عقيل حسين -المدن
لم يكن توقيع مذكرة التفاهم السياسية بين الإدارة الذاتية الكردية و”منصة موسكو” المعارضة “استجابة لما أملته الظروف الموضوعية” كما وصفها رئيس المنصة قدري جميل، بل تتويجاً لعلاقة يمكن وصفها بالعضوية بين جميل وحزب “العمال الكردستاني” الذي يُعتبر القائد الفعلي للإدارة التي تسيطر على أجزاء واسعة من شمال شرقي سوريا، الطرفين اللذين تجمع بينهما روابط أعمق فعلياً من الأيديولوجيا الماركسية اللينينية التي يرفع كل منهما شعاراتها.لكن التدقيق في تصريحات جميل التي أعقبت توقيع هذه المذكرة الاثنين هو أن “العاصمة الروسية مناسبة للطرفين، وأن الجانب الروسي أبدى ارتياحه للاتفاق ووعد بدعمه”، وهو أمر متوقع بالنظر إلى العلاقة التاريخية التي تجمع الأطراف الثلاثة منذ انتقال عبدالله أوجلان مؤسس الحزب الكردستاني إلى دمشق في ثمانينات القرن الماضي، وافتتاحه معسكرات لمقاتليه في سوريا ولبنان، حيث أوكل النظام السوري لعدد من الشخصيات الكردية مهمة الترتيب معه. كان كل من رجل الأعمال مروان زركي الشهير ب”الآغا”، رئيس حزب التجمع الديموقراطي الكردي في سوريا، وقدري جميل من المشرفين على مجلة سياسية تصدر من قلب دمشق حملت اسم “أوج” تيمناً باسم عبدالله أوجلان، بعد طرده من سوريا. إلا أن هذه المهمة لم تكن سوى واجهة إعلامية لعلاقة سياسية واقتصادية قديمة ستكون واسعة في ما بعد، بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا، التي لم تصنف حزب أوجلان على لوائح المنظمات الإرهابية.ولد قدري جميل في الدرباسية بريف الحسكة عام 1952، وكان والده الكردي المهجر من تركيا، والرجل الاقطاعي الثري جميل باشا، على ارتباط وثيق بالأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش، حيث تكفل بإدارة واستثمار أموال بكداش والحزب الذي يقوده، ليحقق الطرفان مكاسب ضخمة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم.علاقة تم توطيدها لاحقاً بمصاهرة بين العائلتين مطلع الثمانينيات، حيث تزوج قدري ابن جميل باشا الكردي، الذي حصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد عام 1984 من جامعة موسكو، بالدكتورة سلام خالد بكداش، ما عزز مكانة قدري جميل داخل الحزب الشيوعي الذي كان قد انتسب إليه عام 1966، وتم تعيينه كرئيس تحرير لصحيفته “نضال الشعب” منذ العام 1991 وحتى أيلول/سبتمبر من العام 2000 تاريخ خروجه من الحزب.بسبب طموحاته الواضحة في خلافة والدها برئاسة الحزب، انفصلت ابنة بكداش عن زوجها قاطعة بذلك الطريق أمامه لصالح والدتها وصال بكداش، ومن بعدها ابنها عمار، لكن ذلك لم يثنِ جميل عن مواصلة صعوده في عالم السياسة والمال.وبعد وفاة والده، أسس قدري جميل شركات واستثمارات بالتعاون مع كبار ضباط المخابرات في النظام السوري، كما استفاد بشكل كبير من توظيف وإدارة أموال حزب العمال الكردستاني في مشاريع استثمارية وفّرت له مبالغ كبيرة جعلته قادراً على إطلاق مشروع سياسي شيوعي جديد في سوريا، يقوم على تجميع المنشقين عن أسرة بكداش.وفي تشرين الأول/أكتوبر عام 2002 أسس قدري جميل تجمّعاً أطلق عليه اسم “اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين” وهو الأمر الذي يرى الكاتب السوري المعارض ابراهيم الجبين أنه “جرى بالتنسيق مع أجهزة المخابرات السورية، التي شجعت توجّهاته التي تصبّ في صلب مصلحة النظام الساعي إلى المزيد من التفكيك في كل التكتلات والتجمعات السياسية، كما سمحت مخابرات النظام لقدري جميل بإصدار وطباعة جريدته قاسيون دون ترخيص رسمي، وأصبح أباً جديداً لكثير من الشباب والمتقاعدين اليساريين الذين بعثرتهم يد الأسد الأب وتمزّق الحزب الشيوعي وانشقاقاته”.ويضيف الجبين في حديث ل”المدن”، أنه “قبل ذلك كان النشاط الاقتصادي لقدري جميل لا يزال فعالاً في الخلفية المعتمة، فدخلت أعماله في شراكة مع منتجي الأقمار الصناعية في روسيا، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وبعده، وكان له القدرة على أن يكون رجل المخابرات السوفييتية بجدارة في سوريا والإقليم، ما سهّل له في ما بعد فتح العلاقات مع الحلقات التي نتجت عن انهيار مؤسسات الاتحاد السوفييتي والتي سيطرت عليها المافيا الروسية، فكان تلاقي مصالح حزب العمال الكردستاني، مع قدري جميل بالإضافة إلى كبار ضباط مخابرات النظام”.لكن كل ذلك لم يمنح قدري جميل خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثالثة أي دور سياسي مهم داخل نظام الأسد، الذي اكتفى بتعيينه أستاذاً محاضراً في معهد التنمية الاقتصادية الاجتماعية في دمشق. ورغم إقالته من المعهد منتصف العقد الماضي، إلا أنه حافظ على دعمه للنظام حتى بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011.فمع اندفاع الناس إلى شوارع سوريا مطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية التي لطالما نظّر لها قدري جميل، سارع الأخير إلى تأسيس “حزب الجبهة الشعبية”، قبل أن يعقد تحالفاً مع علي حيدر، القومي السوري الاجتماعي، ومعاً أسس الطرفان حزب “الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير”، وشاركا في صياغة دستور عام 2012، وفي العام نفسه دخلت “الجبهة الشعبية” الانتخابات البرلمانية ليصل قدري جميل وللمرة الأولى إلى مجلس الشعب.ونظراً لحاجة النظام إلى تطعيم حكومته ب”معارضين” يوهم من خلالها باستجابته لمطالب “التغيير والإصلاح”، فقد كان قدري جميل مع علي حيدر الخيار الأمثل، حيث حصل كل منهما على منصب في الحكومة ذلك العام، وتم تعيين جميل وزيراً للتجارة الداخلية، ثم نائباً لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وفي عهده بدأت الليرة السورية مسيرتها السريعة نحو التدهور، وشهدت الأسعار ارتفاعات متتالية، لكن الأخطر أن البلاد شهدت في تلك الفترة مجاعات لم يسبق أن عرفتها. أمام أعين قدري جميل فرض النظام سياسات الحصار والتجويع ضد العديد من المدن والبلدات الثائرة، “ولعلّها إحدى نتائج الإيمان بالمالتوسية الجديدة التي يحملها عقل قدري جميل” كما يقول إبراهيم الجبين.ويضيف الكاتب السوري “يؤمن جميل بالمالتوسية الجديدة، والتي تقول بأن العالم اتفق على المليار الذهبي وعليه أن يتخلّص من عبء المليارات الأخرى من الشعوب التي تعاني الفقر والأزمات، لذا يجب الحد من عدد السكان بتحديد النسل، إلى جانب الحروب والمجاعات والأمراض المعدية، وغيرها من العوامل التي تحد من الزيادة الطبيعية للسكان”.في تشرين الأول/اوكتوبر 2013 أقيل قدري جميل من منصبه في الحكومة بعد انتقاله إلى موسكو الذي ظل يقيم فيها منذ ذلك الوقت، وبينما اعتقد الكثيرون أنه فرّ إلى العاصمة الروسية هرباً من النظام، كشفت التطورات والسنوات اللاحقة عن دور استثنائي لقدري جميل أوكلته إليه روسيا في تعاملها مع المعارضة السورية، فيما بدا أنه تتويج لعلاقة غير عادية بالفعل.وأسس قدري جميل في مقر إقامته الجديد “منصة موسكو” التي تمكن وبدعم روسي من أن يحوز لها على تمثيل داخل هيئة التفاوض السورية المعارضة، وكذلك اللجنة الدستورية السورية، وهو تمثيل وإن كان محدوداً، لكن الواضح أنه كان قاعدة قابلة للتوسع والتوظيف بشكل ذكي.ولعل توقيع مذكرة التفاهم بين منصة موسكو والإدارة الذاتية الكردية أخيراً يعتبر أبرز تجليات ما سبق، حيث كشف قدري جميل في تصريحات له يوم الثلاثاء عن أن هذه الإدارة التي رفضت المعارضة مشاركتها في هيئة المفاوضات أو اللجنة الدستورية، هي عملياً ممثلة في هاتين المؤسستين باعتبارها (الإدارة الذاتية) جزء من منصة موسكو التي يقودها، وأن المذكرة الموقعة بين الجانبين هي تطوير للعلاقة بينهما وليس بداية لها.يرى الكثيرون في المعارضة السورية أن توقيع مذكرة التفاهم بين قدري جميل والجناح المقرب من حزب العمال الكردستاني في الإدرة الذاتية الكردية هو التجلّي الحتمي لعلاقة تاريخية تجمع الطرفين بالنظام وروسيا، وهي علاقة أكثر ما يثير الانتباه فيها أن المال والاستثمار هو الرابط المشترك بين قوى وأحزاب تتقاطع جميعها في رفع شعارات الاشتراكية.