إبراهيم الجبين /نداء بوست
يعيدنا الزلزال المأساوي الذي ضرب تركيا وسورية، ولا زلنا نعيش حتى هذه اللحظة آثاره المدمرة وتداعيات هِزّاته الارتدادية التي بلغت المئات، إلى العام 2011 حين تفجّرت الثورة السورية على أيدي الشباب والشابات وكافة شرائح وفئات المجتمع السوري المسحوق.
وعندها رفض مثقفون إطلاق تعبير ”ثورة“ على تلك الهبّة الشعبية العظيمة، فيما قرر آخرون أن ينحتوا اصطلاح ”زلزال“، وهو وصف رفضناه لكونه يُحيل إلى ظاهرة تحدث دون تدخُّل من أحد، فجأة ومن دون مقدمات موضوعية أو تدخُّل إنساني.
والواقع أن ما جرى في سورية، أكثر جلاءً من أن يُحال إلى الظواهر المماثلة، فهو تطوُّر في وعي السوريين قادهم إلى إعلان رفضهم الديكتاتورية والعيش تحت أحذية مَن يُمثِّلها في وطنهم.لكن الزلزال الحقيقي جاء أخيراً وكان واقعياً أكثر منه مجازياً استعارياً كما أراد أولئك عن حُسن نية أو عن غير ذلك.
زُلزلت الأرض تحت أقدام الضحايا هذه المرة، وكانت قد زُلزلت ولا تزال في السنوات الماضية تحت أرجل الطغاة في المشرق كله.أما وقد وقع الزلزال على وَقْع الحديث عن مسار مصالحة تركية مع نظام الأسد، يمضي فوق كل ما فعله المجرم.
ليست المصالحة وَحْدَها هي ما يجدر التوقُّف عنده، وإنما تصاعُد الممارسات العنصرية في الفترة الأخيرة، والتنافس المحموم بين الأحزاب التركية حول مَن سوف يقوم بطرد أكبر عدد من السوريين من تركيا وإعادتهم إلى وطنهم كما تفعل حكومة لبنان.
مع مرور الوقت نسي كثيرون الكارثة التي حلت بالسوريين. وأخذوا ينظرون إليهم كعبء سكاني، رافعين شعار المصلحة الوطنية بغض النظر عما يدور في الدولة الجارة التي تجمعها أطول حدود مع تركيا، ويجمع الشعب التركي بها تاريخ حضاري مشترك.أتى الزلزال ليقول للشعبين: إن الحدود الرسمية ما هي إلا وَهْم. وإن رجفة في عمق الأرض، يمكنها أن تُوحّد الألم من جديد.
وعَلَتْ أصوات منكَرة لئيمة تشمت بالكارثة التي حلّت بالأتراك وبالسوريين في شمال غربي سورية، تريد الاستثمار في المأساة، لتقول: إن الإرهاب على حق، (إرهاب الأسد وPKK) وإن الزلزال عقوبة من السماء.
لا يَستخِفَنَّ أحد بتأثير مثل هذه الأحداث المأساوية على وعي الشعوب. تحك معادن البشر، وتظهر القيم وتوضح أين استقرت، في الحضيض أم هي في مقام رفيع.ووجدت بعض الأنظمة المهزوزة في الزلزال فرصة للإفصاح عما كانت تتكتم عليه طويلاً، وسارع قادتها للاتصال بالأسد والتضامن معه، على الرغم من أن كل ما فعله الزلزال حتى الآن لم يتجاوز نسبة مئوية ضئيلة مقارنة بما فعله الأسد بالسوريين من تدمير وتشريد وتمزيق للكيان والمجتمع وقصف بكافة الأسلحة المحرمة.
أتى زلزال تركيا وسورية ليُوقظ السوريين من ناحية أخرى، فقد طال بهم الأمد وهم ينتظرون الحلول من الآخرين، وتراخت قواهم عن المبادرة وألفوا الأوضاع المؤقتة حتى بدت كما لو أنها أبدية، وهي حال لم ينتفع منها سوى الأسد، وقلة قليلة من المستفيدين لا قيمة لهم ولا تأثير يُذكر في التاريخ.
أما المجتمع الدولي، فقد سارع إلى التعبير عن ضيقه بطول أمد ما سماها بالأزمة السورية التي تعيش عامها الثاني عشر، وفي الوقت ذاته واصل ممارساته النفاقية بإرسال المعونات إلى الأسد وأجهزته.
لم يحرّك الزلزال في نفوس هؤلاء ساكناً، ولم يجعل أخلاقياتهم تقترب -ولو قليلاً- من الحقيقة، وأن كل ما يفعلون هو تمويل القاتل، وتجويع الضحية وخنقها. فيرسلون المساعدات إلى اللصوص الذين يمنعون وصولها إلى المنكوبين، ويواصلون إغلاق المعابر بتفاهُمات دولية ظالمة.
أما ما تُعرف بالإدارة الذاتية الإرهابية التابعة لقسد، فتعرض في هذا الوقت تقديم المساعدات للمتضررين في شمال غرب سورية، بإرسال جزء من الثروات الوطنية السورية التي نهبها pkk وذيوله.
وهي حق للسوريين لا مِنّة فيه ولا كرم من أحد، وكان يجب أن تكون مُذلَّلة لخدمتهم قبل وبعد أن سلمها الأسد لعصابات إرهابية مختلفة المشارب والمذاهب تحاول اليوم استثمار كل لحظة ألم لتحويلها إلى مكسب يُشرِعن وجودها.
يقول الزلزال للأتراك والسوريين: إن مأساتكم واحدة وازدهاركم واحد، وهو درس أول في نطاق قريب، سرعان ما سيصل إلى بقية شعوب المنطقة التي لاذت بحدودها الضيقة مُفضِّلة الالتفات إلى شؤونها الداخلية وكأنها تعيش في كواكب معزولة.
لم تظهر الهِزّات الارتدادية الحقيقية لزلزال تركيا وسورية بعدُ، ولن يكون المنكوبون اليوم بسببه إلا قاطفين لثمارها إنْ عاجلاً أو آجِلاً، فلم يَعُدْ لديهم ما يخسرونه، بل إن ما سوف يكسبونه في القريب العاجل كبير، ولم يَعُدْ يتوقف حتى على حُسن استثمارهم للحدث أو إدارتهم للسياسات. فقد أخرجت الأرض بعد صبر طويل أثقالها، وآنَ أنْ يقول الإنسان: ما لها؟.ا