لونا وطفة / المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية
بتاريخ الثامن من شهر أيلول/سبتمبر، حضر مُدَّعٍ بالحق المدني لا زال يعاني من آثار نفسية نتيجة اعتقاله كما أخبرت محاميته هيئة القضاة، ولم تقم الشرطة الجنائية الاتحادية باستجوابه سابقاً، وبذلك يكون أول شاهد يأتي إلى المحكمة وليس لدى أطراف الدعوى فكرة عمَّا مرَّ به الشاهد في تجربة الاعتقال.
بعد أن سألته هيئة القضاة عمَّا حدث معه وطلبت منه أن يروي لهم كل شيء بالتفصيل، بدأ الشاهد بقوله: “في البداية أريد أن أشكر المحكمة وكل من ساعد في قيامها.
نحن في سوريا قمنا بثورة ضد النظام السوري وكان أحد أهم الأسباب لذلك ، رغبتنا أن نحصل على نظام قضائي عادل، حيث يكون للمرء كمتهم الحق بالكلام أو الصمت دون أي إكراه، لذا لكم مني جزيل الشكر”. بعد هذه المقدمة، بدأ الشاهد بإخبار هيئة القضاة عن تجربته مع الاعتقال، وقال لهم أنه عَمِل في مجال الصحة النفسية في سوريا، ذات يوم زاره أحد المرضى في مكان عمله وكان ذلك بتاريخ 26.09.2011، بعد دقائق اتصل أحدهم بهذا المريض وهو عند الشاهد، بعد برهة من ذاك الاتصال دخل أشخاصٌ باللباس المدني ووضعوا مسدساً في وجهه ومن ثم ألقوا القبض عليه.
أخذوه إلى سيارة كبيرة وغطوا وجهه كما العادة بقميصه. قال الشاهد أنه كان في حالة صدمة نتيجة ما جرى ولم يعلم في البداية إلى أين تم اقتياده. في فرع الأمن وضع الشاهد في زنزانة جماعية تضم العشرات من المعتقلين، بقي لمدة لا تتجاوز الربع ساعة ومن ثم نقلوه إلى زنزانة منفردة تحمل الرقم (1) كما يعتقد ، تواجد فيها معتقل آخر لديه الكثير من الإصابات.
حُقِّق مع الشاهد في أوقات مختلفة من الليل والنهار وسُئل عن نشاطه في الثورة، وعندما كان يُنكر، يقوم العناصر بوضعه أرضاً وضربه على قدميه “الفلقة”. “كلما رفضت أن أعطي معلومة كانوا يضربونني، إحدى المرات قال لي السجَّان: سأضربك عشرين مرة، وإن تأوهت أو صرخت أو سمعت لك حِسَّاً أثناء ذلك سأضربك أكثر” أضاف الشاهد واصفاً طريقة تعذيبهم له.بالإضافة لتعرض الشاهد للتعذيب أثناء التحقيق معه، شهدَ تعذيب بعض أصدقائه أمامه، اعتقلوا بعده على الأغلب كما قال، في محاولة من المحقق ليواجه أقوالهم ببعض.
بعد خمسة أيام، نُقل الشاهد إلى زنزانة منفردة أخرى قريبة من مكان نوم الحرس بقي فيها قرابة خمسة وعشرين يوماً. بعد ذلك نُقل لمنفردة ثالثة رقمها (2) كما يذكر وقضى فيها قرابة عشرة أيام. وضع الشاهد مخططاً لأماكن الزنزانات التي نُقِل بينها في قاعة المحكمة وتم إرفاق المخطط بملف الدعوى.
سُئل الشاهد عن محتوى الاستجواب الذي تعرض له في فرع الخطيب، فأجاب: ” كان التحقيق يتضمن أشياء غريبة. في إحدى المرات سألوني عن عمري وعندما أجبتهم قالوا: خلال كل هذه المدة هل آذاك أحد؟ هل آذاك أحد من الأمن أو الشرطة أي أحد آخر خلال سني عمرك؟ وعندما أجبتهم لا قالوا: إذن لماذا قمتم بثورة؟ وكأن عدم أذيتهم لنا هو فضلٌ ومِنَّةٌ من الدولة ، وهذا بالنسبة لي هو الفرق بين عقلية النظام وعقلية الأشخاص الذين طالبوا بالحرية والديموقراطية وإنشاء دولة تكون مهمتها رعاية المواطنين وليس فقط عدم إيذائهم! سيدي القاضي هذا يفسر ما يحدث الآن وربما من أجل هذا السؤال وهذه العقلية قمنا بثورة وسنستمر بها حتى نحقق أهدافنا.
في تحقيق آخر قال لي السجَّان: في آية من القرآن ورد فيها: عليها تسعة عشر )ويقصد الآية الثلاثين من سورة المدثر( وقصد هنا أن لجهنم تسعة عشر من الخزنة وهم موكلون بتعذيب الكفار والمجرمين، ثم قال لي: نحن لدينا تسعة عشر فرعاً أمنياً فماذا تظنون نفسكم فاعلين؟؟”.
وأضاف الشاهد: “هم لم يكتفوا بالتجرؤ على العباد، بل أيضاً على رب العباد”.خسر الشاهد عشرين كغ من وزنه خلال مدة اعتقاله، ووصف كل الظروف الصحية والعامة والنفسية هناك بما يتوافق مع شهادة الشهود قبله، وعن الوضع النفسي قال الشاهد: “في المنفردة حيث يبقى المعتقل كل وقته في الظلمة، كانت تراودني أفكار كثيرة، كأن اختلق مشكلة ما ليخرجوني ويعاقبوني فقط لأشعر بالحياة وأني لست وحيداً هناك، لقد فكرت أيضاً بالانتحار لأنهي مأساتي هناك، لم أكن أعلم ماذا يمكن أن يفعلوا بي أو كيف سينتهي هذا الاعتقال”.
نُقل الشاهد بعد فرع الخطيب إلى فرع إدارة المخابرات العامة وبقي هناك قرابة سبعة عشر يوماً تعرض فيها للتحقيق مرتين، بعد ذلك نُقل إلى القضاء العسكري وتم تحويله من هناك إلى سجن عسكري. قال الشاهد واصفاً دخوله إلى السجن العسكري: “منذ بداية الاعتقال لم نرَ أشكالنا أو كيف أصبحنا، في السجن العسكري رأينا أن هناك مرآة صغيرة على الحائط، عندما نظرت فيها لم أعرف إن كنت أنظر إلى نفسي أم إلى أحد زملائي المعتقلين، لم أتعرف على نفسي!!”.
بعد يوم واحد أرسل إلى القصر العدلي وقام القاضي بتوقيفه وإرساله إلى سجن عدرا رغم إنكاره لكل التهم الموجهة إليه وإخباره أنه اعترف بها تحت التعذيب. في عدرا بقي الشاهد خمسة عشر يوماً وأطلق سراحه بعدها.سُئل الشاهد عن وسائل تعذيب أخرى اختبرها بنفسه أو رآها على آخرين، فأجاب بأنهم عذبوه بالضرب على القدمين دائماً أو الضرب باليدين، وأحياناً من خلال التهديد بالأهل. أما عن الآخرين فقال أنه سمع مرة أنهم وضعوا حذاءً في فم أحدهم، وسمع عن التعذيب بالكهرباء.
وعن سؤال القضاة له إن كان قد رأى المتهم في فرع الخطيب أم لا، قال الشاهد أنه لم يرَ أحداً هناك لأنه كان معصوب العينين طيلة الوقت، ولكنه سيعرفه حتماً إن سمع صوته، ولكن بالطبع لم يكن المتهم ليعطي عينة صوتية لأنه رفض ذلك منذ بداية المحاكمة وهو حقٌ له كمتهم حسب القانون الألماني.
في نهاية الجلسة أوضحت محامية الشاهد أنه يرغب بقول شيء للقضاة خارج إطار شهادته وهو ما سمح به القضاة، فقال: “اعتقد أن الآثار النفسية التي تركتها هذه التجربة بي هي أحد الدوافع التي جعلتني آتي إلى المحكمة، كان لها تأثير كبير علي ،وكان الطبيب النفسي فرانكل الذي سُجن في معسكرات الاحتجاز النازية لمدة ثلاث سنوات حاضراً في ذهني على الدوام، لأنه أسهم إلى حد كبير بإيجاد العلاج بالمعنى بعد تجربة السجن.
بالنسبة لي اعتبر أن مشاركتي في هذه المحاكمة هو نوع من خلق المعنى لمعاناتي ومعاناة الآخرين الذين مروا بهذه التجربة الصعبة وأتمنى من الأشخاص الذين كانوا ضمن هذا الجهاز الأمني للنظام السوري أن يعرفوا الفرق بين أن تأخذ المعلومات بالمحكمة بطريقة آمنة وبين أن تأخذها تحت الضرب والتعذيب.
شكراً لكم”.بعد انتهاء الشاهد قام القضاة ببيان رأيهم فيما يتعلق بطلب محامي الدفاع استدعاء شاهد من تركيا وهو أيضاً منشق عن النظام ويعرف المتهم شخصياً، إذ رفض القضاة طلب استدعائه لأنهم لم يجدوا الأسباب التي قدمها محامي الدفاع لاستدعائه مقنعة، كما أن الدفاع تأخر كثيراً بتقديم طلبه لأن استدعاء شخص ما من تركيا يستغرق قرابة الثمانية أشهر لضرورة التواصل مع العاصمة أنقرة واستخراج فيزا للشاهد وما إلى ذلك من الإجراءات.
بعد ذلك قدَّم محاميا الادعاء بالحق المدني السيد باتريك كروكر وسيباستيان شارمر رداً على تصريح الادعاء العام حول عدم قبولهم لإضافة الإخفاء القسري إلى لائحة الاتهام ضد المتهم، وقال المحاميان في بيانهما أنهم كجهة ادعاء بالحق المدني وباسم الكثير من موكليهم من المدعين لا يرون تصريح الادعاء العام صالحاً لأن النظام ومنذ بداية الثورة تقصَّد إخفاء المعتقلين قسراً، وما يدل على ذلك أن كل الضحايا تقريباً تعرضوا للتعذيب في أماكن لا يعرفوها ومن أشخاص بأسماء وهمية، و لم يعرف الضحايا أيضاً أي معلومة عن مصيرهم أو ماذا سيحدث معهم، ولذلك لم يكن أحد منهم مقتنعاً أنه سينجو.
وأضاف المحاميان أن هذا التأكيد لم يأتِ فقط من موكليهم، وإنما أيضاً من الشهود الخبراء كالسادة مازن درويش، أنور البني وإنغلز بصفتهم خبراء، وأكد المحاميان في بيانهما أن عمل الأفرع الأمنية تغيَّر عما كان عليه قبل الثورة، إذ كان الاعتقال سابقاً لغاية سحب المعلومات من المعتقل، أما بعد الثورة فقد تحوَّل لوسيلة ضغط على الشعب ولهذا زادت عمليات الاعتقال التعسفية والإخفاء القسري، إلا أن كثيراً من المعتقلين لا يستطيعون تأكيد هذه المعلومة الآن، لأنهم ليسوا أحياء، أو لأنهم لا يزالون مختفين في فرع الخطيب.
ومن خلال بيانهم هذا طالب المحاميان باستدعاء السيد فضل عبد الغني بصفته مديراً للشبكة السورية لحقوق الانسان ليتحدث عمَّا قامت الشبكة بتوثيقه فيما يتعلق بجريمة الإخفاء القسري وتقديم أدلة إضافية في هذا الصدد، والسيدة مريم الحلاق بصفتها رئيسة مؤسسة عائلات قيصر ووالدة المعتقل أيهم غزُّول الذي اعتقل من قبل أجهزة الأمن السوري.
بحثت السيدة الحلاق كثيراً بشكل رسمي وغير رسمي عن ابنها، إلا أنها لم تعرف شيئاً عن مصيره حتى رأت صورة له ضمن ملف قيصر وقد استشهد تحت التعذيب.
شدَّد المحاميان على أن عدم إعلام أهالي المعتقلين بمصير أبنائهم هو أمر شائعٌ في سوريا ولذلك تبقى الوسائل المتاحة لمعرفة شيء عن مصيرهم، إما رؤية صورة المعتقل في ملف قيصر بعد أن يُقتل تحت التعذيب، أو يبقى مصيره مجهولاً وبذلك يبقى مُختفٍ قسرياً