صالحة علام باحثة في الشؤون التركية
في محاولة جديدة تستهدفُ تجاوزَ الخلافات التي تعيق عودة العلاقات الإستراتيجية بينهما إلى سابق عهدها، جاءت زيارة كل من وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم كالين إلى العاصمة الأميركية واشنطن، وهي الزيارة التي استغرقت يومين تم خلالهما عقد اجتماعات مكثفة بين الجانبين.
ملفات متعدّدة للتعاون
ووَفق ما تم إعلانه في وسائل الإعلام التركية والأميركية، فقد بحث الجانبان ملفات متعددة، مثل التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، والحرب على غزة، والحرب الروسية – الأوكرانية، والتعاون في مجال الدفاع والطاقة، وتطوير العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بينهما.
إلا أن أهم الملفات تعقيدًا وأكثرها سخونة، والتي استغرقت جلّ اللقاءات بينهما فتمحورت حول الوضع في سوريا، ومعضلة دعم واشنطن اللامحدود وحدات حماية الشعب (قسد) وتأثيراته المباشرة على الأمن القومي التركي، بدا هذا واضحًا من الحضور المفاجئ لرئيس جهاز الاستخبارات التركي إلى واشنطن، الذي لم يتم الإعلان عنه من قبل، عكس زيارة وزير الخارجيّة التي جاءت بدعوة من نظيره الأميركي، وأُعلن عنها مسبقًا.
مظلة الآلية الإستراتيجيّة
الاجتماعات التركية – الأميركيّة جاءت على خلفية بوادر تحسن في العلاقات بينهما بعد تلبية أنقرة طلب واشنطن بالموافقة على عضوية السويد في حلف الناتو، والتي تلتها موافقة الكونغرس الأميركي على طلب إتمام صفقة بيع طائرات “إف – 16” لسلاح الجو التركي، وتحديث سرب طائرات “إف – 16″ الموجود لديه.
وجرت تحت مظلة ” الآلية الإستراتيجية” التي وضع أساسها كلٌّ من الرئيسين الأميركي والتركي في عام 2021؛ بهدف حل أي خلافات بينهما سواء تلك القائمة بالفعل أو التي يمكن أن تنشأ نتيجة الاختلاف في وجهات النظر، أو تباين المصالح بينهما.وبينما أعلنَ المسؤولون الأميركيون أنّ علاقات بلادهم مع قوات سوريا الديمقراطية، التي تتحفظ عليها تركيا، تأتي في إطار التحالف الدولي ضد الإرهاب، والقضاء على تنظيم الدولة (داعش)، شدَّد المسؤولان التركيان على ضرورة فك هذا الارتباط الذي يعد أحد أهم أسباب تراجع العلاقات التركية – الأميركية خلال العقد الأخير.
مع طرحهما آلية جديدة يمكن اعتمادها في التعاطي مع هذا الملفّ، وتكون نقطة ارتكاز لتوحيد وجهتَي نظر البلدين فيما يخص تطوراته، وتجنب القوات الأميركية في شمال شرق سوريا التعرّض لأي ضرر يمكن أن يصيبها خلال العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا لاجتثاث الإرهاب من المنطقة.
قلق حلفاء واشنطن
ورغم عدم إعلان أيّ من الطرفين عن النتائج التي رشحت عن هذه الزيارة، فإنه يمكن النظر إليها باعتبارها تطورًا مهمًا على طريق النهج الجديد الذي أصبح يميز علاقات البلدين، وتوقعات بإمكانية إحراز المزيد من التقدم على صعيد المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية، حتى ذهب تفاؤل البعض إلى التنبؤ بإمكانية قيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى البيت الأبيض خلال وجوده في واشنطن لحضور اجتماعات قمة الناتو المقررة في الفترة من 9 – 11 يوليو/ تموز المقبل، والتي ستعقد بالتزامن مع الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف.
التعاطي بهذا الكمّ من الإيجابية تجاه ما تشهده العلاقات الأميركية – التركية من تطور في وسائل الإعلام التركية، أثار حالة من القلق لدى حلفاء واشنطن من الأكراد، المنضوين تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومكونها الرئيس وحدات حماية الشعب، التي تعتبرها أنقرة فصيلًا تابعًا لحزب العمّال الكردستاني.
الذين يتابعون بدقة تطور المباحثات الثنائية بين البلدين، وما ستسفر عنه من نتائج، وانعكاساتها على علاقتهم بواشنطن، وعلى وجودهم في مناطق الشمال السوري، أبدوا تحفظهم على العديد من الخطوات التي تتخذها الإدارة الأميركية تجاه تحسين علاقاتها مع تركيا، وما تمثله من خطورة على وجودهم.
صمت أميركي مطبق
بدءًا من موافقة الكونغرس على صفقة الطائرات “إف – 16” المحدثة، ومرورًا باستمرار الحديث عن خُطة أميركية يتم مناقشتها في أروقة البيت الأبيض؛ لسحب الجنود الأميركيين البالغ عددهم 900 جندي من شرق سوريا، حيث يؤكد العديد من دوائر صنع القرار الأميركي قيام البنتاغون حاليًا بمراجعة خطط الانسحاب من سوريا، التي سبق إعدادها؛ تمهيدًا لاختيار الأنسب منها لبدء التنفيذ، وانتهاءً بالصمت الأميركي المطبق تجاه تصعيد القوات التركية عملياتها العسكرية في مناطق شمال وشرق سوريا، ردًا على هجمات متعددة قامت بها عناصر من حزب العمال الكردستاني ضد قواتها في شمال العراق، مما أسفر عن مقتل عدد منهم.
وهي العمليات التي تستهدفُ مواقع محددة لـ”قسد”، كمستودعات الأسلحة والمعسكرات التدريبية، والبنية التحتية لمقارّها الإدارية والمالية، وحقول النفط ومصافي التكرير، في المساحة الجغرافية الواقعة بين المالكية في أقصى الشمال الشرقي، وصولًا إلى مدينة تل رفعت في ريف حلب الشرقي؛ بهدف تجفيف كافة مصادر تمويل حزب العمال الكردستاني في سوريا، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والمتمثلة في حقول النفط والغاز بالمنطقة، التي تضم 95% من احتياطات النفط والغاز السوريين.
الاحتماء بالعباءة الروسية
حالة القلق التي انتابت حلفاء واشنطن من الأكراد دفعتهم لمطالبتها برفض إتمام صفقة طائرات “إف -16″، لاحتمالية قيام أنقرة باستخدامها ضدهم، والعمل على كبح جماح تركيا لوقف هجماتها على مواقعهم، إلا أن الرد بالرفض الذي تلقوه، ومحاولات طمأنتهم وتبديد مخاوفهم، زاد من شكوكهم حول إمكانية أن يكون مصيرهم نفس مصير حلفاء الولايات المتحدة من الأفغان، الذين تخلت عنهم إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2019 بصورة مفاجئة، ودون أي تخطيط مسبق، مما تسبب في حالة من الاضطراب والذعر.
خشية الأكراد من أن يتركوا بمفردهم ليصبحوا لقمة سائغة في أفواه الأتراك والإيرانيين الذين لن يتوانوا عن التقدم لدحرهم وإخراجهم من المنطقة، دفعت قادتهم للاجتماع سرًا مع قيادات روسيا في المنطقة، وبمشاركة مندوبين عن الأسد، وعناصر من قوات الحرس الثوري الإيراني الموجودين في تل رفعت بريف دمشق، وفق ما أوردته صحيفة “يني شفق” التركية، التي أكدت أنه تم الاتفاق بين الأطراف المجتمعة على عدد من الأمور الهامة.
اتفاق كردي – روسي
تشير في مجملها إلى موافقة الأكراد على الدخول تحت العباءة الروسية، والتعاون مع قوات الأسد، مثل:
1 – تشكيل نقاط مشتركة في المنطقة الواقعة تحت سيطرة قوات الحرس الثوري الإيراني
.2 – ضمان عدم دخول قوات الجيش العربي السوري إلى منطقة الشهباء بحلب، وهي المنطقة الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
3 – ضبط تحركات عناصر قسد بالمنطقة، وتحجيمها، وإبلاغ القوات الروسية عنها أولًا بأول.
4 – تقديم جميع المعلومات حول عمليات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المستقبلية التي تستهدف بها القوات التركية في المنطقة.
وهي التحرّكات التي أصبحت تشير بوضوح إلى أن قيادات قوات سوريا الديمقراطية تبحثُ عن حليف جديد يرعاها، ويضمن لها البقاء ضمن الأطراف الفاعلة في المنطقة، حتى لا تخرج صفر اليدين، بعد أن أصبحت على يقين بأنّ الولايات المتحدة الأميركية عازمة بالفعل على الانسحاب من سوريا، وإنها بصدد تحديد الموعد المناسب للقيام بهذه الخطوة؛ بهدف تحقيق مصالحها الخاصة، والتي من ضمنها إعادة زخم علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا إلى سابق عهدها، حتى وإن كان هذا يعني التضحية بهم كحلفاء لها.
ليتحول التساؤُل الذي يجب أن يُطرح الآن للنقاش: هل ستغادر القوات الأميركية الأراضي السورية، وإلى متى ستكون هذه المغادرة، وكيف سيكون إعلان تخلّيها عن حلفائها من الأكراد علنًا؟!