف انتصاره أين هي سوريا المفيدة بالمعنى الاقتصادي.ما ينبغي أن يلفت الانتباه أننا طوال سنوات كنا مجبرين على النقاش في مفاضلات قائمة على طرفين سلبيين، وكأن قدر السوريين الاختيار بين ما هو سيء وأسوأ وفق ما يراه الخارج. بشار نفسه لم يقطع وعوداً لمواليه في حال انتصر، لا على صعيد تحسين معيشتهم ولا على صعيد مشاركتهم في الحياة السياسية. إذاً، بموجب ما تواطأ عليه الحلفاء العلنيون والحلفاء موضوعياً، لقد بقي السيء من دون أسوأ ينازعه.قد لا تصحّ فرضية تنحية بشار قريباً، ما هو ثابت بقاؤه مجرداً من أي تهديد بالأسوأ، وأن يبقى السيء من دون مفاضلة تصب في صالحه فهذا يضعه عارياً أمام استحقاقات النصر. لقد كان بشار حريصاً في مناسبات ظهوره على القول أن النصر لن يتحقق حتى “تحرير” كافة الأراضي، وهي غاية في المدى المنظور تشبه شعار تحرير الجولان، أي أنه مدرك لكون استحقاقات الحرب أخفّ وطأة عليه من متطلبات النصر.من دون الوقوع في فخ التفاؤل، لقد تم تصفير قيمة بشار مع تصفير التهديد بإسقاطه. يستطيع هو إعلامياً تسويق نفسه شريكاً في النصر أمام مواليه والمغلوبين على أمرهم في أماكن سيطرته، أما صانعو النصر الفعليون فسيكون عليهم مواجهة السوء الذي اختاروه عندما يقررون إقفال الملف السوري. ذلك لا يتعلق فقط بالقوى التي قاتلت معه مباشرة، بل أيضاً بتلك التي تواطأت معها.