في أحيانٍ كثيرة لا تضيع الحقيقة لغياب المعلومات، بل لأن المعلومات المتوفرة لا يتم عرضها وربطها بشكل مدروس منطقي بل تعامل بفوضى أو انتقائية، وهي طريقة مستخدمة للتضليل عل نطاق واسع، ومن هذه الزاوية سأتناول التقارير والمعلومات المؤكدة حول تفجير مرفأ بيروت بعد أن جمعتها من مصادر عديدة وقمت بتصفيتها مما اختلط فيها من أقاويل، لتشير بعدها إلى السيناريو التالي الذي أعتقد شبه جازم بأنه حقيقة ما جرى، لا ابتداعاً من عندي بل بعرضٍ لهذه المعلومات المرتبة بتنسيق منطقي، ليليها استنتاجات منطقية شبه مفروغ منها نستخلصها، لأختمها بخلاصة هي زبدة الأمر.أولاً، حقيقة ما حصل:· نوعية المادة المصادرة من نترات الأمونيا لا تستعمل في الزراعة بل تستعمل في التفجير لأغراض عسكرية ومدنية كورشات البناء وشق الطرق.· الكمية المصادرة أي 2750 طن في هذه الحالة تغطي حاجة دول كبرى في إفريقيا للأعمال المدنية وليس دولة صغيرة جداً ومفلسة جداً كموزمبيق التي لا يوجد فيها شيء يذكر من أعمال إنشاء البنية التحتية والبناء.· تملك إدارة الجمارك في أي ميناء عادة صلاحية بيع المواد المصادرة في المزاد العلني، وهي الطريقة المتبعة عادة في المواد المصادرة كما أنها الطريقة التي تتم من خلالها البلطجة على المواد في موانئ البلاد الفاسدة حيث يشتريها تاجر فاسد متواطئ في الميناء من المالك الأصلي بفتات القيمة الحقيقية ليتجنب الأخير دفع أجور تخزين، أو تباع بالمزاد العلني لنفس الفاسد المتواطئ.· يملك مديرا مرفأ بيروت (السابق والحالي وهما تابعان للحريري) صلاحية بيع نترات الأمونيا المصادرة لكنهما لم يتمكنا ولم يجرؤا على ذلك في ميناء وبلد يسيطر عليه حزب إيران أي حزب نصر الله، بينما قيادة تيارهما الحريرية عاجزة عن حمايتهما، فلجآ (وربما بالتنسيق مع قيادتهما الحريرية) على غير العادة للقضاء المستعجل لاستصدار قرار بيع بالمزاد العلني رفعاً للمسؤولية عنهما وكذلك كوسيلة لوضع الآخرين أمام الأمر الواقع، لكن القاضي هنا ردها متحججاً بعدم الصلاحية علماً أن القضاء اللبناني أصلاً وفي هذه الحالات لا حول له ولا وقوة ولا استقلالية.· سبب رغبتهما في بيع المادة المصادرة ليس فقط خطرها، بل الأهم من ذلك والسبب الرئيسي هو عدم القدرة على السيطرة عليها لأن الميناء يحوي ممراً أمنياً خاصاً بحزب نصر الله الذي يسيطر مع نبيه بري على أمنه رسمياً وعملياً كمطار بيروت، ويسيطر على مستودع نترات الأمونيا.· حزب نصر الله بدأ يواجه منذ 2013 صعوبة متزايدة في تأمين سلاحه نتيجة الضربات الإسرائيلية فبدأ تدريجياً بجلبه مفككاً بالتجزئة وإعادة تجميعه في لبنان (كالصواريخ)، وينطبق ذلك على المواد المتفجرة.· النظام الأسدي بدأ منذ عام 2014 باستخدام “البراميل المتفجرة” بكثافة، وهي تقنية قتل قذرة وغبية ابتدعها نظام ملالي إيران وتتلخص بحشو البراميل الحديدية بمخلفات الحديد المختلفة وتزويدها ببضع عشرات الكيلوغرامات من مادة متفجرة (ومنها نترات الأمونيا) وصاعق صغير، ومن ثم رميها عشوائياً (حيث لا يمكن التحكم بها) لتقتل وتهدم عشوائياً وهو الهدف الوحيد منها، وبأقل كلفة.· نترات الأمونيا المصادرة في ميناء بيروت قد لا تكون (بل وغالباً) متوجهة أصلاً لموزمبيق إلا كإجراء مرحلي شكلي في سفينة متهالكة يملكها روسي مفلس ويقودها قبطان مغمور قادها بدأ من تركيا (وليس من بدء الرحلة في جورجيا) لتمر وتحتجز في ميناء بيروت دون سبب مقنع والحمولة عليها، ومن ثم وبدلاً من تركها تغادر بحمولتها بعد عشرة أشهر، يتم السماح للطاقم بالسفر ومن ثم ودون علم القبطان وبعد مغادرته يتم إنزال الشحنة ومصادرة السفينة وتركها لاحقاً (أي السفينة) لتغرق دون اعتراض من مالك السفينة ودون اعتراض من مالك الشحنة سواء كان حكومة موزمبيق أو (وهو كذلك غالباً) شخص واجهة في موزمبيق متواطئ بالعملية وتابع لحزب نصر الله حيث تمتد أذرعه في غرب وجنوب إفريقيا.· من السخرية القول أن مصادرة السفينة والشحنة جاءت بعد دعوى قضائية سمحت للطاقم بالمغادرة بينما نفس القضاء رفض لاحقاً البت بمصير الشحنة، ومن اللافت للنظر أن السفينة المستأجرة كانت أصلاً متهالكة كما ذكر القبطان الذي رفض تحميل شحنة معدات طرق كما قيل له في بيروت نتيجة لعدم قدرة السفينة على التحمل، وهو ما يذكرنا بمراكب تهريب اللاجئين التي يتم استخدامها لمرة أخيرة لتبقى طافية لفترة محدودة وذلك لتجنب خسارة سفينة قادرة على العمل، حيث يعرف أصحاب الشحنة سلفاً المخطط المرسوم ومصير السفينة المتهالكة في الرحلة الأخيرة لها.· ملحوظة مضحكة هنا (بناء على تصريحات القبطان): السفينة ذهبت إلى ميناء بيروت نتيجة أوامر إضافية طارئة جاءتها بعد توقف غير مبرر في اليونان لمدة شهر، أوامر بالتوقف في ميناء بيروت لتحميل معدات ثقيلة لشق الطرق، وكأن لبنان يصنع هذه المعدات أو حتى يستوردها جديدة، فمن المعروف أن لبنان كباقي بلدان العالم الثالث تستورد غالباً معدات مستعملة أصلاً في هذه المجالات.· قد يكون الانفجار ناجماً عن خطأ بشري أو انفجار مفرقعات نارية بجوارها مثلت الانفجار الأول، وقد يكون نتيجة تفجير إسرائيلي وفي هذه الحالة لن يعترف بالعملية وكل لأسبابه؛ لا إسرائيل التي لم تقدر حجم العملية ولا حزب نصر الله لعدم فتح القضية وربط نفسه بالشحنة.ثانياً، ومن كل ما سبق من معلومات مؤكدة متقاطعة، نستنتج ما يلي:· من المشكوك فيه بشدة أن الشحنة كانت متوجهة لموزامبيق بل إن الأمر كان يتعلق بعملية تهريب مخطط لها لهذه المتفجرات والتي كان المخطط ينص على مصادرتها في لبنان مع السفينة في فيلم هوليودي ضحيته القبطان والطاقم الذين احتجزوا لعشرة أشهر.· الانفجار نجم عن بضع مئات من الأطنان من مادة نترات الأمونيا قُدِّرَتْ بـ 600 طن كما أشارت التقارير، وليس 2750 طن وهي الكمية التي كان من المفترض تواجدها في المستودع والتي تشير التقديرات أن انفجارها بهذه الكمية لو كانت موجودة كان سيزيل نصف بيروت من الخريطة.· كان حزب نصر الله والنظام الأسدي يستخدمون مستودع الميناء كمكان بديل عن مستودعاتهم التي قد تقصفها إسرائيل إن خرجت البضاعة المصادرة من الميناء نتيجة بيعها بالمزاد العلني لشخص من قبلهم، ومن ثم كان أمن حزب نصر الله وعلى مدى ست سنوات (2014-2020) يُخرج المادة من الميناء عبر ممره الخاص دون مستند قانوني لكن بكميات صغيرة لا تلفت النظر لتذهب إلى معامل تجميع سلاحه الذي يقتل به السوريين، لكن لتذهب أيضاً وبشكل رئيسي للنظام الأسدي ليستخدمها في براميله المتفجرة لقتل السوريين أيضاً، لتتناقص نتيجة ذلك كمية نترات الأمونيا المصادرة الموجودة في مستودع الميناء من 2750 طن عام 2014، إلى 600 طن (وربما أقل من ذلك بكثير) عام 2020، وهي الكمية التي انفجرت في ميناء بيروت لأن انفجار كامل الكمية لو وجدت كان ليزيل نصف بيروت من الخريطة، لينال اللبنانيون الأبرياء نصيبهم من الكارثة دفعةً واحدةً.· باقي الكمية أي 2150 طن من نترات الأمونيا التي تم تهريبها كانت بشكل رئيسي من نصيب السوريين وفي مختلف المناطق السورية حيث حصلوا بسببها ومن خلال النظام الأسدي وحزب نصر الله على النصيب الأكبر من الكمية وبالتالي الموت والدمار لكن تقسيطاً على مدى ست سنوات خلت.ثالثاً، وكخلاصة:تجري محاولات خبيثة هائلة لحرف الأنظار في تفجير مرفأ بيروت عن النقاط الرئيسية المتمثلة بهدف ووجهة الشحنة الحقيقية وملابسات مصادرتها وتخزينها ومن ثم كيفية التصرف بها وتهريبها واستخدامها قبل التفجير وأخيراً كيفية انفجارها الذي هو ربما أصغر النقاط في هذا الملف، لتتجه الأنظار إلى وجهة مضللة متمثلة بحصر القضية بشروط تخزين المادة المصادرة التي ستقود إلى اتهام بضعة أفراد بالتقصير الذي أدى للتفجير، وربطها بفساد “اعتيادي” وأفراد خلفه غطوا على هذا التقصير، ليتم تضييع وتفجير الحقيقة في خضم انفجار المرفأ، ونتيجة كل ذلك يمكن فهم سبب رفض أي جهة مرتبطة بحزب نصر الله وعون وكل حلفائهما في الخارج أي تحقيق دولي في ما جرى.
فواز تللو – مركز آفاق مشرقيةبرلين /ألمانيا – 08.08.2020