يحتدم النقاش في الأوساط السورية والعربية حول قضية استخدام أنس مروة، ابن الناشط السياسي وعضو الائتلاف السوري هشام مروة، لبرج خليفة للإعلان عن جنس مولود مرتقب. الحوار الدائر مهم لأنه يشكل لحظة “تثقيفية” للسوريين والعرب الذين افتقدوا لعقود طويلة القدرة على الحوار حول السياسية والاقتصاد والثقافة والمسؤولية العامة والخاصة، وسلوك ناشطيهم وممثليهم وإعلامييهم. المشكلة كما يتم التعبير عنها في دوائر التواصل الاجتماعي تتعلق بمسؤولية المواطن السوري في سياق الصراع الدموي المستمر في سورية منذ سنوات طويلة، وعلاقة المواطن الذي ينتمي إلى صفوف معارضة نظام ثار السوريون عليه لانغماسه في الفساد والإسراف واستخدام الثروة الوطنية لتحقيق مصالح خاصة. انتماء أنس لأسرة يمثلها أحد الشخصيات التي ارتبط اسمها بجهود المعارضة لاستبدال نظام الاستبداد والفساد بنظام ديمقراطي يحارب الفساد هو محل الجدل القائم حاليا.
أنس سعى إلى توضيح ما جرى بنفيه أن يكون قد أسرف بالإنفاق من ماله الخاص على الإعلان من خلال صديق صحفي له، مبينا أن شركة إعمار الإماراتية هي التي انفقت على تكاليف الدعاية الإعلانية لأن في ذلك مصلحة تجارية لها في ذلك. أنس مروة يمتلك موقعا على منصة اليوتوب تشير التقارير الصحفية أنه واسع الانتشار، وبالتالي فإن استخدامه للدعاية لأنس ولشركة إعمار يعود بفائدة مالية على الطرفين. من هذا المنطق فقد رأى الصحفي بأن إنفاق إعمار مبلغ قدر ب ٩٥ ألف دولار يمكن أن يعود بربح مضاعف لها، كما أنه يروج للموقع الذي يديره أنس وزوجته، أمرا مبررا تجاريا.
الموضوع إذن مبرر تجاريا من وجه نظر صاحب المبادرة لأن صاحب الموقع لم ينفق مالا من جيبه، كما أن العمل الذي جرى لا يقع في دائرة استخدام المال العام، بل ضمن دائرة الصفقات التجارية. طبعا هذا الرأي يتجاهل السياق الصعب الذي يمر به الشعب السورية، والرمزية التي تحملها الصفقة التجارية التي تعود بفائدة مالية على الطرفين في سياق صراع سوري لا زالت تداعياته تتشكل على الساحة العربية والدولية. المشكلة وتداعياتها لا تتعلق بالحدث بل بظلاله العديدة، بما فيها الواقع المزري للسوريين في داخل البلاد والمخيمات في دول الجوار، وفي قدرة كثير من الناشطين السياسيين في الملف السوري على التعالي على الظروف الصعبة التي يعاني منها معظم السوريين.
على الرغم أن ليس ثمة مجال للمقارنة بين استخدام المسـؤولين السياسيين للنظام للمال العام للإنفاق على مشاريعهم وحياتهم الخاصة، أو توظيفهم الموقع السياسي لتحصيل فوائد للنخب الحاكمة في سورية ومن يلوذ بها، وأن الاستفادة من عرض تجاري يرتبط بعمل أنس لا بعمل أبيه، فإن المشهد يعيد إلى أذهان السوريين، والعرب الذين يعانوا أيضا من ظروف اجتماعية وسياسية مشابهة، إلى قدرة النخب السياسية السورية والعربية على التحرك خارج دائرة معاناة السوريين. السوريون يتوقعون أن يتحرك أصحاب الأعمال لحمايتهم ودعمهم والتماهي معهم، وهذا ما يجعل الكسب الوحيد الذي يبرر التفاوت المالي هو توظيف قسم من المال المكتسب في المصلحة العامة، وهو ما يسمى في الادبيات السياسية مسؤولية أصحاب الأعمال الاجتماعية.
ثمة بعد آخر يثير سؤالا أخلاقيا: ما هو المبرر لإنفاق آلاف الدولارات على إعلان عن جنس المولود؟ أعتقد أن السؤال مهم وأنا شخصيا استبعد أن يكونه السؤال قد عرض لأنس مروة عندما قرر قبول عرض شركة إعمار. من وجهة نظر تجارية العمل مبرر لأنه إنفاق على الدعاية بمبلغ كبير لكنه يجلب دخلا أكبر بكثير من المبلغ المستهلك. لكنه من وجه نظر دلالات الفعل الإنساني إشكالي. فمن ناحية تحديد جنس المولود يجب ألا يكون مهما في مجتمع يعطي المولود قيمة إنسانية متماثلة. ثم ارتباط تحديد جنس المولود بإنفاق لمبلغ مالي كبير يثير سؤالا أخلاقيا بغض النظر عمن دفع المبلغ. فالمبلغ قد دفع على أي حال، والسؤال هل مثل هذا العمل مبرر أخلاقي؟ أنا شخصيا لا أرى أي إمكانية لتبريره؟ ما قد يكون مبررا هو اعلان تفوق أحد السوريين الصغار المهجرين وحصوله على أعلى علامة في الامتحانات الثانوية أو الجامعية ثم الإعلان عن رصد جزء من الأرباح الناجمة عن هذا الإعلان أو غيره من الإعلانات لمساعدة اللاجئين السوريين، أو المتضررين اليمنيين، أو المنكوبين السودانيين من جراء فياضات النيل.
هذه لحظة “تثقيفية” بامتياز، وهي لحظة من لحظات كثيرة نمر بها اليوم ونمتلك جميعا الدخول حولها في حوار، للتعلم منها وتدارك أي أخطاء أو سوء تقدير حدث. الخروج إلى عالم الضوء من مملكة الظلام، وإلى عالم الكلام بعد العيش في مملكة الصمت لا يولد مباشرة الحكمة السياسية والاجتماعية المطلوبة للتعامل مع الظروف غير العادية التي يمر بها السوريون والعرب عموما. التبرير الذي قدمه أنس مروة ومن نطق نيابة عنه لا يكفي لتهدئة النفوس، وهشام مروة الذي أثار موقعه في صفوف المعارضة الجدل الدائر اليوم، أو على الأقل زاد من حدة اعتراض المعترضين، لم يتحدث إلى الاعلام ولم يصرح بشيء حتى الآن، وأرجو أن يفعل ذلك. فما هو متوقع من العاملين في الشأن العام يزيد عما نتوقعه من أصحاب النشاطات والشؤون الخاصة. ولعل حديثة بشفافية وصراحة حول الموضوع واتخاذه الفعل الموقف المناسب يساهم إيجابيا في تطوير قواعد العمل في الحياة العامة. هشام زميل عملنا معا قبل استقالتي عام ٢٠١٤ من الائتلاف، وأنا أعوده من هنا إلى فعل ما يقتضيه الواجب الوطني والمسؤولية السياسية.
الدكتور لؤي الصافي