شعبان عبود
منذ بدء الحراك أو الانتفاضة الشعبية في محافظة السويداء، وبخلاف أيام الجُمع حيث كانت تخرج في مناطق شمال غرب سوريا مظاهرات مؤيدة ومتعاطفة مع ذلك الحراك، لم يخرج يوم الجمعة الماضية سوى بضع عشرات من المتعاطفين في بلدة “حزانو” في محافظة أدلب! كان ذلك شيئًا لافتًا ومريباً.
الدكتور والصديق حمزة المصطفى مدير تلفزيون سوريا، ربما هو الوحيد الذي كتب منشورًا تناول فيه أسباب غياب المتظاهرين عن الساحات ، وما أشار إليه حين تحدث عن الأسباب يجب أن نأخذه بعين الاعتبار لأنه يستند على ما يبدو على معلومات بحكم وجود أكثر من 15 مراسلا للتلفزيون في الداخل السوري، ما يعني أنه كان يتحدث عن معرفة وعلم ومعلومات ولم يقل مجرد رأي. مما قاله عن تلك الأسباب: “وبعضها الآخر مرتبط بأسباب نخجل من ذكرها، وترتبط بتثبيط ضمني يقوم به، عن عمد أو بدونه، بعض خطباء المساجد في الشمال عبر مقاربة حراك السويداء من منظور متزمت دينيا، ونقاش إذا ما كان الدروز مسلمين أم لا، وهل رايتهم التي يرفعونها….. “الخربما هذا يقدم بعضا من الإجابة ، لكن ربما هناك ما هو أبعد بكثير من ذلك ، أقصد أن ما حصل من غياب للتظاهرات المتعاطفة لا يبدو أنه مجرد موقف متزمت لبعض رجال الدين وخطباء المساجد ، فهؤلاء جميعا كما نعلم يعملون تحت سلطة الأمر الواقع لهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقًا وتحت سلطة الحكومة المؤقتة المدعومة من تركيا .
وبناء عليه فإن السؤال الذي يفرض نفسه تلقائيا هو : هل هي فقط المواقف المتزمتة من تمنع فجأة غياب التظاهرات بشكل شبه نهائي ومرة واحدة أم كان هناك قراراً من قبل سلطات الأمر الواقع بالتوقف عن خروج الناس للتظاهر والتعاطف ؟
نقول ذلك لأننا نعلم جميعا أنه ، وكما في مناطق النظام، فلا يوجد في شمال غرب سوريا ما هو “تظاهرات عفوية” ، التظاهرات هناك تخرج بقرار، وتتوقف بقرار . حتى شعاراتها هي مقررة سلفًا . وهذا ما لا يعطيها في كثير من الأحيان أي قيمة سياسية .
لا نريد أن نذهب بعيدا في ذلك وعلينا ربما انتظار يوم الجمعة المقبل لنتأكد أكثر .من الواضح أن هناك في السويداء وشعارات المنتفضين والمتظاهرين ما لا يعجب سلطات الأمر الواقع في شمال غرب سوريا ، مثل حديث الشيخ حكمت الهجري عن “الدين لله والوطن للجميع ” و”علمانية” الدولة وغيره من الأمور ، هذا لا يعجب فقط سلطات الأمر الواقع بل الكثير من الإسلاميين المتشددين .
بصراحة ليس فقط الإسلاميين المتشددين بل جزءاً واسعا من السوريين الذين طرحوا تساؤلات ووجهوا انتقادات عن رفع ” راية الدروز ” وليس علم الثورة ، وبالمناسبة ، فإن هذه الانتقادات عن رفع الراية الخاصة بالموحدين الدروز كانت ذات الانتقادات التي وجهها الموالون للنظام،
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على قصور كبير عند السوريين في فهم بعضهم البعض ، ليس ذلك فحسب، كثير من السوريين ما زال متوقفا عند لحظة عام 1925 وسلطان الأطرش والثورة السورية ، لم يجروا أي عملية Update في عقولهم وثقافتهم لما جرى في سوريا منذ مرحلة ما بعد الاستقلال ، وخاصة الخمسين سنة الأخيرة من حكم حزب البعث وحافظ الأسد ثم وريثه .في الحقيقة تغير الزمن كثيرًا وتغيرت المفاهيم وتغيرت نظرتنا نحن لبعضنا البعض، النظام الذي انتهج سياسات تمييزية مدروسة بين الطوائف والمجتمعات السورية تقوم على البطش والتغييب لهذه الطائفة وعلى المكافأة والتشجيع لهذه الطائفة ودفع تلك إلى الواجهة والمشاركة في مراكز السلطة وتهميش تلك..
كل ذلك مع الوقت خلق “مجتمعات” سورية وخلق طوائف وتفكير طائفي وخلق نوع من الريبة بين كل المكونات المجتمعية السورية ، هنا ابتعدت المسألة الوطنية وغاب التفكير والوعي السياسي الوطني وحل محله مفاهيم وواقع جديد ، صرنا جراء سياسات التمييز والتفكيك التي انتهجها الأسد الأب والأبن مجرد ” شوايا ، دروز، سنة، مسيحيين ، أكراد ، علويين ، شوام، حلبيين، حمويين، حماصنة…” المعارك الصغيرة بين “الشوام” و”الحلبية ” وبين “الحموية والحماصنة” تقول لنا الكثير ، فما بالنا حين الحديث عن العلويين والسنة والدروز والمسيحيين والأكراد؟
كنا نعتقد أن الثورة السورية 2011 أتت لتصحح كل ذلك، لكن ما ظهر وثبت لاحقًا أننا ما زلنا بعيدين كل البعد ، النخب السورية لم تفعل شيئًا ، على العكس تمامًا فإن التفكك والتناحر في مؤسسات المعارضة السياسية السورية أظهر حجم الخراب والتفكك المجتمعي والسياسي .
ما مشكلة “الإسلاميين” مع راية الموحدين الدروز، هل يريدون من المتظاهرين رفع راية إسلامية “لا إله إلا الله ” و “قائدنا محمد” أو علم سوريا في فترة الاستقلال أو ما يطلق عليه “علم الثورة”؟ لماذا نطلب منهم ذلك رغم أنهم يرفعون ذات الشعارات الوطنية وتلك الداعية لإسقاط النظام ؟؟ ومن ناحية ثانية فإن دلالات رفع الراية الدرزية في ظل تظاهرات وشعارات وطنية لا يحمل أي دلالات دينية أو طائفية ،
الراية هنا مجرد تعبير عن الهوية والخصوصية المحلية ، ومن ناحية دينية فإن المذهب الدرزي هو مذهب غير تبشيري بعكس المذهبين السني والشيعي وبعكس المسيحية أيضا، الدروز لا يبشرون أحدا ولا يريدون أحدا أن يدخل المذهب ، وطالما أن المسألة كذلك فلماذا كل هذا التحفظ على رفع مجرد راية محلية ؟ هنا في الولايات المتحدة الاميركية لكل ولاية علمها ورايتها الخاصة وتُرفع إلى جانب العلم الأميركي ،
وهنا أيضا ومنذ أيام وصولي الأولى منذ نحو 16 عامًا ، لاحظت كيف أن المدارس والجامعات تشجع كثيرا الوافدين الجدد على إبراز الهويات القومية الخاصة من لباس ولغات وموسيقا وتقاليد ، الأميركيون يرون في ذلك إغناء كبير لأميركا وليس مجرد نزاعات انفصالية أو انعزالية شوفينية! من ناحية أخرى أيضا ، أنا شخصيًا لا يوجد عندي مشكلة أبدا مع الراية الدرزية ولا مع الدروز ولا مع العلويين ولا الأكراد أو المسيحيين، في سنوات الدراسة الجامعية ومنذ كنت شابًا ،
اكتشفت أن سوريا هي ليست فقط “بنش” وادلب التي خرجت منها، أكتشفت أن سوريا شيئا أكبر، شيئاً كبيرا وجميلًا ، وفي الجامعة كان أقرب أصدقائي هم من الدروز، والأكراد والعلويين ، وإذا كنت قد أحببت في صديقي الكردي نقاءه وبياض قلبه ، وإذا كنت قد أحببت في صديقي العلوي أصله وبساطته القروية التي تشبه أصلي وبساطة مجتمعي وأهلي، فإني أحببت في أصدقائي الدروز .. لهجتهم الجميلة، تلك الموسيقا التي ترافق الكلمات حينما يتحدثون ..لا تتركوا السويداء التي أعادت الحياة لثورة كادت أن تموت .. لا تتركوها وحيدة .