حسن النيفي
لعله لا يمكن الجزم حول المزامنة القائمة بين لقاء روما في 27 من الشهر الجاري، واستهداف طائرات التحالف لمواقع تابعة لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة البوكمال والميادين في الشرق الأقصى من سوريا، وأيّاً كان الأمر، وسواء أكان للمصادفة دور في تشابك الحادثتين أم لا، فإن تداعياتهما لا بدّ متداخلة، بل وربما يكمل بعضها الآخر.
فلئن كان مؤتمر (روما) مُسخراً بالأصل لتقييم الحرب التي شنها التحالف الدولي على تنظيم داعش، فإن هذه الأولوية لا تمنع من أن يتطرق المؤتمرون إلى قضايا أخرى، وفي عدادها الشأن السوري، وربما استدعى هذا الأمر دعوة أطراف دولية أخرى ذات نفوذ في الشأن السوري، لحضور المؤتمر.
وبعيداً عن التكهنات التي استبقت انعقاد المؤتمر، أو التي واكبته، يمكن التأكيد على أن ما تضمنه البيان الختامي للقاء روما، لم يخرج عما هو متوقع، ولم يكشف – كما ظن البعض – عن تفاهمات بينية – روسية أميركية – تنبىء عن اقتراب انفراجة قريبة في الاستعصاء السياسي في سوريا، بل يمكن التأكيد على أن إدارة بايدن ليس لديها ما تضيفه إلى ما خطّته إدارة ترامب، وقبله أوباما.
إذاً لقد حضرت القضية السورية ولكن ليس للنظر في جذر المشكلة السورية بل للبحث في تداعياتها الإنسانية، وهذا الإصرار الأميركي، ومن خلفه الأوروبي،
على عدم مقاربة المشكلة السورية من أبوابها الأكثر استعصاء، إنما يعكس موقفاً لا يمكن وصفه باللامبالاة فحسب، بل يجسّد الموقف الأميركي الرامي إلى بقاء الصراع في سوريا على ما هو عليه، دون إعطاء فرصة لأي طرف، بالإخلال بموازين القوى الراهنة، وهذا يعني ممانعة واشنطن لأي اجتياح تقوم به روسيا وقوات النظام لمدينة إدلب، بغض النظر عمن يوجد فيها، سواء أكان هيئة تحرير الشام أم سواها، كما يوجب ذلك أيضاً ضرورة عبور المساعدات الإنسانية من معبر باب الهوى إلى إدلب والشمال السوري عموما، لعل هذه الخطوة الأميركية الدفع، إنما تُعدّ دعماً رمزياً للدولة التركية أولاً، وكذلك إيحاءً رادعاً للروس من احتمال تعطيلهم لقرار يُفتَرض التصويت عليه في مجلس الأمن في العاشر من تموز المقبل، بخصوص استمرار عبور المساعدات الإنسانية من معبر باب الهوى التركي الحدودي.
إذاً لقد حضرت القضية السورية ولكن ليس للنظر في جذر المشكلة السورية بل للبحث في تداعياتها الإنسانية، وهذا الإصرار الأميركي، ومن خلفه الأوروبيغياب الأطراف السورية عن لقاء روما (المعارضة والنظام) لا يغيّر من الأمر شيئاً، ما دام المؤتمرون ما يزالون مشغولين بإدارة مصالحهم على الأرض السورية أولاً، وليس بمشكلة أو مصالح السوريين.
ذلك أن الحرص الأميركي على الحشد الدولي لمواجهة الفيتو الروسي المحتمل في اجتماع مجلس الأمن المقبل، إنما يأتي استباقاً لمسعى موسكو التي تريد للمساعدات الإنسانية الدخول إلى سوريا عبر قنوات النظام، ليكون هو المستفيد الأول منها، بل ربما كان نظام الأسد هو أحوج ما يكون إلى تلك المساعدات، خاصة حيال التردّي الاقتصادي الكارثي الذي يواجهه الأسد، وهذ ما سيتيح لنظام دمشق – وفقا لما يريده الروس – إيجاد خروقات يمكن أن تتسع شيئاً فشيئاً للحصار، نتيجة العقوبات المفروضة عليه، بينما لا ترغب الإدارة الأميركية بإحداث أي تخفيف للعقوبات، بل تدفع إلى استمرار حالة الحصار، من خلال تحذيراتها المتكررة للدول العربية التي تحاول فتح قنوات، أو إعادة علاقاتها مع نظام الأسد.
لقد شُغِل الحيّز الأكبر من لقاء روما للبحث في مواجهات محتملة قادمة مع تنظيم داعش، سواء في سوريا والعراق، أو احتمالات ظهوره في مناطق ودول أفريقية أخرى، وتزامناً مع هذا الهمّ الأميركي المطروح بقوة في المؤتمر، كانت طائرات التحالف تقصف ثلاثة مواقع لميليشيات الحشد الشعبي التابعة لإيران، موقعَين منها داخل الأراضي السورية، وموقعاً ثالثاً داخل الأراضي العراقية، ما أسفر عن مقتل ثلاثة عشر عنصراً وإصابة العشرات من اللواء (14- كتائب سيد الشهداء ) واللواء (24 – كتائب حزب الله ) المدعومين من فيلق القدس الإيراني، بينما قامت ميليشيا الحشد على إثر ذلك، باستهداف مواقع أميركية في حقل العمر النفطي.
ثمة تصريحات أميركية مزامنة لقصف مواقع الحشد الشعبي تؤكّد أن الإدارة الأميركية بحوزتها معلومات وتقارير كافية تؤكد على أن وكلاء إيران في العراق وسوريا قد اعتمدوا خططاً مستقبلية لاستهداف القوات الأميركية في سوريا والعراق معاً، كما تفيد تلك المعلومات – وفقاً للتصريحات الأميركية – بأن استهداف ميليشيا الحشد الشعبي للقنصلية الأميركية في كردستان العراق في السادس والعشرين من حزيران الماضي، إنما يأتي في سياق تلك الحرب غير المباشرة التي يعلنها وكلاء إيران على المواقع الأميركية في المنطقة.
ووفقاً لذلك فإن الاستهداف الأميركي لأذرع إيران في شرقي سوريا يمكن أن يكون تدشيناً لمواجهات جديدة، وربما مستمرة، بل ربما تكون تلك المواجهات استمراراً للحرب على الإرهاب – وفقاً للتوجه الأميركي- الأمر الذي يجعل الحضور الأميركي في سوريا مرتبطاً – من الناحية الوظيفية – بالصراع مع إيران، وبعيداً عن ملامسة القضية السورية في عمقها الحقيقي، تماماً كما كان في السابق مرتبطاً بالحرب على تنظيم داعش.
بعيداً عن التقييمات الجارية لفحوى الاستراتيجية الأميركية في مواجهة إيران، وكذلك بعيداً عن التشكيك في جدوى تلك المواجهات، إلّا أن المعطيات الواضحة تؤكّد أن واشنطن بإدارتها الجديدة، ما تزال تحتفظ بانكفائها عن الملف السوري، وما جاء في بيان روما الختامي على لسان الوزير أنطوني بلينكن، أي الدعوة إلى تجميد الصراع وضرورة المصالحة والبناء وإيجاد حل سياسي وفقاً للقرار 2254 ، فهو في جوهره لا يعدو موقفاً عاما اقتضاه سياق المناسبة، ولا ينبثق عن خطة أو مسعى أميركي جدي للانخراط في حل للقضية السورية، بل ربما بات التعاطي مع القرار 2254 ، كالتعاطي مع القرار 242 الخاص بالقضية الفلسطينية.
استمرار النأي الأميركي عن الشأن السوري، مع استمرار الانفراد الروسي، لا شك أنه أمر مُحبِط لكثير من السوريين، وخاصة في ضوء ما استطاع الروس أن يحققوه من التفاف على القرارات الأممية، بل وحرْف مسار المفاوضات واستثمارها بما يخدم توجهات نظام الأسد وحلفائه، مما دفع الكثيرين للتطلع والبحث عن مساع أخرى، من شأنها التأثير في الموقف الأميركي، بغيةَ عدوله عن نأيه السابق، ولعل هذا المسعى يحظى بكامل المشروعية، ولا غضاضة في ذلك، إلّا أن السؤال الأهم الذي يمكن أن يواجه السوريين أنفسهم هو التالي: مطالبة الأطراف الدولية بمبادرات جديدة لإحياء القضية السورية، ألا تستدعي – وجوباً – مبادرات جديدة من أصحاب القضية أنفسهم؟ وهل استمرار الرهان على توافق المصالح الدولية بات الشكل الأمثل للعمل من أجل وضع حدّ لمأساة السوريين؟
فما الذي سيخسره السوريون لو أن أصحاب القرار في المعارضة السورية قاموا بتقييم جديد لمسار المفاوضات، وأعلنوا عن موقف يؤكدون فيه رفضهم للمسار العبثي لمفاوضات اللجنة الدستورية؟ وما هي المكاسب التي حققها مفاوضو المعارضة ويخشون خسرانها إن هم ربطوا استمرارهم بالمفاوضات بوجود سقف زمني محدد، وعدم الاستمرار إلى ما لا نهاية بالاستماع إلى خطب وفود نظام الأسد حول الثوابت الوطنية المزعومة؟ ثم هل سيخسر مفاوضو المعارضة مكسباً قد حققوه لو أنهم أصروا على أن يتزامن التفاوض حول كتابة الدستور مع البحث في ملف المعتقلين والمغيبين في سجون النظام؟ ليس بالضرورة أن تكون هذه الأمثلة هي الوحيدة أو مقصودة بذاتها، بقدر ما تبدو دعوة إلى الخروج من حالة استمراء الاكتفاء بالتفرّج واستملاح الخدر الوظيفي لدى من هم في حكم أصحاب القرار في المعارضة السورية.