حسن النيفي موقع تلفزيون سوريا:7/1/2022
ربما انطوى عنوان هذه المقالة على إشكالية ما، إذ ثمة من يعترض بالقول: هل ما تزال ثمة ثورة في سوريا؟ ولا شك أن أصحاب هذا الموقف هم في تكاثر وتمدّد، ولكن ربما اختلف التعبير عن هذا الموقف، إذ ثمة من يمضي بهذا الاتجاه أشواطاً بعيدة تصل إلى حدّ التبرؤ الكامل مما جرى خلال عشر سنوات، ولتعزيز هذا التبرؤ يلجأ إلى تغيير كثير من المصطلحات والتسميات ذات الصلة بما جرى ويجري من أحداث، فيتم استبدال (الحرب القائمة في سوريا أو النزاع أو الأزمة وما إلى ذلك) بمصطلح (الثورة).
وبناء على ذلك ينطلق هؤلاء المتبرؤون من رؤية جديدة تنظر إلى جميع أطراف الصراع على أنهم متساوون في تقاسم الوزر السوري وذلك من خلال نزعة تسعى إلى تغييب الجذر الحقيقي للقضية السورية، باعتبار أن مآلات الخراب هي من مسؤولية الجميع.وثمة طرف آخر يشاطر الطرف الأول نزوعه نحو التبرؤ لكن بطريقة ربما بدت أكثر انتقائية، إذ ربما اعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن ما بقي من الثورة هو تصوراتهم وأفكارهم المستمدّة من يقينياتهم الإيديولوجية فحسب، فما تماهى مع هذه المسبقات من وقائع وممارسات فهو ضمن حيّز الثورة، وما وقع خارجها فهم منه براء.
ولعل ما يجمع بين أصحاب الموقفين السابقين عدّة مشتركات لا تنبثق من حالة تماثلية عرضية بقدر ما هي ذات صلة بطرائق التفكير وتداخل الإيديولوجيا، إذ كلا الطرفين يحاول التموضع فيما يعتقد أنه مكان النخبة، تلك النخبة التي غالباً ما كان خطابها يتسم بالاستعلاء والفوقية على الجمهور العام، وانطلاقاً من هذه النخبوية المُفترضة ينزع كلا الطرفين إلى حصر عوامل إخفاقاتهم وفشلهم إلى العوام من الناس، باعتبار أن مستوى الوعي العام لدى المجتمع السوري لم يكن مؤهلاً للتفاعل والاستجابة لتصوراتهم وأفكارهم.
ولا ريب بأن هذين الاتجاهين ليسا معنيين، بل ليس من صلب اهتمامهما وأولوياتهما التفكير بضرورة وجود حسم سياسي أو كيان قيادي لثورة السوريين، باعتبار أن هذه الثورة لم تعد موجودة بالأصل.
ولكن في موازاة الموقف السابق، ثمة قطاع واسع أو جمهور عام من السوريين ما يزال يحرص على تماهيه المطلق مع ما يعتقده أنه (ثورة)، وإذ لا ينكر هذا الجمهور أن ثورته قد مُنيت بالمزيد من الإخفاقات التي بلغت درجة الكوارث، وكذلك لا ينكر أن قضيته بلغت درجة بالغة من التعقيد الذي يبعث على الضياع والإحباط، إلّا أنهم في الوقت ذاته، يؤكّدون على أن كل ما جرى ويجري هو جزء من المواجهة الكبرى والطويلة مع نظام الاستبداد وحلفائه المحليين والدوليين.
كذلك يعتقد هؤلاء أن شراسة المواجهة مع الخصم، والتداعيات المأسوية الناتجة عنها هي ما ينبغي أن يعزز قناعتهم بعدالة قضيتهم وبمشروعية نضالهم واستمراريته إلى النهاية، ربما كان أصحاب هذا الاتجاه هم أكثر تفكيراً واهتماماً وشعوراً بالحاجة إلى كيان قيادي يمثلهم، ويحرص على أن تكون سياساته وسلوكياته منبثقةً من تطلعاتهم ومصلحة قضيتهم، بل ربما غدا هذا الأمر إحدى أولوياتهم الراهنة، فما الذي حالَ، وما يزال يحول دون تحقيق هذه الأولوية؟لا حاجة للتكرار بأن ما يدعى (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) هو الكيان السياسي السيادي الذي يدّعي تمثيل ثورة السوريين، وكذلك لا حاجة – أيضاً – لتكرار الحديث عما اعترى كيان الائتلاف من عوامل الشلل والعطب التي لا تنحصر بمظاهر وأعراض سلوكه فحسب، بل تمتد إلى بنيته وسياقات نشأته أيضاً، فضلاً عن سيرورة عمله التي أكّدت على مدى سنوات خلت، أن أداءه لم يتجاوز في الغالب الأدوار الوظيفية الموكلة إليه من جانب الأوصياء الخارجيين.
ولعل كل ما قيل ويقال عن الائتلاف وخلله وعطبه وأدواره غير المنسجمة مع إرادات جمهور الثورة، بات أمراً لا ينكره العديد من أعضاء الائتلاف ذاته، ولكن السؤال الذي يطفو على أذهان كثيرين، هو لماذا لم يتمكن هذا الجمهور ذاته (أحزاب وتيارات وأفراد وشخصيات وطنية ومنظمات مجتمع مدني ….إلخ)، سواء أكانوا في الداخل السوري أو في المخيمات أو بلدان اللجوء ووو..، لماذا لم يتمكن هؤلاء حتى الآن من تشكيل كيان بديل عما فُرض عليهم؟ وذلك على الرغم من المحاولات العديدة التي بادرت بها بعض القوى السياسية التي تداعت أكثر من مرة وعقدت لقاءات عديدة على مدى سنوات، إلّا أنها أخفقت في تحقيق ذلك.
وبعيداً عن الاستطراد في الحديث عن العوامل والأسباب التي تتعلق بطبيعة عمل تلك القوى ومنهجية عملها ومبعث إخفاقاتها الذاتية وتباين دوافعها، إلّا أنه يمكن الوقوف عند مسألة يكاد يتفق الجميع على موضوعيتها وعدم القدرة على تجاوزها حتى الوقت الراهن، وتتمثل تلك المسألة في كون الائتلاف هو الكيان الوحيد الذي حظي باعتراف سياسي دولي، وهو الكيان الوحيد الذي تتعاطى معه المنظمات والدوائر الأممية على أنه ممثل للمعارضة السورية، فضلاً عن الدعم الإقليمي الذي يتلقاه من الجهات التي تراه مطواعاً ومستجيباً لمصالحها بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن أي مواجهة مع الائتلاف لن تكون بعيدة عن مواجهة الأطراف الدولية التي تمنحه استمراريته وعوامل بقائه، وهذا ما لا تقوى عليه قوى الحراك الثوري بكل تشكيلاتها الراهنة.
اليوم، يعود الحديث مجدداً عن مسعى جديد نحو تغيير ما، قد يطرأ على الائتلاف – تنظيمياً وإدارياً وتمثيلياً – إلّا أن الجديد في هذا المسعى هو صدوره من داخل منظومة الائتلاف ذاته، أعني الدعوة التي أعلن عنها الرئيس الحالي للائتلاف عن عزمه عقد مؤتمر بالداخل السوري، بهدف إجراء إصلاحات لا تستثني نظامه الداخلي، وآليات وصيغ التمثيل فيه، وربما مسائل أخرى لم تتضح بعد، ولعل اللافت أن هذه المبادرة جاءت على أعقاب دعوة لانعقاد ندوة في الدوحة برعاية السيد رياض حجاب وبالتنسيق مع عدة مراكز بحوث، تهدف إلى البحث والتشاور حول تقييم أداء المعارضة وكياناتها السيادية والتنفيذية،
الأمر الذي يجعل كثيرين لا يتردّدون بالقول: إن الدعوة المستعجلة للإصلاح، والتي بادرت بها رئاسة الائتلاف، لن تكون أكثر من خطوة استباقية لما يمكن أن تفضي إليه ندوة الدوحة، أو هي من قبيل، فلنغيِّر قبل أن يُغيَّرنا الآخرون، حفاظاً على البساط قبل أن يُسحَب، بعضه أو كلّه، انزياحاً أو تمزيقاً.لعل كلا الدعوتين المشار إليهما (ندوة الدوحة، ودعوة رئاسة الائتلاف) لا تحفّزان على مزيد من التفكير أو الترقّب، على الأقل لدى الجمهور العام الذي يلحظ أن الأولى قد حرصت في أجندتها المعلنة على أن يكون مُنجزها المُنتَظر محكوماً بجهود من جرّبوا خبراتهم ومواهبهم في كيانات المعارضة المتعددة طوال السنوات الماضية، وبالتالي لن تتجاوز المخرجات عملية (تجريب المُجرَّب)، في حين يلحظ آخرون على مبادرة رئاسة الائتلاف كونها معالجة طارئة لخرق مزمن اتّسع على الراقع،
وهذا بالطبع ليس حكماً استباقياً على ما سوف تفضي إليه الدعوتان (الإصلاحيتان) وفقاً لأصحابهما، بل هو لا يعدو كونه استقراءً لانطباع طيف واسع من المنحازين لثورة السوريين الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن ثمة خطوة كان يمكن لها أن تحظى بالجدّية والمصداقية معاً، لو أنها تترجمت بإعلان الائتلاف عن استقالة جميع أعضائه ومحتوياته، وقيام الائتلاف نفسه بتشكيل لجنة تحضيرية بالتنسيق مع خبراء ومراكز بحوث وقوى وشخصيات ومنظمات… إلخ، بهدف إصلاح بنيوي لكيان الائتلاف لا يستثني سوى اعتباره السيادي الوطني، بعيداً عن أي وصاية خارجية، إلّا أنه يجب التأكيد على أن هذا الاعتقاد – من جانب موضوعي – يبقى مراوحاً بين الحلم والرغبة، ولكن ما الضير في ذلك، أليس الحلم الناصع أنقى وأنظف من الواقع الشنيع؟.